في بدء المرحلة لإعدادية جاءنا من دمشق مدرس للتربية الاسلامية وكان واضحاً من الوهلة الأولى أنه غريب عنا في كل شيء بلحيته وبلهجته الشامية ولباسه حيث كان يلبس ثوب طويل – قلبية –وفوقها جاكيت ويضع على راسه قبعه صغيرة بيضاء على طريقة أئمة الجوامع . بداغير مرتاح وغيرسعيد لقدومه الى هذة المحافظة كان يُعرفُ ذلك من نظراته الحذرة االمتفحصة وانعدام الود وجمود الوجة في حديثه معنا , ونظرا لكوني كنت من الطلاب المجتهدين فقد تابعت معه الدروس ونظمت كما نصحني دفترا صغيرا لمعاني الكلمات العربية القرآنية الصعبة أذاكرها باستمرار واحفظها .
بدا متردداً لا يعرف كيف يضع يده كما يقال على طريقة لتدريس مادته فنحن لانحلف لا بحياة الكعبة ولا بحياة الرسول والمدينة كلها آنذاك فيها جامع واحد لا يُسمع صوت آذانه إلا إذاكانت الرياح مواتية ,, ولا نعرف بالأساس شيئا عن تفاصيل الاديان, ونعرف قليلاًعن أسماء الملائكة ووظائفها من كتب التربية الاسلامية المفروضة على الكل ؟, ونرفع عن الطريق إن رأينا صفحة قرآن أو إنجيل أو أية ورقة عليها اسم الله ونقبّلُها أحياناً لإعتقادنا أنها ذات إحترام , وليس في حياتنا عبادات يومية أو صلوات خاصة , ما يحكمنا اجتماعيا واخلاقياً هو التقاليد والأعراف السائدة والمتأثرة بموروث ديني خاص يختلف كليا عن الاسلام السني -وهذة حقيقة يجب ان تُعَرفْ – . ومن ناحية أخرى أؤكد القول اننا فيزيائياً نتطابق مع بقية السوريين فلنا يدين ورجلين وراس وأذنين وعينين وجهاز تناسلي !!!! . تلزمنا الدولة بدروس التربية الدينية الاسلامية – على المذهب الحنفي – كغيرها من المواد ندرسها ونتقدم لامتحانها ولا اذكر ان طالبا صغيرا في عمرنا آنذاك سأل سؤالاً في الدين الاسلامي أوقال كيف ولماذا …أغلبية من الدروز مع قلة من المسيحين وأقل منهم – ان وجد – من السنة وجميعنا تقريبا من طبقة متوسطة بدلت حياة الريف حديثا وانتقلت للعيش في بيوت حديثة صغيرة أو شقق سكنية.
أثار فينا هذا المدرس نوعأ من الشك في حياتنا كلها بدءاً من طريقة غسيل وجوهنا الى طريقة دخولنا الحمام وكان يتحدث بكلمات بدت مستهجنة جداً لمن كان في سننا وفي مجتمعنا مثل استنجاء , وضوء , حدث أكبر أصغر ,مسح الدبر, وكان يرينا في كل مرة مجموعة من الأوراق الصغيرة يحتفظ بها بجيب سرواله الخلفي خاصة لمسح الدبر ) لم يكن الكلينكس قد انتشر بعد )؟؟ وكان وجهه يلمع بألقٍ خاص لطالب اسمه احمد والده كان ضابطاً في الشرطة المدنية انتقلت عائلته الى السويداء من حمص بسبب عمل الوالد..ذات يوم أراد الأستاذ ان يعلمنا الصلاة فطلب من أحمد ان يخرج وأجلسه على طاولة المدرس في مكان مرتفع وطلب منه ان يصلي وصار يشرح لنا عن حركاته وماذا يقرأ ثم اختار منا مجموعة كنت انا وصديقي – يحيى- من ضمنها أن ترافقه الى الجامع لتصلي معه وليدربها على الصلاة .
وصانا الجامع وكنا جميعا نسير وراء استاذنا نتزاحم ونتدافع و نتشاجر ونتشابك بالايدي والارجل بمرح وسعادة وزهو وكل يريد ان يسير بمحاذانه ويقترب منه اكثر . واثناء الوضوء بدأت الضحكات المكتومة بالظهور خاصة بعد ان شممنا رائحة المناشف المتخمرة ودخلنا بهو الجامع وصفنا الاستاذ صفا واحدا وقَدّمَ يحيى إماماً وابتدانا نصلي. لاحظ الاستاذ الجميع متململاً متقلقلاً يغالب الضحك وليس من جدية في الامرإلا مسايرة واحتراماً لطلبه وفرح طفولي بمرافقة الأستاذ فقط .. لكنه ظل صامتاً كامد الوجه وكانه يغالب قهراً مزمناً . لم نذهب مرة أخرى يبدو ان الاستاذ عرف ان لا فائدة أوان أحدهم شرح له وضع البلد أو أن مدير المدرسة طلب منه ان يلغي موضوع دروس الصلاة العملية ؟؟
ذات شتاء وكانت الثلوج تتكدس على الجبال الشرقية للمحافظة في المنطقة المسماة بالجبل سار الوادي الكبير الذي يمر داخل المدينة محدثا جلبة كبيرة وكان منظره كنهر جارف غزير وفاضت مياهه و ارتفعت فوق منسوب الجسر القديم وصارت السيارات العسكرية وغيرها تنقل العابرين الى الضفتين. تفرع عن هذا النهر الموقت فرع صغير سلك درباً قديماً ودخلت مياهه الى المدرسة الإبتدائية المجاوره لمدرستنا ثم فاضت الى مدرستنا فغمرت الساحة الرئيسية وابتدأت تتسرب الى الطابق الأرضي فخرج التلاميذ والمدرسون من الشعب السفلية ثم بقية الشعب العلوية وتجمع الجميع يراقبون المياة مغتبطين . فجأة توقفت سيارة شرطة أمام المدرسة ونزل منها شرطيان وأستاذ التربية الدينية هذا ودخل الجميع الى المدرسة ثم خرجوا يصحبون تلميذاً وكان وراءه مدير المدرسة وعدد من المدرسين وكان التلميذ يقول بدفاع طفولي ويقسم : والله لم أقل له شيئاً لم اتكلم هكذا.؟ وذهب الجميع معا في السيارة . استشعرنا الخوف والقلق فتقاربنا وتجمعنا معاً نتساءل فلم يسبق ان اتت شرطة الى المدرسة واخذت تلميذا لا يتجاوز عمرة الثالثة عشرة قبلاً .. علمنا بعدها أن الطالب المسكين وكان من إحدى قرى المحافظة قد قال لأستاذ التربية الدينية بلهجته القروية البسيطة : يا أخي فضحتنا (أي أتعبتنا وأهلكتنا ) بمحمد هذا .
عاد التلميذ ومدير المدرسة بعد ساعة تقريبا كان الولد شاحباً مرتبكاً ركض الينا سريعاً واختلط معنا كحمل كان تائهاً وسألناه ألف سؤال وسؤال قال .. أن استاذ التربية الدينية اتهمه بأنه أهان الرسول ؟؟
لم يقم بعدها هذا الأستاذ في المحافظة طويلاً اختفى وحل أخر بديلا عنه رأيته بعد أكثر من ست سنوات حين التحقت بكلية الطب , ذاك اليوم كنت أجلس على المقعد في أحد ميكروات النقل الداخلي وسمعت صوتاً أعرفه ولا أنساه نظرت كان واقفاً ممسكاً بإحدى يديه قضيب المعدن المثبت بسقف الميكرو وفي يده الأخرى دفترصغير على هيئة مجلد يقرأمنه بصوت عال, كان واضحاً أنه القران وكان واضحا أكثر انه يتعمد رفع صوته والترتيل دون اعتبار للجلوس وللصاعدين والنازلين أوأصوات المركبات في ذاك الصباح المزدحم . نزل من الميكرو قريباً من منطقة الجمارك وتململ الجميع وأعادوا أوضاع جلوسهم بحركات تنم عن الراحة والفضفضة ,حمدت الله أنه نزل قبل أن يستقبل الميكرو فرح وضوء أوتوستراد المزة…