في العراق دفنت الشيعية السياسية الإيرانية صورة الحرمان، وانتقلت من صفوف المستضعَفين، إلى المستضعِفين (بكسر العين). أدبيات الحرمان والاضطهاد حلت مكانها ادعاءات الاستقواء، وممارسات السطوة التي تمتد من الهيمنة الأهلية في الأحياء إلى التهجير السكاني المنظم، والإلغاء السياسي الممنهج للساسة السنّة وأحزابهم وشخصياتهم.
مع ذلك، سيدخل العراق في تاريخ علاقة الشيعة بالدولة في خانة فشلهم المريع في إقامة دولة، مستقرة بالحد الأدنى، وقادرة على توفير منسوب معقول من الخدمات العامة… بدد هذا الفشل، أيضاً، الادعاء الإيراني أن إيران تريد للشيعة العرب خيراً. كان يمكن لتسلمهم قيادة بلاد ثرية كالعراق أن يكون فرصة لتقديم نموذج في الحكم الرشيد والمصالحة الوطنية وصيانة الشراكة، لكن النتيجة كانت، وبرعاية إيرانية، حفلة نهب وتبديد ثروات، وتعميق جراح، وتفتيت الباقي من أواصر تربط العراقيين بعضهم ببعض… وكل ذلك على أنقاض دولة فاشلة بكل المقاييس؛ ففي عز فورة أسعار النفط، ظل العراق يتصدر تصنيفات الدول الأكثر فساداً في العالم، بلا أي استثمارات في قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية والخدمات… وبلا أمن وأمان.
مقتدى الصدر، المتصدر سباق الانتخابات البرلمانية العراقية، هو في نسخته السياسية الأخيرة، ابن هذا المآل العراقي وانتفاض العراقيين على هذا المآل. قد يكون مقتدى الصدر أكثر السياسيين العراقيين تحولاً وانشقاقاً على ذاته. هو من الذين حملوا البندقية باكراً في وجه الاحتلال الأميركي، ومن ظلوا يستنزفون شرعية النخبة العراقية المغتربة والعائدة من المنافي بعد عام 2003، في مقابل بقائه هو بين العراقيين، عرضة لبطش صدام حسين، كما يشهد تاريخ عائلته المأساوي. وانتقل الصدر إلى خانة القومية العراقية متدرجاً في نقد طهران وواشنطن ومنحازاً لمظالم العراقيين غير الشيعة كسنّة الأنبار، ولاحقاً سنّة سوريا داعياً بشار الأسد للتنحي. واستوى أخيراً؛ لاعباً محترفاً على أرض شعبوية، تستثير الوطنية العراقية وتستثمر في الفشل السياسي والخدماتي والإنمائي الذي ميز أداء الحكومات والأحزاب، لا سيما الشيعية، جاعلاً من نفسه قيصر مكافحة الفساد.
منذ عام 2016 قاد تحالفاً مع الحزب الشيوعي ومدنيين مستقلين وسنّة، لتصعيد معركته ضد الفساد التي توجها باحتلال المنطقة الخضراء، مرسخاً في أذهان العراقيين أنه سياسي من خارج نادي النخبة التي تحترف لعبة المحاصصة وحكم العصابات. وعلى هذه المنصة حل الصدر أولاً في الانتخابات، على الرغم من تدني نسبة المشاركة بالمقارنة مع مشاركة العراقيين في ذروة «سنوات الدم». لم يكن غريباً أن تتوج جماهير الصدر الاحتفال بالنصر الانتخابي، بهتافات: «إيران برّا برّا، بغداد حرة حرة». فالتحالف الذي قاده الصدر إلى الفوز هو نفسه التحالف الذي جاهر السيد علي ولايتي، مستشار خامنئي، بأنه لن يُسمح له بأن يحكم العراق؛ في أوقح تدخل في كل مسار العملية الانتخابية.
ما تخشاه إيران ليس فقط القدرة الاستقطابية التي تتميز بها حركة الصدر، ونجاحه في تظهير الفشل الإيراني المريع في العراق في بناء دولة تمتلك حداً أدني من شروط الدولة، ومن موقع متصلب تجاه الأميركيين… ما تخشاه إيران أكثر أن الإرث العربي في الهوية السياسية الصدرية إرث راسخ وعميق وليس افتعالاً سياسياً، رغم التعرجات التي مرت بها هذه الهوية. وقد شكلت زيارات الصدر إلى الرياض وأبوظبي والقاهرة ومواقفه السياسية من قضايا فقهية شائكة مثل ترحّمه على الخلفاء الثلاثة غير الإمام علي بن أبي طالب، مصاديق على الخط الذي ينتهجه.
بالطبع لا تحل زيارة أو زيارتان للصدر خيوط العراق المتشابكة. أضف أن مراقبي ظاهرته لا يستطيعون أن يجزموا بقدرته على التحول من قوة اعتراض سياسي إلى قوة حكم رشيد، يترجم شعاراته السياسية. فالخشية أن الصدر اعتاد الاعتراض والرفض، ولكن ماذا عن الكفاءة البناءة في الحكم؟ رغم ذلك، فإن الاستنفار الإيراني بيّن، لأن لخسارة العراق معنى استراتيجياً للمشروع الإيراني الذي ما انفجر وتضخم إلا بعد سقوط صدام عام 2003.
وثمة مفارقة لا بد من أن طهران قرأتها جيداً، وهي أن أغلبية من قاطعوا هم ممن يشكون من التهرؤ السياسي والخدماتي وينبذون الطبقة الحاكمة، الإيرانية في غالبها، مما يعني أنه لو نجح الصدر أو غيره في رفع مستوى التصويت، لكانت حصة إيران أقل بكثير مما هي عليه الآن.
وقف العراقيون سابقاً على مفترق الطريق نفسه… عام 2010، هزمت «القاعدة في بلاد الرافدين»، وتراجعت أهوال الحرب الأهلية، وكان الرجاء أن تكون الانتخابات العامة ممراً نحو سلام عراقي مستدام. غير أن مزيجاً من حسابات أميركية ومناورات إيرانية أبقى على نوري المالكي في رئاسة الحكومة خلافاً لنتائج صندوق الاقتراع وتصدر إياد علاوي النتائج. وبعدها بأربع سنوات انهارت مرتكزات التعايش الهش وولد «داعش»… واليوم نحن هنا! هل يعيد العراق مرحلة ما بعد «القاعدة» في مرحلة ما بعد «داعش»، أم يؤسس لحكم جديد بشروط جديدة؟
هذا سؤال يلوح في العراق وصدى جوابه يقرر مصير المشرق العربي وأبعد.
المصدر الشرق الاوسط