بقلم: عضيد جواد الخميسي
كشف التجار الفينيقيون( وهم قوم ديدنهم البحث والتنقيب ) عن ثروة إسبانيا المعدنية ، ولم يمض على هذا الكشف إلا قليل من الوقت حتى كان أسطول من السفن التجارية يمخر عباب البحر الأبيض المتوسط بين صيدا وصور وبيلوس من ناحية و,,طارطوس ,,عند مصب نهر الوادي الكبير من ناحية أخرى . وإذ كانت هذه الأسفار مما يتعذر القيام بها من غير أن تكون فيها محطات كثيرة في الطريق ، وإذ كانت سواحل البحر الأبيض الجنوبية أقصر الطرق وآمنها .
فقد أنشأ الفينيقيون مراكز وسطى ومحطات تجارية على سواحل إفريقيا الشمالية عند ,,لبتس مجنا,, ( ليدة الحالية ),, وهدرومنتم ,, ( سومة ) وبوتيكا ( بوتيك ) وهبوديرهيتس ، وهبورجيوس ( بونة )، بل إنهم عبروا مضيق جبل طارق وأقاموا مركزًا لهم في,, لكسوس ,,( جنوب طنجة ) . وتزوج التجار الذين أقاموا في هذه المراكز من الأهالي ونالو سكوت غيرهم بالمال .
وفي عام 813 ق .م أقامت جماعة جديدة من المستعمرين قد يكونون من فينيقيا، وقد يكونون من,, يتكيا,, التي أخذت وقتئذ في الاتساع ،وأنشأت موطنا لها على نتوء في البحر على بعد 16كبلومتر من مدينة تونس الحالية . وكان الدفاع عن شبه الجزيرة الفينيقية أمراً سهلاً ، وكانت مياه نهر بجرداس ( مجردة ) تروي أرضها وتفيض عليها الخصب والنماء ، ولذلك كانت تعود إلى الازدهار بسرعة بعد ما كان يحل بها من التخريب المتكرر . وتعزو الروايات القديمة إنشاء هذه المدينة إلى,, إليسا ,, أو ديدو ابنة ملك صور ، ويقال إن أخاها قتل زوجها فأبحرت مع طائفة أخرى من المغامرين إلى إفريقيا . وسمي المكان الذي استقرت فيه ,,كارت هدشت ,,( أي المدينة الجديدة) تمييزًا لها عن يتيكا .
وحول الاغريق هذا الاسم إلى كارشدون وبدله الرومان إلى كرثاجو . وأطلق اللاتين اسم إفريقيا على الإقليم المحيط بقرطاج ويتكيا ، كما كان مستوطنيها يسميهم الاغريق (البوني أو الفوني ) أي الفينيقيين . وهاجر كثيرون من أهل صور إلى إفريقيا عقب حصار شلمانصر ، ونبوخذ نصر والإسكندر ، واستقر معظمهم في قرطاج، فأصبحت بسبب هذه الهجرة مركزًا جديدًا للتجارة الفينيقية ، وأخذت قوة قرطاج وعظمتها في الازدياد كلما أخذت صور وصيدا في الاضمحلال .
ولما ازدادت المدينة قوة دفعت أهل إفريقيا الأصليين إلى الداخل شيئاً فشيئاً ، وامتنعت عن أداء الجزية لهم ، بل أرغمتهم على أن يؤدوها هم واستخدمتهم أرقاء وأقناناً في بيوتها ومزارعها . وكانت نتيجة هذا أن نشأت لأهل قرطاج ضياع واسعة كان يعمل في بعضها عشرون ألف رجل ، وأضحت الزراعة عند الفينيقين علماً وصناعة ، وشق الأهالي القنوات فأخصبت الأرض ونشأت فيها جنان عامرة ، وحقول من القمح والكروم ، وبساتين تنتج الزيتون والرمان والكمثرى والكرز والتين . وربوا الخيل والأنعام والضأن والمعز ، واستخدموا الحمير والبغال والفيلة في حمل الأثقال .
أما الصناعات في المدن فلم تزدهر مثلما الزراعة ماعدا صناعة المعادن ؛ ذلك أن القرطاجيين ، كاسلافهم القادمين من صيدا و صور ، كانوا يفضلون أن يتاجروا فيما يصنعه غيرهم ، فكانوا يجوبون البلدان ، يقودون بغالهم شرقًا وغربًا ، ويضربون في قفار الصحراء طلبًا للفيلة والعاج والذهب والعبيد .
وأنهم كانوا أول من أصدر عملة من نوع العملة الورقية على شكل رقائق من الجلد مطبوع عليها ما يدل على قيمتها ويتعامل بها في جميع أنحاء الدولة القرطاجية ، وإن لم يكن من المستطاع تمييز عملتهم المعدنية عن عملة غيرهم من الأمم . والمرجح أن التجار الأثرياء والأشراف ملّاك الاراضي هم الذين قدموا الأموال اللازمة لتجييش الجيوش وإنشاء الأساطيل التي حولت قرطاج من مركز للتجارة إلى إمبراطورية نفوذها على ساحل البحر الأبيض الجنوبي من سيرنيكا إلى جبل طارق والى ما بعد جبل طارق عدا يتكا ،واستولوا على العديد من المدن الاسبانية .
واستغلت قرطاج هذه الإمبراطورية استغلالاً جعلها في القرن الثالث قبل الميلاد أكثر مدن البحر الأبيض المتوسط ثراءاً ، فقد كان يدخلها كل عام من الضرائب الجمركية ومن الخراج قدر ما كان يدخل في خزائن أثينا أيام مجدها عشرين مرة . وكان الاشراف والاقطاع يسكنون القصور ويلبسون الملابس الغالية الثمن ويتطعمون الأطعمة الشهية يأتون بها من خارج بلادهم . وازدحمت المدينة بسكانها البالغ عددهم ربع مليون نسمة واشتهرت بما أقيم فيها من الهياكل الفخمة والحمامات العامة والاحواض الواسعة .
كان القرطاجيون من الجنس السامي وثيقي الصلة باليهود الأقدمين في بشرتهم وفي ملامحهم، وكانت تظهر في لغتهم أحيانًا ألفاظ عبرية ، مثال ذلك أنهم كانوا يسمون القضاة ,,شفيتي,, . وكان الرجال يطلقون لحاهم ولكنهم كان من عادتهم أن يحلقوا شواربهم بشفرات من البرونز . وكان معظمهم يضعون على رؤوسهم قلانس أو عمائم، ويحتذون أحذية أو أخفافاً ، ويلبسون جلابيب طويلة فضفاضة، ولكن الاغنياء منهم يقلدون الاغريق في ملابسهم . أما النساء فكن في الغالب متحجبات يعشن حياة العزلة؛ وكان في وسعهن أن يبلغن مناصب كهنوتية عالية ، أما فيما عدا ذلك فكان عليهن أن يأسرن الرجال بجمالهن .
وكان عامة الناس جميعًا رجالاً كانوا ام نساءا ، يتزينون ويتعطرون ويضعون أحيانًا حلقات معدنية في أنوفهم . ولسنا نعرف إلا القليل عن سلوكهم من غير أعدائهم ، فالكتاب الاغريق والرومان يصفونهم (بالإسراف في الطعام والشراب ، وبأنهم يحبون أن يجتمعوا في الحانات وملاهي الليل، وأنهم إباحيون في علاقاتهم الجنسية فاسدون في شؤونهم السياسية) .
ويتهم,, فلوترخس,, أهل قرطاج بأنهم ( ذوو طباع خشنة ، مكتئبون ، سهولة انقيادهم من لدن حكامهم ، قساة على الشعوب الخاضعة لسلطانهم ، إذا خافوا يكونوا بمنتهى الجبن ، وإذا غضبوا بلغوا منتهى الوحشية ، عنيدون لا يرجعون عن شيء أقروه ، صارمون ، لا يستجيبون إلى دواعي اللهو أو مباهج الحياة) .
ويبدو القرطاجيون في أسوأ صورهم هي في دينهم . لقد كان أسلافهم في فينيقيا يعبدون,, بعل مُلُك وعشتاروت ,, بوصفهما الذكر والأنثى في الارض، وللشمس والقمر في السماء؛ وعبد القرطاجيون إلهين مماثلين لهما وهما ,,بعل هامان ) وثانيت,, . وكانت ثانيت بصفة خاصة تثير حبهم وتقواهم، فكانوا يملؤون هياكلها بالهدايا ويقسمون بأسمها . ويلي هذين الإلهين في التعظيم,, ملكارت ,,“ مفتاح المدينة “ ثم ,,إشمون,, رب الثروة والصحة ، ويأتي من بعد هذا كله حشد كبير من الآلهة الصغيرة ، وكانوا في الأزمات والمصائب يضحون ,,لبعل هامان,, بالأطفال الأحياء، وكان عدد من يضحى بهم لهذا الإله في اليوم الواحد يبلغ أحيانًا ثلاثمائة طفل . وكانت طريقتهم في هذه التضحية أن يضعوا الأطفال فوق ذراعي الصنم المبسوطتين ، ثم يدحرجونهم إلى النار المتقدة أسفل الذراعين، وكان يغطى على صياحهم أصوات الأبواق والدفوف ، ويطلب إلى أمهاتهم أن يشهدن هذا المنظر دون توجع أو بكاء لئلا يتهمن بالكفر ويخسرون رضا الآلهة . وتطورت الأمور بعد ذلك فكان الأغنياء يأبون أن يضحوا بأطفالهم ويشترون بدلاً منهم أطفال الفقراء ، فلما أن حاصر ,,أجثكليز,, مدينة قرطاج خشي الاثرياء من أهل المدينة أن يكون احتيالها وتهربها من واجبها المقدس قد أغضب الآلهة فألقت في النار مائتين من أبناء الأشراف .
كان أهل قرطاج يجتمعون من وقت لاخر في جمعية وطنية من حقها أن تقبل أو ترفض ما يعرضه عليها من الاقتراحات مجلس الشيوخ المكون من ثلاثمائة من أهل المدينة الكبار ، ولا حق لها في مناقشتها أو تعديلها . على أن مجلس الشيوخ نفسه لم يكن يحتم عليه أن يعرض على الجمعية أي مشروع في وسع أعضائه أن يتفقوا عليه . وكان السكان هم الذين يختارون الشيوخ . وكانت الجمعية الوطنية تختار في كل عام قاضيين ليرأسا مجلسي القضاء والإدارة في الدولة . وكان يرأس الهيئات القضائية والإدارية جميعًا محكمة مؤلفة من 104 من القضاة يبقون في مناصبهم مدى الحياة، وإن كان القانون لا يجيز هذا البقاء . وكان من حق هذه المحكمة أن تشرف على جميع فروع الإدارة ، وأن تستدعي كل موظف عمومي بعد انتهاء مدة خدمته لتحاسبه على أعماله ، فقد أصبحت قبيل الحروب البونية هي المسيطرة على جميع الإدارات الحكومية والمشرفة على جميع المواطنين .
وكان مجلس الشيوخ هو الذي يرشح القائد الأعلى للجيش ، على أن تختاره الجمعية من بين المرشحين . وكلن مركزه خيراً من مركز القنصل في روما لأنه كان في وسعه أن يبقى في منصبه طوال المدة التي يرغب مجلس الشيوخ أن يبقى فيه . لكن الرومان قد سيروا على قرطاج جحافل من ملاك الأراضي المخلصين ، على حين أن الجيش القرطاجي كان مؤلفًا من مرتزقة الجند الأجانب معظمهم من اللوبيين الذين لا يظهرون لقرطاج أي شعور وطني، ولا يدينون بالولاء إلا لمن يؤدي إليهم أجورهم ، ولقائدهم في بعض الأحيان . وما من شك في أن الأسطول القرطاجي كان في أيامه أقوى أساطيل العالم على الإطلاق ، فقد كانت خمسمائة سفينة ذات خمسة صفوف من المجدفين ، زاهية الألوان ، سريعة ، ترد المعتدين على مستعمرات قرطاج وأسواقها ومسالكها التجارية . وكان فتح هذا الجيش القرطاجي لصقلية، وإقفال هذا الأسطول حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي في وجه التجارة الرومانية ،
لما دمّر الرومان قرطاج 209 ق.م أهدوا ما وجدوه فيها من المكتبات إلى حلفائهم من أفريقيا . ولكن هذه الكتب لم يبق منها إلا كتاب(( هنو)) الذي سجل فيه رحلته وشذرات من كتاب ,,ماجو,, في الزراعة .
أن طراز مباني قرطاج كان مزيجًا من الطرازين الفينيقي والاغريقي، وأن هياكلها كانت ضخمة مزخرفة ، وأن هيكل ,, بعل هامان ,,وتمثاله كانا مصفحين بألواح من الذهب تقدر قيمتها بألف وزنة ، وأن الاغريق أنفسهم مع ما عرف عنهم من زهو وكبرياء كانوا يعدون قرطاج من أجمل العواصم في العالم كله .
ويحتوي متحف تونس على قطع من توابيت الموتى وجدت في مقابر بالقرب من موقع قرطاج ، أجمل ما فيها كانت صورة منقوشة واضحة المعالم ، لعلها صورة ثانيت ،اغريقية الملامح في جوهرها . وثمة تماثيل صغيرة استخرجت من القبور القرطاجية ومن جزر,, البليار,,، ولكنها كانت فجة خالية التعبير ، وكثيرًا منها كانت بشعة لا تطيق العين رؤيتها كأنها صنعت لإرهاب الأطفال أو طرد الشياطين . أما ما بقي من الخزف فيدل على أن هذا الفن كان يقصد إلى النفع لا إلى الجمال الفني ، ولكننا نعرف أن الصناع القرطاجيين مهرة في صناعة المنسوجات ، والحلي ، والنقش على العاج والأبنوس والكهرمان والزجاج .
الصراع المرير الذي دام نحو مائة عام والمعروف بأسم الحروب البونية الثلاث 246 ق.م . وانتهت هذه الحروب بهزيمة قرطاج وسقوطها.في 146 ق.م .
المصادر
—–
ديفيد سورين ــ كشف اسرار قرطاج ــ نيويورك ــ 1990.
ماريا يوجينيا أوبيت ــ الفينيقيون والغرب ــ كامبريدج ــ 1987.
كوليت شارل بيكار ــ هانيبال ـــ باريس ــ 1958.
توني باث ـــ حملات هانيبال ـــ نيويورك ــ 1981.
عز الدين الجندي ـــ قرطاج ــ دار غاليمارـ باريس.1993.