لم تثر هرتا مولر الكثير من الاهتمام عندما نالت نوبل الآداب 2009. اسم غير معروف، لسيدة رومانية تكتب بالألمانية. فهل هي ترضية أخرى، لمنطقة أو بلد أو لغة؟ تلك هي إحدى سذاجاتي التي ستبقى تلازمني، وربما تلازم سواي أيضا، في إصدار الأحكام المألوفة على أناس وأعمال غير مألوفين.
أبدعت هرتا مولر في تصوير الحياة الخراب في ظل نيكولاي تشاوشيسكو، الذي كانت له ميزة واحدة: الطاقة على تحمل الظلم الذي يلحقه بالناس وعلى الاستمرار في ذلك يوما بعد يوم. تصف مولر كيف ذهبت بعد الجامعة للعمل في أحد المصانع. (اقرأ «محاضرات الحائزين جائزة نوبل للأدب» – الدار العربية للعلوم – ناشرون). لم يأت إليها المدير أو المشرف، بل مندوب المخابرات، يطلب منها التجسس على رفاقها: «جاءني وحش المخابرات ثلاث مرات في أسبوع واحد: عملاق ضخم ذو عينين زرقاوين. ظل واقفا في المرة الأولى، ثم شتمني وانصرف. في المرة الثانية جلس. في الثالثة جلس وبقيت واقفة لأنه وضع محفظته على كرسيي ولم أجرؤ على رفعها. أطلق عليّ سيلا من الشتائم: حمقاء وكسولة وامرأة سهلة وعفنة كالكلبة الشاردة (لاحظ مصادر القاموس). صرخ في وجهي: اكتبي أنك عميلة. رفضت، فحطم المزهرية على الحائط. خرج وهو يقول: سوف تندمين. سوف نغرقك في النهر. وقلت لحظتها في نفسي، الأفضل أن أختار الغرق».
بعدها صار عليها أن تذهب إلى مكتب مدير المصنع ليسألها، في حضور أمين الحزب، إن كانت قد عثرت على عمل آخر، وكانت تعطي إجابة واحدة: «أتمنى أن أتقاعد هنا». ثم ذات صباح وصلت إلى مكتبها فوجدت مهندسا آخر يحتله. آوتها صديقة لها في زاوية من مكتبها إلى أن جاء يوم منعتها هي أيضا من الدخول. وبدأت الإشاعات تلفها بين الزملاء: «في الواقع إنهم يعاقبونني لأنني أخليت سبيلهم». لم يعد لها مكان في المصنع سوى قفص السلم، أو بيت الدرج. وتذكرت أن أمها كانت تسألها كل صباح بعد خروجها من المنزل: «هل منديلك معك؟».
ها هي تدرك الآن معنى السؤال. أضحى منديلها هو مكتبها. تضعه على درج السلم وتجلس عليه. وبعيدا عن الدرج، في البيت، لم تجد ملجأ تهرب إليه سوى الكتاب: «عندما كنت أكتب خوفا من الموت، كنت أزداد عطشا إلى الحياة، عطشا إلى الكلمات. وكان دوار الكلمات وحده قادرا على توصيف حالي».
تروي دور المناديل في بيتها.. للبكاء وللصداع: «وللذين تحرمهم الديكتاتورية من كرامتهم كل يوم، وحتى اليوم، أريد أن أسألهم ببساطة: هل لديكم مناديل؟». لقد كان المنديل رفيقها الوحيد في عزلة قفص السلم واضطهاده. مؤنس ساعدها على تحمل ذل بلادها إلى أن هاجرت إلى ألمانيا مع من نجح في ذلك من «كلاب شاردة». «إنك لست سوى كلبة سائبة وعفنة»، قال لها مندوب المخابرات عندما رفضت «التعاون». لم يكن مسموحا لأي روماني بالبقاء خارج نظام النميمة والوشاية وسحق النفس. «نوبل» كانت مكافأتها على شجاعة الكبرياء.
نقلا عن الشرق الاوسط