عبدالله الرشيد
تأتي كلمة «علماء الحيض والنفاس» في سياق الأوصاف التي يقصد بها الازدراء والانتقاص من العلماء وطلبة العلم المنشغلين بدراسة العلوم الدينية، المنقطعين للبحث والنظر في الأحكام الفقهية، المبتعدين بأنفسهم عن الخوض في شؤون السياسة، أو التفاعل مع الحركات السياسية.
تحاول حركات الإسلام السياسي استمالة هذه الفئة من العلماء الشرعيين إلى أنشطتها، لكن حين يجدون منهم صدوداً أو جفاء، أو ربما مناوءة، تنشط المكينة الإعلامية الحركية ضدهم فتبدأ بإطلاق أوصاف التشويه والانتقاص ضد هذه الفئة التي رفضت الانخراط في نشاط التثوير السياسي، وتصف مكانتهم بأنها لا تعدو أن تكون في منطقة «الحيض والنفاس»، وأنهم منعزلون في زواياهم يعيشون خارج العصر، ولا يفقهون الواقع، وأنهم مطية لأهداف «المستعمر»، وسبب في «خذلان الأمة» – حسب قولهم.
استخدام وصف «علماء الحيض والنفاس» كتعبير للانتقاص والخصومة له أصل مبكر في النصوص التراثية، فقد ورد عند الشاطبي في كتاب الاعتصام قصة في هذا السياق، حيث قال: «تكلم واصل بن عطاء يوماً -وهو من رموز المعتزلة-، فقال عمرو بن عبيد: اسمعوا فما كلام الحسن البصري وابن سيرين والنخعي والشعبي عندما تسمعون إلا خرق حيض مطروحة»، ونقل عن الشاطبي أيضاً قوله: «وروي أن زعيماً من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه، فكان يقول: إن علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة».
لكن استخدام مفردة «علماء حيض ونفساء» كتعبير للانتقاص من العلماء المبتعدين عن السياسة لم يظهر بهذه الصورة إلا في العصر الحديث، وربما يكون أول من استخدم هذا التعبير بغرض التثوير السياسي لطائفة العلماء الدينيين هو الخميني، زعيم الثورة الإيرانية، حين حاول استمالة مجموعة من ملالي النجف في العراق نحو مشروعه الثوري ضد حكم الشاه في إيران، محاولاً إقناعهم بنظريته حول «ولاية الفقيه»، ولما وجد منهم صدوداً وجفاءً، أطلق عليهم وصف «علماء الحيض النفاس».
ورد ذلك في كتابه «الحكومة الإسلامية»، وهو في أصله عبارة عن ثلاث عشرة محاضرة ألقاها الخميني على طلاب العلوم الدينية في مدينة النجف سنة 1969، مروجاً فيها رأيه حول الحكومة الإسلامية تحت عنوان ولاية الفقيه، وفي محاضراته شن هجوما على علماء الدين الذين رفضوا الخوض في السياسة، مخاطبا جمهوره قائلاً: «لا تسمحوا لضجيج بعض المتغربين والمستسلمين لخدم الاستعمار أن يخيفكم. عرّفوا الناس على الإسلام لكيلا تتصور الأجيال القادمة أن رجال الدين قد جلسوا في زوايا النجف وقم يدرسون أحكام الحيض والنفاس، ولا دخل لهم بالسياسة، وأنه يجب فصل الدين عن السياسة. إن المستعمرين هم الذين أشاعوا هذ المقولة من لزوم فصل الدين عن السياسة، وعدم تدخل علماء الإسلام في الأمور الاجتماعية والسياسية. هذا كلام من لا دين لهم. فهل كانت السياسة يوما منفصلة عن الدين»، وفي موضع آخر يقول: «إن عملاء الأجانب -ولكي يحرفوا المسلمين ومثقفيهم من جيل الشباب عن الإسلام- أخذوا يبثُّون أن الإسلام ليس فيه شيء، وأنه مجموعة من أحكام الحيض والنفاس، وأن على الملالي (رجال الدين) أن يدرسوا الحيض والنفاس».
يحاول الخميني هنا أن يربط العلماء الرافضين لمشروعه السياسي بأهداف المستعمر، مقررا أن اشتغالهم العلمي، وابتعادهم عن السياسة، وانقطاعهم للبحث والقراءة والتحليل والنظر والتحقيق الشرعي هو خذلان للأمة، وخدمة لمشروع التغريب! هذا المشروع الذي يريد سلب الإسلام من خاصيته الثورية، كما يقول في أحد مواضع كتابه: «إن هذا التصور الخاطئ عن الإسلام الذي يلقي في أذهان عامة الناس، والشكل الناقص الذي يعرض فيه الإسلام في الحوزات العلمية هدفه سلب الخاصية الثورية والحياتية للإسلام، ومنع المسلمين من السعي للقيام والتحرك والثورة، ومن أن يكونوا متحررين وساعين لتطبيق الأحكام الإسلامية، ومن أن يؤسسوا حكومة تؤمن سعادتهم ويكوّنوا الحياة اللائقة بالإنسان. فكانوا يشيعون مثلاً أن الإسلام ليس ديناً جامعاً، فهو ليس دين حياة، وليس فيه أنظمة وقوانين للمجتمع، ولم يأت بنظام وقوانين للحكم، الإسلام أحكام حيض ونفاس فحسب، وفيه بعض التوجيهات الأخلاقية أيضاً، لكن ليس فيه شيء مما يرتبط بالحياة وإدارة المجتمع. ومن المؤسف أن دعاياتهم السيئة هذه قد أثَّرت».
هذه النظرة تجاه رجال الدين المبتعدين عن السياسة كانت موجودة في مؤلفات المنظر الإخواني الأبرز سيد قطب، حيث قسم الفقهاء إلى قسمين: (فقهاء الحركة، وفقهاء الورق)، وبالطبع فقهاء الحركة هم الذين فهموا الإسلام على حقيقته، وهم الأكثر حكمة ورجاحة عقل، أما فقهاء الورق فهم عالة على الأمة مضيعة للوقت يعيشون خارج الزمان -حسب قوله- كما ورد في تفسير الظلال، من سورة الحجر، يقول: «إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ويواجهون به ما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى.. هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية.. وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه. وهم وحدهم الذين يملكون استنباط (فقه الحركة) الذي لا يغني عنه (فقه الأوراق)، في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة!»، يكمل: «وبمناسبة هذه الإشارة إلى فقه الحركة نحب أن نقرر أن الفقه المطلوب استنباطه في هذه الفترة الحاضرة هو الفقه اللازم لحركة ناشئة في مواجهة الجاهلية الشاملة. حركة تهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى الإسلام».
يرى سيد قطب أن الفقه الحركي هو الفقه الذي تحتاج إليه الأمة اليوم، أما الفقه الشرعي (التقليدي) فهذا ليس أوانه، بحكم نظرته للمجتمعات الإسلامية، «لأنه لا يوجد اليوم مجتمع مسلم على وجه الأرض حتى اليوم» -في نظره-، يقول: «هذا النوع من الفقه هو الذي تحتاج إليه الحركة الإسلامية الوليدة.. أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة، وشرائع المجتمع المنظم المستقر، فهذا ليس أوانه لأنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي! هذا النوع من الفقه يأتي في حينه وتفصل أحكامه على قد المجتمع المسلم حين يوجد ويواجه الظروف الواقعية التي تكون محيطة بذلك المجتمع يومذاك!».
بدأت تتسلل هذه المفاهيم بين أوساط بعض الشباب وطلاب العلم، انجذب بعضهم نحو إغراء النشاط السياسي، وتسبب رواج هذه الأفكار في إحباط حماسة البعض نحو طلب العلم وملازمة الدروس الشرعية ذات المحتوى العلمي الرصين، في مقابل ذلك ازدهر نمط «المحاضرة» ذات المحتوى العلمي الهزيل، الذي يقوم في مجمله على أحاديث انشائية، وتجميع قصص وأخبار، وتحليلات سياسية تحت مسمى (فقه الواقع).
في سؤال وجه للشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- في لقاء الباب المفتوح (الشريط رقم 74)، سائل يقول: ما رأيك يا شيخ في بعض الشباب وطلبة العلم ممن يحقر بعض العلماء حين تطلب منه الرجوع إليهم في الخلاف، فيقول هؤلاء علماء حيض ونفاس، لا يفقهون الواقع، فما نصيحتك لهم؟
رد الشيخ على هذا السؤال قائلا: «إن على المسلم أن يحفظ لسانه ولا يسخر من غيره، فاللسان أخطر ما يكون على الإنسان.. والعالم بأحكام الحيض والنفاس هو عالم بحد من حدود الشريعة فلا يجوز انتقاصه».
مما سبق يتبين أن غاية حركات التثوير السياسي هو تجييش وتجنيد كافة الفئات الاجتماعية، خصوصاً ممن لهم دور مؤثر، وصوت مسموع داخل المجتمع، حتى تستعين بهم في تحقيق أهدافها، وتستخدمهم كأداة فاعلة في إذكاء حركة التثوير والتسييس، لا سيما إذا كانت الحركة السياسية ذات صبغة دينية إسلامية، فإن أهم فئة تسعى لاستمالتها هم العلماء الشرعيون، نظراً لاشتراكهم في ذات الحقل الديني، إضافة إلى دورهم المؤثر في إضفاء المشروعية على الحركة السياسية في حال انضمامهم لها، لذلك يسعون بكل السبل استمالتهم لأهداف الحركة، لكن حين يفشلون في ذلك فإن الطريق الآخر هو تشويههم والانتقاص من مكانتهم، وإلصاق كافة الأوصاف التي تحط من شأنهم حتى لا يشكلوا خطراً على أنشطتهم وجماهيرهم.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن حركات التثوير السياسي تقوم على منظور مختلف في نظرتها للأمور، فهي تسعى للانخراط في كافة المجالات المتعددة في العلوم والفنون والتجارة والتطوع وغيرها ليس لذاتها، وإنما لتوظيفها من أجل صالح الحركة السياسية،
فالعلم ليس للعلم، وإنما من أجل التأثير والتغيير السياسي، والفن ليس للفن، وإنما الفن من أجل تحقيق رسالة سياسية، وهكذا.. لذلك فإن مفهوم «العلم البحت» يكاد يكون أمراً خارج نطاق المفكر أو المهتم فيه، بل ينظرون إلى من ينخرطون في العلم لأجل العلم نظرة مخلوطة بالشفقة والانتقاص وربما الأسى.
وهذا ما يفسر ضعف الإنتاج العلمي الرصين من داخل أبناء الحركات الإسلامية، وغياب التحقيقات التراثية الكبيرة، أو الإسهامات العلمية المهمة المقدمة للمكتبة العربية، نظراً لأن السياسة والنشاط الحركي هو الغاية والأساس وما عداه هي وسائل لا أكثر ولا أقل، الأمر الذي يفسر كثرة المؤلفات الإنشائية، والمنتجات الوعظية، ومطويات الدعايات الحماسية بين أبناء الحركة.
مؤسسة العلماء منذ القدم، في مراحل التاريخ الإسلامي كانت مؤسسة لها طقوسها وأخلاقها، وأعرافها، كان العلم والبحث عن الحقيقة غاية أصيلة قائمة بذاتها، لا يجد طالب العلم حرجاً من أن يقطع مئات الأميال بحثا عن سند أقوى لحديث أو أثر، ولا يجد العالم أدنى غضاضة أن يسهر الليالي الطوال يحقق في مسألة فقهية، ولا يثني عزمه شيء أن يقرر كتابة تاريخ الأسلاف الماضية، أو يقضي جل عمره في رصد أحوال الأمم الغابرة، ولم يكن هذا الانقطاع والانعزال والتبتل للعلم سبة أو منقصة، بل هذه الروح بعنفوانها ساهمت في ازدهار الحضارة الإسلامية، وتقدمها في كافة المجالات العلمية، وتحقيقها أزهى مراحلها الذهبية.
والمفارقة هنا أن كلمة «علماء الحيض والنفاس» التي تعني في أصلها انتقاص رجال الدين المبتعدين عن السياسة قد ابتلعها بعض الكتاب المحسوبين على الاتجاه الليبرالي -الذين يطالبون دوما بفصل الدين عن السياسة-، فأخذوا يطلقون هذا الوصف تجاه العلماء التقليديين لانتقاد الانغلاق الفقهي، دون وعي منهم بأصل هذه الكلمة ومنشأها الحركي!
*نقلا عن صحيفة “عكاظ”.