محمد خليفة : التيار الشعبي الحر
لو سألني سائل : من تعتقد هو الملهم السياسي الأهم لحافظ الأسد من زعماء عصره لأجبت فورا : كيم ايل سونغ الزعيم الشيوعي الذي أسس نظام كوريا الشمالية وجد الرئيس الأحمق الحالي . اجابتي مبنية على ما سمعته وشاهدته من الأسد نفسه في شريط فيديو قدمه لي ذات يوم من 1982 مسؤول ليبي وقال لي : خذ هذين الشريطين وتفرج عليهما فهما مفيدان , وستشكرني عليهما حتما . عندما أدرت الشريط وجدت فيه تسجيلا حيا لجلسة محادثات ما سمي عام 1980 الوحدة السورية – الليبية .
وكان حاضرا في المحادثات الرئيس الاسد ووفد ضم زهير مشارقة وعبد الرؤوف الكسم وعبدالحليم خدام وآخرين , بينما ضم الوفد الليبي اضافة للقذافي عبد السلام جلود والخويلدي الحميدي وعمر .. خلال ست ساعات كان الأسد وحده المتكلم وبقية وفده سكوت كالتماثيل , بينما الوفد الليبي على العكس , القذافي صامت يحلق بنظراته في سماء القاعة وأعضاء الوفد يشاركون في الكلام بارتياح وبلا ترتيب . في اثناء الحديث تطرق الرئيس السوري إلى تقسيم الكوريتين , وتجربة كوريا الشمالية في التنمية بمنهجية قومية تفترض حتمية اعادة توحيد الشطرين , واعتبر الأسد ذلك مثالا فذا على الإيمان القوي بالوحدة , ثم ساق الحديث مستطردا إلى تجربة كوريا وعظمة زعيمها كيم ايل سونغ , وبقي الاسد ساعتين يتحدث عن سونغ ( الزعيم المحبوب من اربعين مليون كوري – كما كان يقال في عصره – !) ويستطيع اي مشاهد للشريط أن يلاحظ انبهار الاسد بشخصية الديكتاتور الكوري واعتباره المثل والنموذج والقدوة في طريقة حكمه وتنميته وقيادته ونضاله ضد الامبريالية .. يستطيع المشاهد ملاحظة ذلك من خلال لهجته وتعابير وجهه واستفاضته الطويلة المملة والاشادة الكهنوتية بشخصية سونغ .
الاسد زار بيونغ يانغ في مطلع عهده , ويبدو انه عاد بذلك الانبهار والوله المفرط بديكتاتور يحكم بلاده كما يدير طبيب ستاليني مستشفى للأمراض العقلية , لا مجال فيه لأي علاقات ندية أو انسانية طبيعية , ولا مكان فيه لغير الأوامر الفوقية الصارمة , حتى أننا لم نسمع خلال نصف قرن بأي اسم آخر في ذلك البلد النائي , لا في السياسة ولا في الثقافة , ولا في الرياضة ولا في الفن وكأنه لا وجود إلا للرئيس – الإله . ويبدو لي أن الأسد عاد من كوريا مسحورا بفكرة التوريث , أو أنه ذهب إلى أقصى الشرق ليتعلم كيف يمكنه تقمص فكرة ملكية قروسطية في هيكل دولة جمهورية , شيوعية , حزبية استعدادا لاستنساخها في سوريا. ويبدو ان العلاقات الممتازة التي نشأت بين كوريا وسوريا في عهدي الأسرتين الديكتاتوريتين لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه من الدارسين والمحللين حتى الآن . وتكفي الإشارة إلى أن كوريا كانت أحد الموردين الأساسيين للسلاح المتقدم الى سوريا , وكان خبراؤها في مقدم من بنى المنشأة النووية في شرق سوريا قبل تدميرها عام 2007 من اسرائيل .
والعلاقات بين الدول لا تكون واضحة دائما للعيان كما قال لي ذات مرة خبير سويدي في العلاقات الدولية . كوريا الوراثية التي يقودها اليوم حاكم شاب يتسم بالطيش وقلة الخبرة والتهور .. تشبه سوريا التي يقودها شاب اكثر حمقا وغباء ووحشية وسادية , وكلا الشابين يمارس السياسة والحكم كما لو انه يمارس لعبة أتاري , يترجم بها اوهام القوة والتفرد والعبث التي تملأ خياله.
كوريا واحدة من حلقات الدول المارقة , مجموعة الشر في هذا العصر : روسيا , الصين , إيران , سوريا . تحكمها أنظمة فردية أو عصابات فاسدة غير ديمقراطية تحارب عقارب الزمن ورياح التطور لتبقى حاكمة تستأثر بالسلطة والرفاه على حساب شعوبها , حتى وإن كان الأمر طبعا يتفاوت من دولة إلى أخرى بين المجموعة .
ولا يخفى على أحد من المراقبين المحترفين ان الأزمة الحالية التي أشعلها الولد الكوري الشقي معدة ومنسقة مع الدول الأخرى , وخاصة الصين وروسيا لأسباب وأهداف تتجاوز الحسابات المحلية والداخلية للزمرة الحاكمة في بيونغ ويانغ المتمتعة بأعلى درجات الرفاهية في بلد يعاني شعبه الجوع والفقر والمرض . أزمة يحاول فرسانها وضع العالم على حافة هاوية , أو بركان نووي لابتزار العالم الغربي , وانتزاع تنازلات جديدة منه . كوريا تريد مزيدا من المعونات لشعبها المعوز , والصين تريد اظهار قوتها النامية كمنافس قوي للاعبين الدوليين في منطقة حيوية حساسة وتعتبر المنطقة ذات الأولوية الاستراتيجية للأمبرطورية الأمريكية على مستوى الكوكب كله . والروس يريدون العودة لاقتسام مناطق النفوذ القارية والدولية وفق القواعد التي حكمت دورهم وحصصهم في العهد السوفياتي والحرب الباردة مع الغرب , والإيرانيون لاعب حاضر في الظل في هذه الأزمة , فهو أحد الممولين بسخاء لكل من يوتر الأجواء الدولية حاليا بهدف تخفيف الضغط الكثيف المركز عليه من الغرب , لا سيما بعد فشل محادثات الفرصة الأخيرة التي تزامنت مع الأزمة في آلما آتا . والدول الأربعة تسعى لتذكير واشنطن بعواقب تدخلها العسكري في سوريا … وتريد الضغط عليها لتنضم إلى صفها في معالجة الأزمة السورية . الروس هم المايسترو السياسي في الأزمة , والصين هي الممسك بأزرار السلاح الكوري , والإيرانيون الممول الرئيسي , ونظام بشار الأسد هو المستفيد الاول منها .
في العامين الأخيرين كان العبء الدولي في الدفاع عن نظام الأسد تتحمله موسكو . أما لعبة التهديدات الكورية الحالية فيمكن اعتبارها المساهمة الصينية في العبء , والحصة الكورية في مساعدة الحليف السوري الذي اقتدى خلال اربعين سنة بالنموذج الكوري / الكيم إيل سونغ .
العبرة الرئيسية من هذه الحادثة أنه لا يجوز الاستهانة مطلقا بقوة وخطورة المحور الشرير في السياسة الدولية . وفي رأيي المتواضع أن المسؤولية الكبرى تقع فيها على عاتق الرئيس الأمريكي الإنعزالي الضعيف المتردد باراك أوباما , فلولا تردده وتركه الساحة الدولية مفتوحة للروس والصينيين واللاعبين الصغار مثل إيران , لما تجرأت بيونغ يانغ , وحاكمها الصغير على الاقدام على مغامرة بهذا الحجم . إن أي عوارض ضعف في سلوك الولايات المتحدة يغري المنافسين والطامعين واللاعبين الصغار المتربصين … وهذا ما يجري الان .. والله يستر حتى نهاية ولاية أوباما !!