حوِّلت رواية غبرييل غارسيا ماركيز “مدوَّنةُ قتل معلن” إلى مسرحية غنائية في نيويورك، شبيهة، إلى حدٍ ما، بـ “قصة الحي الغربي” التي سبقتها بسنوات. في الحالتين، الجريمة الانتقامية معلنة سلفاً. لكن القتيل في رواية ماركيز هو سانتياغو نصار، ابن ابرهيم نصار، المهاجر اللبناني، أو “التوركو” الذي انشأ مزرعة ناجحة أورثها ابنه. ويبدو أن الإبن فض بكارة الآنسة انجيلا فيكاريو. فلما تزوجت هذه السنيور بياردو سان رومان، واكتشف العريس الهول الحاصل، سحب انجيلا من شعرها بعد ساعتين من الحفل واعادها إلى أهلها.
انتفضت السيدة والدة انجيلا، وحرَّضت ابنيها التوأمين على الانتقام لبكارة الشقيقة. كان الراحل يوسف بك وهبي قد اعطى الشرف تعريفاً لا يُنسى، إذ قال بصوته الجهوري المسرحي “شرف البنت يا هانم زي عود الكبريت، ما يتولعشي غير مرة واحدة”. ويبدو أن هذا التعريف موجود ايضاً في كولومبيا. ولكن بدلاً من ذبح الشقيقة لغسل الشرف المدمّى، كما يحدث عندنا، قرر التوأمان اللحامان، قتل سانتياغو نصار. وفور خروجهما ذلك النهار من سوق اللحامين بدأا بنشر الخبر.
لا يركِّز ماركيز على الجريمة، بل على ما بعدها. لا يحاكم القاتلين، بل القرية، الشرطي الذي لم يتحرك، والكاهن الذي لم يلتفت إلى ما سمع، بل ذهب إلى استقبال المطران المار في ميناء البلدة، والناس الذين رفضوا التصديق. لعل ارنست همنغواي، الذي حضر الحربين العالميتين، الأولى والثانية، كمراسل وسائق سيارة اسعاف، كان اشهر المعاصرين الذين كتبوا رواية الحرب. غير أن همنغواي ايضاً لم يكتب عن الحرب نفسها، فما هي إلا فظاعة عابرة. كتب عن آثارها وتبعاتها على الناس والنفس البشرية وطبائع البشر. الجبن والدناءة وانعدام المروءات.
يُشبه لبنان سانتياغو نصار، الذي يعرف الجميع أنه مهدد بالقتل، وجميعاً يرفضون أن يفعلوا أي شيء من أجله. موته معلن، لكنه ليس مسؤولية أحد. وبعد الجريمة يهاجر اهل البلدة جميعاً، وتمضي انجيلا في كتابة رسائل الحب إلى بياردو سان رومان، الذي سحلها إلى منزل أهلها، وبعد 17 عاماً، تتزوجه. وقد دُوِّن مقتل سانتياغو نصار كجريمة شرف. وثلاث سنوات سجناً للتوأم.
الحروب ليست في جرائمها، بل في تبعاتها. حرب العراق – ايران تركت نحو مليون ونصف مليون قتيل. الى اضعاف هؤلاء من اليتامى والأرامل والمعوقين والمحتاجين. النساء السوريات الـ 75 اللواتي عَرفنا عنهن في عصابة الرق الأبيض في جونية، لسن سوى فاصلة بسيطة من فواصل المأساة، أو الاستعباد. الروايات التي صدرت عن نساء برلين بعد الحرب، هي عن نساء لم يستعبدهن القوادون والجلادون وتجار الدموع، لكن الجوع هو الذي استعبدهن، والحاجة إلى سيجارة، وإلى فردة كلسات من النايلون. الفردة الثانية من الزبون التالي.
أين المشكلة الكبرى في هذه المسألة؟ ليست في عصابات القوادة. فالقواد الذي يحلل لنفسه المتاجرة بالسقط، لن يتوقف عند اغتصاب، أو اجهاض، أوتعذيب، أو حرمان، أو عويل. المسألة هي أن تستفيق “أكبر مدينة مسيحية في الشرق” على أنها تؤدي بين بيوتها وعائلاتها وبنائها ومدارسها اقبية وسراديب طغت اسماؤها على اسماء مراكز العلم والفكر. المسؤولية هنا ليست فقط مسؤولية الأمن، والتواطؤ الفاجر، وأضواء الابتذال، ونيون البغاء، بل ايضاً مسؤولية المدينة وبلديتها وحماة جذورها ونوابها.
لا أحد يريد أن يمنع عن جونية مداخيل السياحة والتجارة واللهو وسبل العيش ومتعة الحريات، ولكن ما من أحد يرتضي لها – أو لغيرها – هذه الأوبئة وهذه السمعة. لقد اعتبر أحد نواب كسروان مرة أنه حقق أهم نصر منذ غودفروا دوبويون وريتشارد قلب الأسد، عندما منع أميراً سعودياً من شراء قطعة أرض تسمى “جبل الصليب”. يحسن بالسادة النواب أن يحصوا ما لم يتم شراؤه في المنطقة حتى الآن. وشرف المدينة ليس في سوق العقار، بل في مَلِكة الجذور والأصول. ونتمنى لجونية أن تكون معركة البلديات المقبلة، معركة ردع الغزو الذي تسرب إلى احيائها وشوارعها حتى اعتادته، إلى ان ايقظتها عصابة “اللحية الزرقاء” إلى صنوف الجحيم الاخلاقي التي تعفّن سمعتها وصورة لبنان، وبقايا الإنسانيات…
في فرنسا تقليد يقضي بأن يكون رئيس الجمهورية رئيس بلدية ناجحاً في مدينته، أو بلدته اولاً. أو أي سياسي مرشح للرئاسة. فرنسوا ميتيران في شينون. جاك شيراك في باريس. غاستون دوفير في مرسيليا. واليوم الان جوبيه في بوردو بعد جاك شابان – دلماس.
لقد جَعَلنا رئيس بلدية جبيل نفتخر نحن ايضاً بأهمية ومعاني الإدارة المدنية، بعد كل ما حازت جبيل من سمعة عالمية في التنظيم والقانون والابداع. وبعدما كان صيت المدينة التاريخية أن نائبها ريمون اده، تفرد رئيس بلديتها الشاب باعطاء العمل البلدي ما يستوجبه من اداء حضاري وأهلي.
قلَّت المنارات وأطفئت. ولا تزال. وثمة من يعلن لنا موت لبنان من غير أن نصدّق، كأنما قتل الأوطان لا يكون إلا بحربة ومرة واحدة. كأنما تفريغه ليس قتلاً. كأنما موت اقتصاده ليس قتلاً. كأنما الفساد الفاجر المتعجرف المتغطرس اللزج المدلل العلاك الفارغ، ليس قتلاً. كأنما الجبن في تسمية سارقي البلد والحرامية وابطال الفضائح المدوية، ليس موتاً.
تجاهل الشرطي موت سانتياغو نصار، المعلن سلفاً. وانهمك الكاهن في استقبال المطران، لكن المطران كان على موعد أكثر أهمية في مدينة أخرى. واللحامون وبائع الحليب الذين ابلغهم شقيقا انجيلا نياتهما، لم يبلغوا ابن ابراهيم نصار الأمر. أن شرف الآنسة انجيلا على المحك. والفاعل معروف. وسوف تتزوج من الرجل الذي سحلها إلى أمها ورماها لها على انها ثيب، إذلت رجولته ولم تترك له أعز وأشرف لحظة في ذكوريته: لحظة التأكد من أن عذارى كولومبيا قد حفظن شريط التدشين من أجله.
ليست المرة الأولى اقارن وضع لبنان برواية غارسيا ماركيز. اعتذر عن التكرار، لأنه غير مهني، ولأنه يوحي بأكثر ما يرعب الكتّاب، وهو أنهم دخلوا مرحلة السأم. لكن أصوات “مدوّنة موت معلن” كمسرحية غنائية، ترن جارحة كلما سمعنا لازمة أخرى من النشيد الجنائزي وصنوج النهايات تخرج إلى الشوارع. كل يوم يخرج الشقيقان بدرو وبابلو فيكاريو إلى الشوارع لقتل جزء آخر من الجسم المحطم: الاتجار بالرقيق، والاتجار بالمواصلات، والاتجار برمز الدولة، الذي تحوّل إلى رمز تاريخي للسيب والقحة واللادولة. وفي معرض البحث عن الكرامة المهانة، سحلنا انجيلا فيكاريو إلى بيت اهلها. وارسلنا بيار حشاش على رأس مفرزة من “حرّاص” لبنان إلى مكاتب “الشرق الأوسط” يلقنونها درساً في حماية العَلَم وممارسة الحرية. وكان السيد حشاش، من شدة حرصه على رموزية وطنه، قد أعلن نفسه مرشحاً للرئاسة، ومغنياً لأعضاء جسده الوطني.
في إحدى المراحل، كثرت في عهد جمال عبد الناصر التعيينات الوزارية والحكومية السقيمة. وذهب إليه محمد حسنين هيكل في إحدى زياراته شبه اليومية من غير أن يبدي رأياً. وأخيراً سأله الرئيس المصري: “ايه يا محمد؟ ما فيش رأي؟ ما فيش تعليق؟ وقرأ عليه هيكل البيتين التاليين من شعر كامل الشناوي:
دَعمَتها بالواهنين وصنتها/ بالضائعين لكي تطيل بقاءها
إن كان هذا للبقاء فيا ترى/ ما كنتَ تفعلُ لو اردت فناءها.
سوف تنغرس بقعة الرق هذه في تاريخ لبنان، مهما كانت بقع الدم الأسود كثيرة في عالمنا وجوارنا. التوحش لا يبرر التوحش. نظرية النسبية هنا، سافلة ولا معنى لها. الذين بكوا، أو حطموا، أو هاجوا على رسم كاريكاتوري يكذب وجود الدولة، فليحملوا مصباح ديوجين، ويبحثوا عنها في البقاع، وفي سهول وسهولة الخطف، وليخبروا الموتى لماذا يوجه الادعاء، بعد سنوات على جريمة بتدعي، التهم إلى ثمانية غائبين لا يجرؤ أحد على تسليمهم المذكرة.
في النهاية، يموت ابن ابراهيم نصار، وتتزوج انجيلا فيكاريو الرجل الذي نسي الآن موضوع البكارة، ويغادر أهل البلدة جميعاً بعيداً عن ساحة الذكريات وموقف الجبن الرهيب أمام قتل سانتياغو. فالجميع شاركوا في قتله، كل بوسيلته، وحصته، ولكن في ادانة جماعية متوازية. لا ينفع غسل الايدي بالدماء. والجريمة الجماعية لا تعني توزيع الذنب و تحصيص الجرم. وسوف يأتي يوم يسقط خيالة الأحصنة الخشبية كما اعتلوا. ويكون لم يبق شيء يُبكى عليه. دائما، قال ماركس، يكرر التاريخ نفسه في مهزلة.
* نقلا عن “النهار”