عرض عادل حبه
صدر مؤخراً في مدينة سانت بطرسبورغ، العاصمة الشمالية لروسيا الاتحادية، كتاب باللغة العربية بقلم الفقيد رشيد رشدي بعنوان “منعطفات خطيرة في تاريخ الشعب العراقي – اطلالة تاريخية”. وتصدرت الكتاب مقدمة بقلم الدكتور نمير العاني. إن هذا المؤلف ما هو إلاّ إطلالة للكاتب الفقيد عبّاس علي هبّالة ( رشيد رشدي) على أحداث عاشها أثناء انخراطه في النشاط السياسي في العراق وفي صفوف الحزب الشيوعي العراقي منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي وحتى رحيله في روسيا عام 2011. ويُلقي الكاتب في هذا المؤلف أضواءاً على محطات تاريخية مهمة من تاريخ العراق، ويعرض وجهات نظره حول العديد من الأحداث البارزة في العراق والأحداث العالمية التي لها صلة بحاضر العراق ومستقبله. كما يركز الكاتب في مؤلفه على أحداث خطيرة عايشها في العراق، ومن أبرزها محاولة الانقلاب التي أقدم عليها عبد الوهاب الشواف في آذار عام 1959 في مدينة الموصل للإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم.
الفقيد عبّاس علي هبّالة ( رشيد رشدي)
1932 – 2011
يورد الدكتور نمير العاني في المقدمة المنشورة في صدر الكتاب نبذة من حياة الكاتب وسيرته السياسية و “تجواله” في سجون ومنافي العهد الملكي وما بعدها، وكان آخرها في سجن عبد الوهاب الشواف في الموصل اثناء العصيان في آذار عام 1959 ، حيث اطلق سراحه مع مجموعة من المعتقلين في الثكنة الحجرية في الموصل، ونجوا من موت محقق على يد الانقلابيين بمبادرة مجموعة من الجنود موالية للجمهورية حيث ” دخل المهاجمون من جنود وضباط صف كتيبة الهندسة الى الثكنة الحجرية من جهة النهر بقيادة رئيس العرفاء الشجاع حرز شموط واربكوا محمود عزيز وزمرته وكانوا يهتفون عاش الأحرار ..عاش الأحرار”. وأضطر الفقيد بعدها إلى الهرب خارج العراق بسبب شروع سلطة عبد الكريم قاسم بملاحقته وللكثير ممن شاركوا في التصدي لمؤامرة الشواف بعد الانعطافة في سياسة عبد الكريم قاسم في صيف عام 1959. وحط المقام بالفقيد في الاتحاد السوفييتي، وبقي في روسيا الاتحادية حتى وافاه الأجل في العاصمة موسكو في عام 2011. ويشير الدكتور نمير العاني في تقديمه للكتاب إلى انطباعاته عن شخصية الكاتب ويقول:” لقد عاش الرفيق عباس علي هبّالة حياة عفيفة زاهدة، إلاّ أنها كانت في الوقت نفسه مفعمة بحب الوطن والايمان بمبادئ الحزب وانتصار الاشتراكية”. ويبدي الدكتور نمير العاني انطباعاته عن الكتاب ويقول:”…إنه أقرب إلى سرد بعض وقائع هذا التاريخ، مقرونة بانطباعات الكاتب عما عايشه، منها مع محاولات محدودة هنا وهناك لتحليل جزء من هذه الوقائع بغية الوقوف عند أسبابها وما أدت إليه من نتائج..”.
ويشارك الفنان عبدالله حبه أنطباعات الدكتور نمير العاني عند الحديث عن شخصية الفقيد عباس علي هبالة. ففي الرثاء الذي نشره عبدالله حبه اثر وفاة هذا المناضل في عام 2011، اشار إلى : “ان من أكبر خصال عباس هبّاله هو الوفاء والاخلاص والصدق مع الآخرين، وقد تجلى ذلك في تعلقه حتى الوفاة بقضية حزبه. وكان يؤمن بان الخيار الاشتراكي هو الصحيح بالنسبة الى وطنه، وبأن سياسة الحزب يجب ان تتواصل وان مستقبل العراق يرتبط بنشاط الحزب الشيوعي دون غيره من القوى السياسية في البلاد. ان تمسك عباس بحزبه حتى النفس الاخير ظاهرة فريدة في زماننا حيث انتقل بعض الرموز المعروفة فور انتكاسة الحركة الشيوعية العالمية إلى التشنيع بهذا الحزب وقياداته والتركيز على اخطاء الماضي وهي كثيرة. وقد أصيب عباس بالاحباط لدى سقوط المعسكر الاشتراكي وزوال الاتحاد السوفيتي وكان يردد ان الاشتراكية ستعود لأن المشكلة الرئيسية في المجتمع الانساني اي ازالة الفقر واحلال العدالة الاجتماعية لن تحل في ظروف الرأسمالية ابدا. والاشتراكية الحقيقية وحدها قادرة على حلها”.
يقع الكتاب في 328 صفحة، ويتضمن أضافة إلى المقدمة 39 فصلاً. وغطّى الكتاب منعطفات تاريخية في تاريخ وادي الرافدين ليلقي الكاتب الضوء على انتقال العراق من هيمنة الاستبداد الشرقي في ظل السيطرة العثمانية إلى هيمنة الاستعمار الغربي بعد احتلال بريطانيا للعراق، وما أعقبه من ثورة الشعب في العشرين من القرن الماضي التي انتهت باستيراد ملك للعراق. كما يعرج الكاتب على أحداث كبرى كثورة 14 تموز عام 1958 وانتكاستها، ويختتم الكتاب بمعاناة العراقيين بعد اسقاط النظام على يد القوات الأمريكية الغازية في عام 2003. وتحتل مدينة أم الربيعين – الموصل الحدباء مكانة خاصة لدى “فتى سوق الشعارين” في كتابه، باعتبارها مسقط رأسه والحاضرة العراقية التي ترعرع فيها ونهل من ثقافتها وعاداتها وأبداعات مثقفيها وفنانيها ورموز التنوير فيها، والبيئة التي بلورت شخصيته وخياراته، والتي عمل فيها مع والده وأخوانه الكسبة في دكاكين القصابين .
وعند الحديث عن أم الربيعين يشير الكاتب إلى ما يلي :”وقد صوّر كثير من الكتاب والمؤرخين سكان مدينة الموصل فأضفوا عليهم طابع العصبية والانغلاق القومي والتقوقع في الطابع الاقليمي والانعزالية والافراط في التدين وصولاً إلى البخل!… غير أن سكان الموصل، مثل غيرهم من سكان الحواضر العراقية يمتازون بقدر كبير من التسامح وطيبة المعشر والوطنية الجياشة. علماً أن التاريخ قد خص كل مدينة عراقية بصفات وتقاليد اجتماعية معينة لا تخرج بمجموعها عن الطابع العراقي الأصيل الذي يميز سكان العراق ككل، بالكرم وحسن الضيافة ومساعدة الضعيف ومفردات المروءة والشرف والكرامة والتسامح الديني والطائفي والأثني. يعيش في الموصل منذ غابر الزمن العرب والكرد ومسلمون ومسيحيون وكلدوآشوريون وتركمان وسنة وشيعة….”. ويضيف قائلاً”..إن تاريخ الموصل زاخر بالعطاء الفكري والتنويري والنضال من أجل التحرر والانعتاق في زمن السيطرة العثمانية… ويعيش فيها منذ غابر الزمان العرب والكرد ومسلمون ومسيحيون وكلدوآشوريون وتركمان وستة وشيعة..”.
ويستذكر المؤلف، بالاستناد الى مؤلفات مؤرخين، شخصيات اجتماعية واقتصادية وثقافية وصحفية وعلمية وفنية ذات اتجاهات فكرية وسياسية متباينة. ويشير إلى رواد حركة التنوير والديمقراطية في الموصل من أمثال الروائي ذنون أيوب ويوسف الحاج ألياس وجرجيس فتح الله وعبد الفتاح ابراهيم وحسن زكريا وداود الصائغ والفنان يحيى ق العبدالله وسليم الفخري وآخرون، إلى جانب شخصيات تنتمي إلى تيارات أخرى من أمثال عبد الجبار الجومرد وصديق شنشل ويوسف الحاج ألياس وعبد الرحمن الجليلي وسليمان فيضي وصديق الدملوجي وآخرون.
كما يشير المؤلف إلى تجربته مع التيار القومي في مدينته الموصل في يوم 14 تموز عام 1958 ويقول:”وفي عصر ذلك اليوم جرت لقاءات بين ممثلي جبهة الاتحاد الوطني في الموصل بمبادرة من منظمتنا. وكان موقفنا مواصلة عمل الجبهة في ظروف جديدة لصيانة الجمهورية وتحقيق لأهدافها ومدّها بالدعم السياسي وبكل السبل وشل أيادي من يتطاول عليها والحذر كل الحذر من التدخل الأجنبي والوقوف سداً منيعاً بوجه المؤامرات ووأدها والإجهاز عليها. لكن ممثل حزب البعث اعتبر الثورة عربية وحدوية اسلامية وان جبهة الاتحاد الوطني نفذت دورها وانتهت!!.”. ولكي يفرض هذا التيار أجندته، فإنه لم يلجأ إلى مناقشة برنامج الطرف المقابل ومجادلته بشكل حضاري، بل راح يطرح شعارات غير عملية واتهامات مفبركة كالمطالبة بالوحدة الفورية الاندماجية مع العربية المتحدة أو الاتهامات بحرق القرآن و “الشعوبية” و “أعداء الوحدة” و “أخوان اليهود” و “عملاء موسكو وأذنابها” كما يشير الكاتب.
و يشير الكاتب إلى أنه قد انضمت إلى هذه الموجة ورفعت شعاراتها شخصيات لا علاقة لها بالقومية ولا بشعار الوحدة ولا بالدين. فلم يقم عبد الوهاب الشواف بمد الجسور مع التيار القومي والاسلامي في الموصل لقناعته بنهج هذا التيار، كما يشير الكاتب قائلاً :”لم يكن الشواف بعثياً ولم يكن بسليقته وحدوياً، ولو أسند له أحد المناصب المهمة يرضي طموحه لوقف ضد الوحدة الفورية وضد عبد السلام عارف والبعث ولأصبح قاسمياً متطرفاً”. فهذا التحرك للشواف جاء لعامل ذاتي نتيجة لعدم قناعته بمنصبه على رأس حامية الموصل بعيد ثورة تموز بعد أن رفض عبد السلام عارف مقترح عبد الكريم قاسم بتعيين الشواف حاكماً عسكرياً للبلاد. فالخلاف كان بين الشواف وعبد السلام عارف وليس بين الشواف وعبد الكريم قاسم. وكما يشير الكاتب :” الكل يعرف أن عبد الكريم قاسم عيّن الشواف بمنصب الحاكم العسكري العام إلا أن عبد السلام عارف شطب أسمه. ومن هنا لا يحق للشواف أن يحقد على قاسم بل كان عليه أن يعالج الوضع السائد آنئذ بالحكمة”.
كما يتناول الكاتب التحولات التي طرأت على بعض أطراف التيار القومي العربي بعد ثورة 14 تموز 1958 ويشير إلى مآل حزب البعث قائلاً:”أما حزب البعث فقد طرأت عليه في ذلك الوقت تغييرات جذرية، ومن أبرزها أنه فقد صفته كحزب سياسي وتحوّل إلى عصابات للقتل والاغتيال والاستفزاز وأصبح من أدوات التآمر على الجمهورية العراقية الوليدة. وقطع علاقاته مع أحزاب جبهة الاتحاد الوطني وبالذات مع الشيوعيين والديمقراطيين وحتى مع بعض قادة حزب الاستقلال. ويستند الكاتب إلى حديث للمرحوم عامر عبدالله مع فؤاد الركابي في عام 1965 قائلاً:” التقيت بفؤاد الركابي الذي أكد في معرض استذكاره لهذه الواقعة بأنه كان وآخرين من قيادة حزبه قد توصلوا إلى أن أفضل ما كان يمكن فعله بعد انتصار ثورة تموز 1958 هو اقامة رابطة اتحادية مع الجمهورية العربية المتحدة باعتبارها الرابطة الوحيدة والمناسبة، وانهم عرضوا الفكرة على ميشيل عفلق لدى زيارته للعراق بعد ثورة تموز 1958 فرفضها بشدة وعنف ودعا من التقى بهم الى العمل من أجل وحدة اندماجية فورية حتى ولو اقتضى الأمر ربع قرن من الكفاح ضد الشيوعيين”. ويستطرد الكاتب:” وارتكب حزب البعث سلسلة من المغامرات منها: دعم عبد السلام عارف قبل وأثناء وبعد اقصائه من مناصبه واعتقاله، ودعم تحركات رشيد عالي الكيلاني بعد عودته من القاهرة، ثم انغمر في مؤامرة الشواف حتى النخاع، ونفذ مؤامرة اغتيال عبد الكريم قاسم…. تحت شعار الانتقام وتصفية الدخلاء والشعوبيين وعملاء موسكو وأعداء الله!!!”.
هذا المنحى المتطرف والاستناد إلى قوى خارجية وإلى قوى رجعية في الداخل، لابد وأن تجد لها ردود فعل عند أطراف أخرى لتقع هي الأخرى فريسة لهذا التطرف. ويورد الكاتب بهذا الصدد قائلاً:” وكان لتلك النشاطات ردود فعل من المقابل وربما لا تخلو من تشنجات هي الأخرى. وعاشت المدينة حالة من انعدام الاستقرار وانقسم الشعب وانقسمت البيوتات وحتى العوائل، هذا مع البعث وذاك مع الشيوعيين، هذا مع الوحدة الفورية وذاك مع الاتحاد الفدرالي. وغابت الحكمة وحلت محلها التشنجات والعداء بين أبناء المدينة الواحدة وحتى بين الأقارب. وضاعت الوحدة وضاع الاتحاد الفدرالي وتم تأجيلهما إلى نصف قرن وربما أكثر…. ولكن رائحة الدم كانت تفوح وعناقيد الغضب تنضج ومرتسمات الاصطدام تلوح في سماء الموصل الجميلة العريقة والوادعة، وكان نهر دجلة يقول كلكم أولادي وتشربون مائي، ماذا حل بكم؟. ولكن أولاده صموا آذانهم ولم يسمعوا دجلة وحكمته. واستغل بعض رجال الدين في الهجوم على الشيوعية والشيوعيين في جامع الياور مثلاً وفي القطعات المسلحة وغيرها”.
وتبعاً لذلك فهذا الخزين التنويري الذي يشير إليه الكاتب لم يكتب له الاستمرار وتراجع، وغلبت عليه قوى الردة والتخلف، كما هو الحال في كل أرجاء العراق. فلم نعد نسمع من أم الربيعين ذلك التراث الرائع من الثقافة والطرب الموصلي العريق لأحفاد اسحق الموصلي بسبب طغيان التطرف وموجة المحرمات والفتاوي الرجعية وانعدام التسامح والحوار وطغيان العنف على المدينة، خاصة منذ أن حشرت المدينة وأهاليها في هذه الأجواء بعد العصيان الذي أعلنه الشواف في 8 آذار عام 1959، والذي أدى إلى عرقلة مسيرة التنوير والتقدم ليس في مدينة الحدباء وحدها، بل في عموم العراق. وهذا ما أدى تدريجياً إلى تعرّض المدينة إلى موجة ظلامية حتى سقوط النظام السابق وما بعده مما أدى إلى خراب مادي وضحايا هائلة في الأرواح وشل كل أنشطة الابداع الإنساني والامعان في التغيير الديموغرافي الخطير. وتحولت المدينة في الآونة الأخيرة إلى مصدر وحاضنة لأبشع أنواع التطرف الديني في تاريخ البلاد. وكما يشير مسؤول محلي في محافظة نينوى قبل أيام إن”: تنظيم دولة العراق الاسلامية في العراق وبلاد الشام يجبي شهرياً تسعة ملايين دولار من الأتاوات وعمليات الابتزاز والنهب من أهالي المدينة وذلك لتمويل العمليات التي تقوم بها في العراق وسوريا”.
إن هذه التطورات السلبية التي يشير إليها الكاتب ما هي إلاّ استمرار لسلوك التيار القومي والاسلامي المتطرف بعد ثورة تموز طريق فرض أجنداته وخياراته بالقوة وأقصاء كل من يخالفه في الرأي، وتدبير الانقلابات العسكرية والمؤامرات المدعومة من الخارج لفرض ديكتاتوريته. ورفض هذا التيار لغة الحوار الديمقراطي والنقاش المثمر بين أبناء البلد لبنائه والرجوع إلى رأي الشعب وإرساء أسس الديمقراطية في المجتمع العراقي. لقد انحدر الشواف إلى هذا المنعطف الخطير دون أن يدرك عواقب هذا الانحدار، شأنه في ذلك شأن العديد من التيارات السياسية، ليقع في الفخ ويتحول إلى أداة تنفذ أجندات خارجية كوكالة المخابرات المركزية والبريطانية ودول محافظة في المنطقة ومخابرات عبد الناصر وأطراف خارجية وجهات مشبوهة كما أكدتها وثائق رسمية نشرت أخيراً لتدفع بالبلاد أكثر فأكثر إلى جادة العنف والفوضى بدلاً من جادة التسامح والتعايش والتنمية والسلم الاجتماعي، وتمهد للكارثة الوطنية في 8 شباط عام 1963 التي لم تحقق حتى أبسط رغبات وآمال التيار القومي، وعادت بالخراب على البلاد والقتل الجماعي للتيارات الديمقراطية والعنف الذي طال جميع التيارات السياسية.
إن عصيان الشواف في آذار عام 1959 لم يكن بسبب مهرجان أنصار السلام في المدينة ولا بسبب الخلاف على الوحدة أو الاتحاد الفدرالي ولا بسبب معزوفة “الحاد” الشيوعيين، بل هو بالأساس حول المسار اللاحق للعراق بين تيارين رجعي متخلف مدعوم من أوساط محافظة في الداخل و أوساط تعارض أي تطور وتنمية في البلاد في الخارج، وبين تيار يسعى الى التنمية والحداثة والتنوير. لقد جرى التحضير للعصيان وللمؤامرات ضد الحكم الجديد منذ اليوم الأول لانتصار 14 تموز المجيد. وكان ضحية هذه المؤامرات بالدرجة الأساسية قوى التقدم والتنوير والحداثة في المجتمع، التي قدمت تضحيات جمّة
الشهيد كامل قزانجي
في الموصل . ففي اليوم الأول من العصيان جرى اغتيال الشخصية الديمقراطية والمسالمة وأحد اقطاب حركة السلم العراقية الشهيد كامل قزانجي. وتبع ذلك عمليةات قتل جماعي للشيوعيين والديمقراطيين. ويُشار في الكتاب إلى أن :”ارقام الضحايا التي قدمها الشيوعيون واصدقائهم دفاعاً عن الديمقراطية 320 قتيلاً في التاسع والعاشر من آذار 1959و 139 محكوماً نفذ فيهم حكم الاعدام و 900 شهيداً قتلوا اغتيالاً بين 1960 – 1963″. ومن اللافت إن هذا الهجوم المتكرر في العراق على الشيوعيين والديمقراطيين سواء بذرائع دينية أو قومية وباتهامات مفبركة كان طوال تاريخ العراق الحديث بوادر على حدوث ردة وكارثة وطنية ومأساة وخراب وقتل يحرق الأخضر واليابس في العراق.
ولم يتعرض للقتل والانتهاك من أنصار العصيان ومن دبروا وشاركوا فيه سوى بضع عشرات، ويدين الكاتب هذه الممارسات العنفية الشاذة قائلاً:”وأسارع القول إن قتل 17 شخصاً من السناجرة وآل السنجري والكشاملة (آل كشمولة) وغيرهم في الدملماجة يوم 14 آذار لم يكن مبرراً وكان أكبر خطأ ارتكبته المقاومة الشعبية وقادتها، وهو عمل مدان ومرفوض”.
وهكذا لم تجن مدينة الحدباء من هذا التطرف والعنف لا تحقيق أحلام الوحدة ولا “انقاذ” الدين كما يدّعي البعض، بل فرض عليها منذ ذلك التاريخ وحتى أيامنا هذه سيطرة غلاة العنف والتطرف وأمراء القتل وأتباع “داعش” لينشروا شرورهم على كل أبناء المدينة وبمن فيهم أولئك الذين وقفوا إلى جانب عصيان عام 1959. ومن المؤسف أن يكرر بعض السياسيين نهج التعويل على العامل الخارجي لتنفيذ طموحاتهم، وهو استمرار لنهج ضار بالوطن وبالحفاظ على النسيج العراقي مارسه التيار القومي والديني المتطرف بعيد انتصار ثورة 14 تموز 1958.
إن الكتاب هو تدوين لأحداث ومنعطفات كثيرة عراقية وعربية ودولية عاشها وشهدها الكاتب، وأبدى رأيه فيها في منعطفات خطيرة من تاريخ العراق. وهو مؤلف يستحق القراءة والاطلاع عليه بغض النظر عن الاتفاق أو التباين مع وجهات نظره.
22/12/2013