عندما تكون الطبقة الحاكمة نزيهة وشريفة, ومحبة لوطنها, فأنها تعمل بكل جد وإخلاص لتثبيت العدل, وعندها يسعد الشعب وتزهر أيام الوطن, وتتحقق أحلام المساكين, وهذا ما حصل في اليابان وكوريا الجنوبية واللمانيا واندنوسيا والكثير من بلدان العالم.
أما في العراق فعمدت السلطتين ( الحكومة والبرلمان), على زرع الظلم عبر تأسيس الطبقية بين الموظفين, بتشريع التفاوت العجيب بين رواتب موظفي الدولة العراقية, مما أنتج شرخ كبير في المجتمع, فجعل طبقة واسعة من المجتمع تعيش تحت ضغط مستمر, وبحال نفس الحال في زمن الطاغية, فسحق الناس مستمر لكن ألان بيد دعاة الديمقراطية.
وتم تقسيم الرواتب في العراق على أساس ثلاث طبقات, وهي:
الطبقة الأولى: الرواتب الخرافية
وتشمل الرئاسات الثلاث والبرلمانيين والوزراء ووكلائهم والهيئات المستقلة, هؤلاء يستلمون رواتب خرافية بل تعد رقم عالمي, لم يسبقهم احد, فالصدارة للطبقة السياسية العراقية, والتي وجدت في هدر المال العام بسن رواتب خرافية خير مكافئة لها على فوزها بالانتخابات, فهي تشرع وهي تستلم, ولم تخجل على مدار 14 من انتقادات المرجعية الصالحة, ولا من تذمر الناس, لضياع أموال الدولة على رواتب الطبقة السياسية.
ومع أن الشعب لم يسكت, بل خرجت مئات التظاهرات, وكتب الكتاب ألاف المقالات, وتحدث الأعلام بعشرات البرامج عن هذه الفاجعة, لكن العاهرة لا تستحي, واستمرت الطبقة الحاكمة الى اليوم بنهب أموال العراق بعنوان رواتبهم.
الطبقة الثانية: الرواتب المنتعشة
وتشمل موظفي أمانة رئاسة الوزراء والبرلمان والخارجية والنفط والكهرباء والمالية.
موظفي هذه الوزارات تتنعم برواتب كبيرة جدا, بحيث وفرت لهم العيش برفاهية, مع توزيع قطع أراضي حصرا لهم, مع ايفادات سنوية مستمرة وحصري لهم أيضا, مع توزيع مكافآت كبيرة, مع ضمان صحي, مع تسهيلات كثيرة كالقروض, بالمقابل هذا أسس لطبقة تدافع عن الطبقة السياسية, بل اغلبهم تم تنظيمه حزبيا, فأصبحت هذه الطبقة من سنخ الأحزاب الحاكمة , فمن كان مستقلا فلا مكان له هناك, فلا يقبل فيها الا من كان حزبيا ومعه توصية.
الطبقة الثالثة: الرواتب البائسة
باقي الوزارات والكيانات وتقدر الثلاثون كيان مؤسساتي, وضمنها الداخلية والدفاع والتعليم والتربية والزراعة والصناعة والعدل والموارد المائية والأعمار والإسكان والعمل والرياضة والشباب..الخ, كلها برواتب بائسة لا تسد متطلبات الشهر, وتجعل الموظف المسكين تحت الضغط المستمر, فأما أن يتحول الى مرتشي وفاسد, أو أن يعمل في الليل, أو أن ينتحر ويخلص من هذه الحياة البائسة,
وهذه الطبقة بسبب السحق المستمر لها, تحولت الى فئة خاضعة لا صوت لها, فقط تريد أن تستمر بالعيش.
لكن التساؤل الكبير لماذا تفعل الطبقة السياسية والأحزاب الحاكمة هذا الفعل المشين؟ لماذا استمرار والإصرار عليه؟
هناك بعض الأفكار لتفسير علة هذا التفاوت, وسبب الإصرار عليه:
أولا: الغباء السياسي
يمكن إرجاع الأمر الى حالة الغباء السياسي المسيطرة على رموز كبيرة في الدولة, والعقد الأخير اثبت هذا الغباء, بحيث لازم الفشل الدولة العراقية ولم تتقدم خطوة واحدة, وما الأزمات التي نعيشها الا لغياب العقل عن من بيده السلطة, فغلبت العنتريات والخصام وتسيير الأمور على قدر الممكن من دون برامج أو تقييم,, بغياب كامل لآي رؤية أو إستراتيجية, بالاضافة لعجز كامل عن حل ابسط المشاكل, وقضية الرواتب لم يتم التفكير بنتائجها, بقدر التفكير بمكاسبهم ومكاسب فئة تدافع عنهم وتناصرهم وتكون عونا لهم.
مسالة العدل من المستحيل تتحقق على يد الأغبياء أو الجبناء, فالعدل يحتاج لتواجد الشجعان, ومن يحكم مجرد لصوص ومزورين ومنافقين ودواعر, واستمر الظلم طويلا, مع أن البلد شهد انتخاب حكومات وبرلمان على ثلاث دورات, لكن فشلت الطبقة السياسية بفعل أي شيء يحقق العدل, بل هي جعلت الظلم يكبر وينمو عبر تشريعات تزيد الظلم وتكرسه, والنتيجة فئة واسعة من الشعب تسحق يوميا.
ثانيا: السير بسيرة صدام
بعد التغيير عام 2003 الذي أطاح بالطاغية صدام ونظامه, كان الشعب ينتظر أن تتحول حياة لجنة, كبلدان الخليج أو لندن أو باريس, وباقي بلدان العالم التي تنعم بأنظمة عادلة تحترم الإنسان وتعمل على إسعاده, لكن عمدت السلطة الجديدة على تطبيق بعض صور الديمقراطية من قبيل الانتخاب الحر, وتعدد الأحزاب, وحرية الصحافة, لكن مع الالتزام ببعض نهج الطاغية صدام بهدف التحكم والسيطرة.
وكان من ركائز حكم صدام هو التفاوت في العطاء, حيث سن رواتب كبيرة لفئات معينة, قربها منه في الأجهزة الأمنية والخاصة والعسكرية وفي وزارة الخارجية, أما باقي الوزارات فكانت تستلم رواتب لا تكفي لأسبوع! مما دفع البعض لأخذ الرشوة ليفور المال الكافي لالتزاماته الحياتية, والبعض الأخر كانت القيم الأخلاقية كبيرة عنده, فقرر البحث عن عمل أضافي, ليحفظ كرامة عائلته, والكثيرون تركوا الوظيفة للعمل في الأسواق والكراجات, هذا الأمر جعل حكم الطاغية يمتد لسنين, فالشعب مشغول في البحث عن لقمة العيش, فلا استقرار للحياة.
فكان مشروع تفاوت الرواتب في العهد الجديد, مشابه تماما لما كان عليه عهد صدام, فقط تختلف التسميات.
ثالثا: تعليمات صارمة من جهات عليا
لنفكر بعمق قليلا, الأمر الذي حصل بدا مع سلطة بريمر, وأصبح كقانون لا يقبل النقض, حيث عمدت الحكومات على تثبيته وإعطائه الشرعية, بعد أن صمم المحتل على تثبيته حتى بعد مغادرته, فكان تحقيق رضا القوى الخارجية أمر مهم للسلطة الجديدة, وألا يتم الإطاحة بها.
وبسبب ضعف الطبقة الحاكمة متمثلة بحلف الأحزاب, بكونها مسلوبة الإرادة, وعليها تنفيذ الاملاءات الخارجية, والتي لا تقبل التغيير, فكان فرض أن يتم سن تفاوت الرواتب, والسلطة أكثرت من هذا التفاوت, عبر تشريع رواتب خرافية لهم, لأنها اكتشفت مع الزمن أن التفاوت يصب في صالحها, مع علمها بأنه ظلم كبير.
فكان ليل الظلم نتاج رضوخ السلطة الحاكمة متمثلة بكل الأحزاب لإرادة القوى العظمى, التي تخطط لأمور بعيدة, وتجد في تفاوت الرواتب منطلق لتقسيم المجتمع وزرع المشاكل واستمرار الظلم.