بقلم: عضيد جواد الخميسي
مثل الآراميون الموجة الثالثة من موجات الهجرات السامية ، جاءوا من إحدى مناطق الصحراء السورية . كانوا في البدء بدواً رحلاً منتظمين في قبائل ، بلغوا الأصقاع العليا من بلاد ما بين النهرين حيث نجدهم ، على بعض الكثافة ، مستقرّين في حرّان أولاً ، ثم هاجروا ، ابتداءً من القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلى سوريا حيث أسّسوا مستعمراتَ حضريَّة . بيد انهم لم يقدموا يوماً على طرد قدامى السكان كلياً ، ولم يتوصلوا إلى غمرِهم عدداً ، كما انهم لم يؤسّسوا يوماً دولةً واحدةً ، بل ممالكَ متعدِّدة قد تتحارب أحياناً .
ولعلّ أهمَّ ممالكهم تلك التي قامت في واحةِ دمشق الكُبرى عند لحف جبل لبنان الشرقي ، وهي مملكة أسرة بن حدد (حدد: إله الرعد والبرق والمطر) ـ ـ ومملكة هازائيل ايل ينظر، (هازائيل : إيل ينظر ، الإله ينظر) . وباستطاعتنا أن نذكر ، إلى جانب مملكة حرّان ، ممالكَ أخرى كثيرة في حلب ، وحماة على العـاصي ، وزنجرلي عند لحف أمانوس ، وغيرها ، ويمكن القول انهم بلغوا أوجَ الازدهار في القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد إذ سدّوا الطريق أمام الآشوريين نحو الغرب والشمال الغربي.
وليس لدينا من الحقائق التاريخية الثابتة ما نستعين به على تعيين موطن الآراميين الأصلي ، أو زمن نزوحهم ، أو دخولهم إلى أراضي الهلال الخصيب . وأقدم ما نقرأه عنهم ورد في إحدى رسائل ” تل العمارنة ” ، في القرن الرابع عشر ق.م . والإشارة في هذه الرسالة إلى قبائل ( الأخلامو ) ، التي غزت اراضي الفرات في عهد قردونياش ، ملك بابل .
ولعلّ الداعي إلى استقرار هذه القبائل في نواحي الفرات أو دولة (الميتاني) التي سيطرت على هذه المنطقة قروناً عديدة كانت قد بدأت تتقهقر وتتلاشى . وكان من الطبيعي أن يطمع (الأخلامو) في مواردها ، وان يُزاحموا في ذلك الحيثيين والآشوريين .
إنّ الاسم (أخلامو) بدأ يقترن بالاسم آرام . ولعلَّ الداعي إلى هذا أنّ قبيلة آرام الأخلاميّة أثبتت زعامتها على سائر أخواتها القبائل الأخلاميَّة الأخرى ، ففرضت ، مع مرور الزمن ، اسمها عليها كلَّها . ويرى ذوو الاختصاص أنَّ غزوات القبائل الأخلاميَّة ـ الآراميَّة بلغت اشدَّها عنفاً وحجماً في القرن الحادي عشر قبل الميلاد . وان هذه القبائل وطّدت سلطتها في هذا القرن نفسه على منحنى الفرات الكبير ، فأسَّست مملكة (بيت أدين )، حول مدينة تل برسيب ، و(بيت بخياني) في وادي الخابور ، ونصيبينة ، وخوريزانة ، وجدارة إلى الشرق . واحتلَّت عشائر (المسوخو) الآراميَّة ضفتي الفرات من عانة حتى ربيقو(مدينة الرمادي) غرب العراق، بينما استقرَّت عشائر اللاقي الآرامية في منطقة سنجار(تشمل الجزء الجنوبي من حوض الخابور وحوض الفرات الممتد بين بلاد سوحي في الشرق وبيت عديني في الغرب) ، وعشائر (العوتات ) على ضفتي نهر دجلة بين الزاب والأدهم . وتمكن (أدد أبال أيدين) الآرامي ، في السنة 1083 ق.م ، من الاستئثار بعرش بابل . ففاوضه ملك آشور ، وحالفه وتزوَّج ابنته .
ويعتقد بعضهم أن قبائل كلدو التي احتلَّت منطقة الفرات السفلى في هذه الآونة نفسها ، هي أيضاً آراميَّة . واتجه الآراميون غرباً ، فتغلَّبوا على بقايا الحيثيين في كركميش ( جرابلس ) ، وحلب ، وحماة ، وذلك في أواخر القرن الحادي عشر . وتابعوا غزواتهم في وادي العاصي ، وسهل البقاع ، حتى تخوم فلسطين .. واحتلَّوا دمشق وتوابعها ، ووقفوا عند حدود فلسطين.
وانشأ الآراميون في منطقتهم الغربيَّة عدداً من الدويلات أشهرها صوبة ، وأصلها الآرامي( صهوبة )، ومعناها الحمراء ، وهي (خلقيس اليونان) ، وخلقيس باليونانية معناه النحاس الأحمر . وخلقيس هي عنجر البقاع(وهي إحدى القرى اللبنانية من قرى قضاء زحلة في محافظة البقاع)
ويستدل من المراجع الآشوريَّة المسماريَّة ، ومن أخبار الملوك الثاني ، أنّ (حزائيل) كان أعظمَ محاربٍ أنجبه الآراميون ، فإنّه بعد أن صدَّ هجومين قام بهما شلماناصر الثالث ، في السنتين 842 و 838 ق.م ، جهّز حملةً على مملكة إسرائيل ووسّع ملكه في شرقي الأردن حتى أرنون ، وأنّ ياهو ملك إسرائيل ( 842 ـ 814 ق.م ) الذي كان قد أدّى الجزيَّة صاغراً لشلماناصر الثالث ، اصبح بيد حزائيل ، ولم يبق له إلاّ خمسون فارساً ، وعشرة مركبات ، وعشرة آلاف راجلا .
وأقام (ذاكر) ، ملك حماة الآرامي ، في أواخر القرن التاسع ، وحوالي السنة 805 ق.م ، أثراً تذكارياً على بعد أربعين كيلو متراً إلى جنوبي حلب وغريها ، يخلِّد به انتصاره على حلف آرامي ترأسه بن هدد الثالث ، ملك دمشق ، وابن حزائيل ، وشمل عدداً من الدويلات الآراميَّة بينها دمشق ، وارباد ، وقي ، وعمق ، وجرجم ، وسمأل ، وماليز ، ويشكر به الإله بعل شمين الذي استجاب سؤاله ، وخلّصه من يد اعدائِه .
وهناك أثر تذكاري آرامي آخر أقامه (كيلامو) الآرامي ، ملك سمأل في قصره ، في زنجرلي ، في منتصف القرن التاسع ، وباللغة الفينيقية ، وقد ذكر فيه أسماء أسلافه في الملك ، وتغنَّى بعطفه على رعيته ، وبقوَّته وصموده في وجه أعدائه المحيطين به .
وقد يجوز القول أنّ الآراميين أخذوا بمدنيَّات الشعوب التي حلّوا محلّها . فإنّ ما اكتشفه العالم الألماني (فون ابنهايم) من آثار الآراميين في تل حلف ، عند رأس الخابور وإلى غربيه ، من تماثيل ونقوش بارزة لا تختلف اختلافاً كبيراً عن آثار (الميتانيين) قبلهم . وقلْ الأمر نفسه عن آثار الآراميين في زنجرلي ، فإنها تكاد تكون حيثيَّة في ذوقها وصنعها ، ومثل هذا في حماة ، فإنَّ النسر المزدوج الرأس الذي يعزي صنعه إلى الآراميين فيها لا يختلف عن نسور الحيثيين قبلهم . وفي دمشق ، عاصمة الدولة الآراميَّة الكبرى ، وفي جدار جامعها الكبير نقشٌ بارزٌ آرامي فيه سفنكس فينيقي (نحت حجري يشبه ابو الهول المصري )في طرازه ، مما يدلّ على أنَّ ملوك دمشق الآراميين استعانوا ، في الأرجح ، بصنّاع فينيقيين لتشييد هيكلهم العظيم للإله (هدد) . وليس في مجموعة العاج الدمشقية التي تحمل اسم حزائيل ، التي وُجِدت في أرسلان طاش ، ما يختلف عن الكثير من نوعها الذي وُجد في مجدو والسامرة وغيرهما ، ممَّا جمع بين عناصر فنيَّة مختلفة مصريَّة وفينيقيَّة وحيثيَّة وايجيَّة ، وتمثال ملكارت ، الذي وُجد في حلب ، وهو الذي أقامه بن هدد الأول ، ملك دمشق ، حيثيّ في طرازه على ما يعتقد.
وكان الآراميون في سورية يُعدّون من ألد الأعداء للمملكة الإسرائيلية . وقد استمرت الحرب بينهما في معظم سني القرن التاسع قبل الميلاد . وكان النصر فيها حليف الآراميون حتى انهم في إحدى حروبهم تمكنوا من حصار ( السامرة ) عاصمة المملكة الإسرائيلية . وفي حوالي عام 805 ق.م قام (حزائيل بن بنهدد) ملك آرام الدمشقي بحملة ضدَّ مملكة إسرائيل ، فوسَّع ممتلكاته في شرقي الأردن حتى نهر الموجب ، ووصلت فتوحاته إلى ( جت ـ عراق المنشية ) في السهل الساحلي الفلسطيني . وكان مزمعاً أن يقتحمَ أورشليم ، غير أنَّه تحوَّل عنها بعد أن قدَّم له ملكها الكنوز والهدايا الذهبية . وهكذا أضحت مملكة إسرائيل وكأنها تابعة لآرام . وبعد وفاة ( حزائيل) الذي كان يُعدّ أعظمَ محاربٍ آرامي ، خسر خلفاؤه ، بسبب هجمات الآشوريين المتكرِّرة ، كل ما كان قد استولى عليه .
وفي عام 734 ق.م . قام ملك آشور تغلات فلاسر الثالث ، فاكتسح مقاطعات دمشق الستة عشر وخرّب مدنها الخمسمائة والإحدى والتسعين . وفرّ (رصين) ملك دمشق الآرامي من أمام وجهه ، ودخل دمشق خلسةً ، وحوصر فيها. وطال أمر حصار دمشق ، ولكنَّها سقطت في يد آشور في السنة 732 ق.م ، فقُتل ملكها ، وقُطعت جنائنها ، وسُبي أهلها ، وبسقوط دمشق انتهى تاريخ الآراميين السياسي .
والآراميون هؤلاء عُرفوا بعد دخولهم المسيحية باسم ( السُّريان ) ولغتهم السُّريانية . وهي لا تختلف كثيراً عن اللهجات السريانية الباقية إلى يومنا هذا .