( تعقيب على الملاحظات القيمة للأديب والشاعر المهجري الكبير والرائع د. جميل الدويهي على مقالي “يوميات نصراوي: عن الثقافة والتثاقف”! – نشر في افكار اغترابية:
www.afkarightirabiah.com.au )
******
اشغلني موضوع النقد الأدبي (ولا اعتبر نفسي ناقدا) في ثقافتنا العربية داخل اسرائيل من جوانبه المختلفة ، وخاصة جانب المتابعات النقدية للأعمال التي يصدرها الأدباء المحليين .
ربما يكون بعض الأدباء من المتعاملين مع النقد او الابداع ، ، يرون في كتاباتي ومواقفي اتجاها عكس التيار ، ومهما بدى ذلك صحيحا الا انه بعيد عن الصواب .
بنفس الوقت لا اريد ان يتوهم القارئ اني استاذ في النقد الادبي ، انا قارئ متذوق للأدب ، وحسب مارون عبود ، الذائقة الأدبية هي أفضل معيار نقدي ، وعلى اساسها مارس أعظم النقاد العرب ( مارون عبود ) عمله النقدي الثقافي الابداعي الخالد ، ونفس الظاهرة نجدها لدى الناقد الكبير محمد مندور .
يؤلمني حتى النخاع التضليل الأدبي الذي يقوم به بعض مثقفينا ، تحت نصوص تسمى بالنقد ، يغيب عنها النقد ، وتغيب عنها الذائقة الأدبية البديهية، وأكثر ما يغيب عنها المصداقية والاستقامة الادبية ، وهذه الظاهرة تتسع باضطراد في الثقافة العربية داخل اسرائيل ، ويساعد على ترويجها في الفترة الأخيرة بعض الأدباء العرب في مقدماتهم التي تفيض بالمدائح غير المعقولة لبعض الكتب لأدباء من العرب في اسرائيل .
لست ضد رعاية الناشئين من كتاب وشعراء ، بل هو واجب مقدس . ولكن بين الرعاية والدعم ، والمديح المنفلت لدرجة تنمية الوهم المجنون ، بانهم بلغوا قمة الابداع الأدبي ، ببعض النصوص التي تفتقد لأي لون أدبي حقيقي ، ولا تتعدى كونها تجارب ومحاولات لصياغة ادبية ، بات يشكل في ثقافتنا ظاهرة مقلقة ، أصبح الصمت عليها جريمة أدبية وأخلاقية .الناقد الذي لا يفقه مهمته وأثرها الكبير على مسار ثقافتنا ، يجب ان يصمت ، وأن يمارس ما يشاء من الالوان الثقافية … ليلعب لعبته بعيدا على ان لا يتسلل لتوجيه الأهداف غير المشروعة ، التي تكرارها يشكل خروجا عن المفاهيم الأدبية وأخلاق الابداع الأدبي .
وحتى لا يفهمني خطأ الذين اتعرض لهم بكتاباتي في اطار حرية الرأي والتعددية الفكرية والذوقية ،اود ان اوضح باني أحب كل المساهمين ببناء صرح أدبنا ، كتابا وشعراء ونقاد ، لا فرق بين الذين يوفقون في ابداعهم او يتعثرون … طريق الابداع ليست ” أوتسترادا ” للانطلاق السريع ،انما طريق جبلية بالغة الصعوبة ، وتفترض مستوى من الوعي وتطوير الوعي ، الى جانب تطوير الخصائص الشخصية ، خصائص السيطرة على النص وقيادته ، بدل ان يقودنا ، وخصائص تنمية الملكات العقلية ، وهذا ليس وقفا على المثقفين الشباب ، بل وعلى كل مثقف يزين صدره بالألقاب الأكاديمية العليا أيضا .. لأنه ببساطة لا حدود للوعي والادراك في العقل البشري .
الثقافة لها مدلولات ابعد كثيرا من مجرد الابداع الأدبي ، الأدب هو الجانب الروحي للثقافة ،والثقافة بمفهومها التاريخي تشمل الابداع المادي ايضا ،أي انجازات الانسان العمرانية في الاقتصاد والمجتمع والسياسة ، وهذا يحمل الناقد على الاخص ، وكل المبدعين في مجال الثقافة الروحية ، مسؤولية كبيرة ان لا يغرقوا في المبالغات المرعبة في بعدها عن الواقع ، تماما كما في العمليات الاقتصادية والاجتماعية ، ولا يمكن تجاوز الواقع بالكلمات الجميلة فقط
لا يستطيع احد ان ينفي الجهود التي كرستها للمبدعين الشباب ، ومتابعة انتاجهم في ظل تجاهل كامل تقريبا ، للحركة النقدية المحلية لكتاباتهم خلال العقود الماضي . كان التجاهل نفسه هو دافعي للتورط في الكتابة النقدية.. واعترف اني غير نادم ( رغم ما تعرضت له من هيجان غاضب ، وهو من ضمن أسباب لجوئي للأسماء المستعارة) اذ اعطاني ذلك ادوات عدة في التعامل مع النصوص ، وتطوير قدراتي الذاتية على تحسس الأبداع، والتمييز بين المبدع الجاد والموهوب وبين مدعي الابداع ، الضحلين نصا وفكرا ، وتشكيل آرائي النقدية والثقافية والابداعية العامة ، حول كل ما يتعلق بالثقافة من امتدادات فكرية واسلوبية ..
كان النقد وقفا على نخبة ، لا انفي اهليتها له ، ولكن ما التزموا به من انغلاق نقدي ثقافي على اسماء محددة، ترك ترسبات سلبية ، وهي تجربة ذاتية عبرتها ، دفعتني في لحظة ما الى الاهتمام (او التورط) بالنقد ، وكتابة المراجعات النقدية والثقافية ، ومحاولة استجلاء العالم الفكري الواسع للثقافة، ليس بمضمونها الروحي فقط ، كإبداع نثري او شعري ، انما بمضمونها الفكري والفلسفي العام .. بصفتها شكل من اشكال الوعي الاجتماعي ، ومحورا للنهضة الفكرية والثقافية العامة لمجتمعنا خاصة ، ولكل المجتمعات العربية التي نتواصل معها بحكم اللغة والواقع السياسي والانتماء القومي والحلم الواحد .
يمكن تصنيف ما قمت به ضمن مفاهيم ” الثقافة المضادة ” التي تقود الى خلق موجات متعددة من ردود الفعل الثقافية . نسبيا كاد الامر ان يكون قريبا من الانجاز . . لكن غياب المنابر القادرة على التماثل مع هذا الزخم المضاد ، والتلون الفكري لدى العديد من المثقفين ، والجبن الذي يميز البعض ، مع الأسف الشديد .. حال دون تحقيق اندفاعة مؤثرة للثقافة المضادة ، لدرجة تسمح بتحولها الى رافد ثقافي آخر في مواجهة “الثقافة النخبوية ” التي روجت عن طريق وكلاء حزبيين ..
دخلت وقتها في نقاشات حادة مع ممثلي تيار الثقافة النخبوية ، كان نقاشا حادا وممتعا كشف الضحالة الفكرية التي يعتمدها ممثلي هذه الثقافة، او من تبوأ “الدفاع ” عنها ، دون ان يعي اللعبة الثقافية وراء دوافعي ، حيث انني سياسيا نشأت في نفس التنظيم ، وهذا كشف لي حقائق كثيرة ، ساعدتني فيما بعد بتكوين شخصيتي الثقافية والسياسية والفكرية المستقلة ، وكشف ان معظم النقد الرسمي لم يتجاوز مساحة “النكد” الثقافي، وكان تبريره “الحزبي” أكبر وأعظم من أي تبرير ثقافي عقلاني!!
من المستهجن انه حتى الذين لهم مصلحة شخصية في ما حاولت ان اعطيه من دفعة للثقافة المضادة ، في مواجهة الثقافة النخبوية ، التي لم تسلم من انتقاداتهم .. لم يصل وعيهم للأسف الى مستوى يجعلهم يشكلون رافدا ثقافيا قادرا على فرض نفسه في الساحة الادبية ، كتيار ثقافي مضاد ، ولا اقول معاد ، لأن الثقافة تفترض التكامل ، والأضداد (الجدل) في الثقافة تقود الى الوحدة الثقافية ، عبر خلق ديناميكية من النشاط الفكري والثقافي المتعدد الوجوه . هذه هي على الأقل رؤيتي وقناعتي الفكرية ، بدون حوار لا تطور , التماثل المطلق يخلق الركود ( وهذا ما قضى على الثقافة النخبوية ) .. حتى في الفلسفة ، احد القوانين الفلسفية الاساسية ، يتحدث عن وحدة وصراع الاضداد ، وهو بالمفهوم الفلسفي ، قاعدة التطور في كل مجالات الحياة .. فهل تكون الثقافة شواذا لا تخضع لهذه القاعدة ؟!
من المهم ان يترسخ وعي اساسي بان الثقافة ليست للنخبة الاجتماعية او السياسية ، وليست لنخبة يختارها حزب ما او دولة .. مررنا على هذه التجربة .. وما تركته لنا اليوم فقر فكري وثقافي .. وحياة ثقافية بائسة .
ان العملية النقدية تشترط ما هو أعظم وأكثر امتدادا من مجرد تكرير اصطلاحات ، او الادعاء الذي يكرره البعض: “بأني اكتب واتعامل مع النصوص حسب معايير نقدية .. الخ ” . لا يا اصحابي ، هذا ادعاء فارغ !!
العملية النقدية تحتاج الى رؤية اكثر اتساعا من موضوع العمل الذي نتناوله بالتحليل او الاستعراض النقدي . النقد هو عملية فكرية اكثر اتساعا من صفحات الكتب موضوع النقد ، النقد له سياقه الفكري وله امتداداته الاجتماعية . كل التقدير والاحترام للمناهج الأكاديمية في النقد ، ولكن هذه المناهج تتحول الى سجون للتفكير وقيود على الوعي وتشتيت للذائقة الادبية، اذا لم نحولها الى منطلق فكري ننطلق منه نحو الأصالة والتجديد في رؤيتنا الثقافية العامة .
ما يحدث في نقدنا المحلي ، بما فيه من يدعون الاكاديمية في نقدهم ، هو خلق نظام نقدي منغلق على ذاته ، ومنغلق على القارئ المفترض ان يتواصل مع الابداع ومع النقد . ما يحدث ان الناقد يكتب رسالة شخصية لصاحب العمل موضوع النقد ، وارضائه هي المهمة النقدية للناقد ، وهي القيمة الكبرى للكتابة النقدية السائدة اليوم في ثقافتنا وباتت تشكل حالة تثاقفية مزعجة وسلبية.
الثقافة ، ابداعا او نقدا ، يجب ان تكون فعل اجتماعي وعمل لاثراء الوعي التقافي والفكري للانسان . والنقد هو احد الادوات الهامة في هذا الفعل .
النقد اذا لم يتحول الى تيار ثقافي قائم بذاته ، وليس كتغطية فقط لبعض الاعمال الادبية ، يظل ظاهرة غير مجدية ومضرة ، تحول النقد الى ظاهرة سلبية يجب مواجهتها ثقافيا .
هناك علاقة عضوية بين النقد والايديولوجيا ، واعني بالايديولوجيا ليس فقط المنظومة الفكرية ، انما القدرة على الربط بين الثقافة والمجتمع ، بين الثقافة والانسان . وهذا هو الغائب الكبير عن الممارسات النقدية .. وعن فكرنا وثقافتنا عامة!!
ومن هنا ابتعدت عن “النكد” الذي الهاني عن الكتابة القصصية. ووجدت نفسي اتخلص من ترسبات ثقافية لا تسر البال، لأتحرر فكرا وابداعا وانتج عشرات كثيرة من القصص وعشرات المقالات الأدبية والفكرية والسياسية.
وهو ما يشغلني اليوم!!
nabiloudeh@gmail.com