سالم اليامي
لو لم ينجب المسيحيون العرب لأمتهم العربية سوى الأدباء العباقرة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة والفنانة العظيمة فيروز.. لكفى، ناهيك عن الكثير من المبدعين في مختلف المجالات و الشرفاء الذين دافعوا عن حرية وكرامة أمتهم.
أعتقد أنني قرأت معظم كتب جبران وميخائيل نعيمة وربما كلها.. وسمعت جميع أغاني فيروز، ولم أشبع نهمي للقراءة وأنا أنهل من نهرين عظيمين يتدفقان إلى عقل القاريء وروحه دون أن يفيض العقل بعطاءهما أو تضيق الروح وهي تحلق في أجواءهما بخفة ورشاقة.
و لم أشبع ذائقة سمعي كلما إستمعت الى فيروز التي يتسلل صوتها العذب الى حاسة السمع كإنسياب الجدول في حقل يحتفل بشدو العصافير واستيقاظ الزهور لحظة بزوغ أشعة الشمس.
عشقت فكر وأدب هذين العبقريين اللذين ترجمت أعمالهما الى العديد من اللغات العالمية ويكفي العاشق للأدب أن يقرأ كتاب “النبي” لجبران خليل جبران ، وكتاب “الأرقش” لميخائيل نعيمة ، ليتعرف على عبقرية كل منهما.
كان جبران ونعيمة عضوين في رابطة المهجر في أمريكا ومعهما الشاعر الجميل إيليا أبو ماضي والريحاني وآخرون، بل وكانا ضمن المؤسسين لتلك الرابطة التي وصل صداها وأثرها الأدبي والفكري الكبير الى أصقاع الأقطار العربية والعالمية قبل ثورة الانترنت ووسائل الاتصال بعقود طويلة.
وكانت فيروز تطرب الذائقة العربية بفن موسيقي مميز أبدعته المدرسة الرحبانية الفيروزية غناء ولحنا وكلمات. وأحدث ذلك الفن الفيروزي الرحباني ثورة في ثقافة العرب الموسيقية الغنائية كأرقى أنواع الثورات
التي تحلق بروح الانسان وذوقه الى عالم بديع.
غنت لجبران:
أعطني الناي وغنِّ فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
لتؤكد أن الفن رسالة.. عندما يتولاه العباقرة وليس المحرجون!
في ثمانينات القرن العشرين، تفاجأ معلمنا الأمريكي (المستر لاري) عندما تقدمت الى المايكرفون في حفل تخرجنا لأخاطب زملائي بكل عفوية ودون تخطيط مسبق متحدثا اليهم بعبارات إجتهدت في ترجمتها للعبقري جبران خليل جبران تلك التي تقول: إسأل نفسك ماذا قدمت لوطنك.. ولا تسأل وطنك ماذا قدم لك.
وكان السيد لاري يقرأ لجبران ويعتقد أنه أمريكي، وتفاجأ بمعرفتي له حين سألني عن معرفتي بجبران وفي ظن لاري أن جبران امريكي، وأن العبارة كما يظن الكثيرون من العرب للأسف.. هي للرئيس الامريكي الراحل جون كنيدي. ولا يعرفون أن قائل العبارة هو العربي جبران خليل جبران وليس الرئيس الامريكي الذي إقتبسها من جبران حسب علمي.
لكن الشعوب العظيمة لا يهمها جنس ودين وعرق المبدع. وقد قام الرئيس الأمريكي جوج بوش الأب في التسعينات بتدشين حديقة في واشنطن تحمل إسم جبران خليل جبران وتكريما لإبداعاته العالمية وتم كتابة الكثير من عباراته الشهيرة في مختلف أركان الحديقة.
وأذكر أنني وزميل لي زرنا متحفا للشمع في مدينة صغيرة تابعة لولاية اركانسس ووجدنا تمثالا من الشمع لجبران في تلك المدينة الصغيرة قبل أن يدشن الرئيس بوش حديقة له في واشنطن. بينما لم يتم تكريم العباقرة جبران وميخائيل نعيمة في بلدانهم العربية بما يليق بهما كأفضل من أبدع بلغته العربية وخدماها بأعظم الأعمال الأدبية التي ترجمت الى لغات عديدة في زمن لا يعرف العالم عن العرب سوى أنهم رعاة إبل وغنم.
كلاهما عاشقان وداعيتان للحرية، ولم يكن أي منهما طائفي أو عنصري، لأن روحيهما أكبر وأسمى من أن تتلوث في المستنقعات الموبوءة، ويحار المرء أن يميز إنتماءهما الديني وهو يقرأ تلك الإبداعات الأدبية القيمة.
يقول جبران: لو جردنا الأديان من تلك الخرافات والخزعبلات التي أضافها المؤدلجون إليها لغايات دنيوية لخرجنا بدين واحد.
ويدافع نعيمة عن لغته العربية متغزلا في جزالة معانيها، ويدعو الإنسان بشكل لافت الى التخيل.. قائلا عبارته الشهيرة: تخيلوا.. فإنكم لو تخيلتم لأصبح لكل منكم.. إلهامه !
مات جبران في أمريكا ولم يدفن في مسقط رأسه بشري، وعاد ميخائيل في سن الثمانين الى بيروت ليموت في وطنه ولا أدري إن تم دفنه في بسكنتا أم في بيروت. وكلاهما عشقا وطنهما لبنان ولغتهما العربية وأمتهما التي ذهبا بعيدا عنها وهي تحارب ، وماتا.. ثم عادت بعدهما تتحارب.
وصمتت فيروز عن الغناء الجميل.. لتمنح لصوت الرصاص حرية الغناء القبيح بدلا من صوتها العذب الذي يسرق النفس صوب المروج الخضراء كي تطرب بعيدا عن الصخب حينما يداهم النفس المتعبة.
لكن عالم فيروز العربي..الذي أصبح صاخبا بأزيز المجنزرات.. وملوثا بروائح الجماجم المقطوعة بسيوف المقاتلين من أجل الاستبداد والعبودية لم يصمت عن الغناء بصوت فيروز الجميل وحسب، بل وصمت عن قول الكلمة المشعة التي تنير الظلمة وقد أحكمت تلك الظلمة اقفالها على العقل العربي بمسيحييه ومسلميه… ليتحول هذا العالم الى عالم طوائف متناحرة من أجل إعادة صياغة الاستبداد بوسائل الحضارة الحديثة وبنفس الفكر الظلامي القديم.
ولأن الوسائل الحضارية الحديثة لا تنسجم في أدائها مع الفكر الاستبدادي الظلامي المتخلف، فإن تلك الوسائل الحضارية قد خلعت عن العرب ثوب الفكر الظلامي ليتعري عالم العرب بكل مكوناته المختلفة، ولتصور هذا العربي كمخلوق غير آدمي لا علاقة له بالإنسان العصري في شيء سوى أنه يجيد استخدام الوسائل الحديثة ليس لكي يبدع عملا نهضويا وإنما لكي يعكس أقبح الصور عن الانسان العربي.
والغريب في الأمر.. أنه يتكاثر في هذا العالم العربي المؤيدين لتلك الأعمال البشعة حتى ممن يحسبون أنفسهم كمثقفين ومستنيرين وعلماء دين يتكلمون بإسم الله، كبرهان حقيقي على إنهزام هذا العقل العربي أمام أشعة الحضارة بسبب عدم قدرته على النهوض من جهله وتخلفه ورقدته الطويلة.
والعقل لا ينهزم ولا يغفو إلا في واقع تنحدر فيه القيم الأخلاقية العظيمة التي تقدسها كل الديانات والفلسفات والشعوب المتحررة من خرافاتها ومشعوذيها وطغاتها.
بل أن الأكثر غرابة في عالم العرب: أنه كلما لاح لهم أمل في التحرر.. نصبوا المشعوذين والجزارين واللصوص قادة عليهم ولبسوهم ثيابا دينية ليتكلموا بإسم الله… بينما كل ثورات الشعوب الحرة قامت من أجل طرد المشعوذين من فكر الناس قبل كل شيء.
تذكرت جبران وميخائيل وفيروز هذا اليوم، عندما سألني عربي مسيحي قابلته في أحد أسواق المدينة الأمريكية وقال: مبروك عليكم هدم الكنائس والآثار المسيحية في الموصل؟!
رددت عليه والعبرة تكاد أن تخنقني: وهل تعتقد أنني راض عن ذلك العبث القبيح؟!
أنا يا سيدي.. إنسان احترم كل آثار ومقدسات الآخرين ايا يكون دينهم وفكرهم وإتجاههم.. ويؤلمني مثلما يؤلمك أن يحدث ذلك في القرن الواحد والعشرين ليصور أمتنا كأمة متوحشة متخلفة، ويعكس صورا دموية حاقدة لديننا الذي يحثنا على احترام التنوع.
قال لي: ولماذا لايكون ما يحدث من قتل للأبرياء وجز للرقاب وهدم لمعابد الآخرين.. هو حقيقة ما يدعو اليه الاسلام؟!
قلت له: صدقني ماتشاهده من جز الرؤوس وهدم المعابد ونشر الكراهية ليس من الاسلام في شيء.
قال: فماذ يكون إذن؟!
قلت له: هو شيء غريب.. ممنهج لهدف خطير يدمر ما تبقى من هذه الأمة.
قال: لكن المنفذين لذلك المشروع.. عرب.
قلت له: قد يكونوا أعرابا كما وصفهم الدين الاسلامي وليسوا عربا والله عزوجل يقول (الأعراب أشد كفرا ونفاقا ) لأن أي دين لايحترم كرامة الإنسان وآدميته وحريته ليس بدين حق.. والإسلام بريء ممن يدعي الإنتماء إليه ويتحدث بإسمه وهو يرتكب تلك الجرائم القبيحة . ولا يمكن لمؤمن عاقل أن يصدق أن ذلك دينا !
قال: وكيف تقنعني ان الاسلام لايحث على ذلك؟!
قلت له: القرآن الكريم يقول: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
أي أن الله عزوجل.. منح الانسان حتى حرية أن يكفر… فكيف بمن يرتكب تلك الجرائم بإسم الله ويلقى من يؤيده ويفتي له تحت تبرير الدفاع عن الاسلام وقسر الآخر المخالف ليغير نهجه وطريقة عبادته؟!
قال لي: أمتأكد أن القرآن يقول ذلك؟!
ففتحت له المصحف ليقرأ بأم عينه وخالتها وجدتها وبنت عمتها… حينها صرخ بقوة وقال: أجل.. أجل فهمت !
قلت له: ماذا؟!
قال: أعراب مرتزقة.. في أعماقهم عقدة الحضارة !
Salam131@hotmail.com
المصدر ايلاف
xUhYeqg1b1x7
حضارة رمي الذنب واللوم والأقذار على الآخرين لا تتقدّم لأنها لا ترى طريقا للإصلاح. في المقال أعلاه بعض النقاط يجب تصويبها. أولا: المسيحيون الناطقون بالعربية (لأسباب الاحتلال العربي التاريخي) ليسوا عربا، بل هم سريان آراميون ناطقون بالعربية, وهذا يعني أنهم أبناء حضارة أخرى وإنجازاتهم الحضارية من غير المقبول إدراجها ضمن انجازات العرب، كما أن إنجازا هنديا لا يدرج ضمن الإنجازات الانكليزية لمجرد استعماله اللغة الانكليزية. ثانيا: إذا كان الإسلام بريئا من الحروب المرتكبة باسمه فليتنازل المسلمون عن الأراضي التي احتلوها باسم الدين وليعيدوها الى أصحابها ويتركوا لهم حرية القرار باستعمال لغاتهم التاريخية، ابتداءا بالسريان وصولا الى الصين. إن الكنائس المهدومة المذكورة في المقال ليست الأولى ويبدو أنها لن تكون الأخيرة في هذا السياق. الفرق هو أننا نعاصرها بينما لم نعاصر ما قبلها، فحسب بعضنا أن تلك أقل أهمية. المطلوب من العرب والمستعربين والعروبيين أن يعترفوا بوجود شعبنا الآرامي المسيحي السرياني على أراضيه التاريخية وبعد ذلك إعادة الحقوق لشعبنا من قومية وسياسية وثقافية، وإلا فكل هذا الكلام لا يثبت إلا استمرار حرب الإبادة على شعبنا وحضارتنا.
يوسف ساوك
باحث في اللغات الساميّة