لا ينبغي أن نقلل من حجم الأزمة التي يمر بها الكيان الصهيوني نتيجة حملات المقاطعة الدولية الآخذة في التزايد والانتشار، فهي أزمة حقيقية وخطرة، تمس المواطن والمشروع، والحكومة والكيان، والاستقرار والاقتصاد، وتؤثر على كل قطاعات الشعب ومرافق الحياة، وتلامس المشاعر والعواطف، والرغبات والغرائز والطباع، وقد دفعت المواطنين والتجار، والمستوطنين ورجال الأعمال، والأساتذة والطلاب، وكل من له علاقة بالخارج، أو يرتبط مع آخرين بعملٍ، إلى التفكير الجدي والمسؤول حول مآلات حملة المقاطعة الجديدة، ومدى تأثيرها على مصالحهم الخاصة الفردية والمباشرة.
فقد اعترف الإسرائيليون أنفسهم بعالي الصوت وعبر مختلف المسؤولين السياسيين والأمنيين ورجالات الإعلام والاقتصاد، أنهم يعانون من أزمةٍ وجودية كبيرة تستهدف وجودهم الإنساني، وهويتهم الدينية، ومستقبل كيانهم السياسي، وتؤثر على جوهر مشروعهم وحلم أبنائهم وإرث أجيالهم، وتعيق مخطاتهم، وتحبط آمالهم، وتشعرهم بأنهم مستهدفون ومقصودون، ومنبوذون ومكروهون، ومدانون ومعاقبون.
فمعركتهم هذه المرة ليست مع الأعداء والخصوم، ولا مع الجيران والمنظمات، ولا تقودها جامعة الدول العربية وبعض الهيئات الشعبية التي اعتادت رفع سلاح المقاطعة في وجه الكيان، إنما معركتهم هذه المرة هي مع أصدقائهم وحلفائهم، ومع المحسوبين عليهم عبر التاريخ أنهم سندهم ونصيرهم، وأنهم الذين وقفوا معهم خلال سنوات التأسيس والتمكين، والذين ناصروهم في الحروب، وأمدوهم بالسلاح والعتاد، ووقفوا معهم في الأزمات، وصدوا العرب عنهم ومنعوهم من تهديد أمن كيانهم وسلامة مواطنيهم ومصالحهم.
ليس من السهل على الإسرائيليين مواجهة مؤسسات دولة كبريطانيا التي آذنت قديماً بتشكيل كيانهم، وإعلان دولتهم، وكانت السبب الأول في وجودهم، وكانت تعتبر الحليف الأول لهم، فهي اليوم من خلال مؤسساتٍ كثيرة، اقتصادية وأكاديمية وإعلامية وفنية وغيرها، تدعو إلى مقاطعة الكيان الصهيوني، وتحرض على عدم دعوته إلى أي نشاطٍ دولي، والانسحاب من أي محفلٍ يكونون فيه، والامتناع عن تقديم أي دعمٍ أو عونٍ لهم، والتوقف عن التبادل العلمي والأكاديمي والفني، والامتناع عن تسيير وتنظيم رحلاتٍ سياحية خاصة تلك التي تتوجه إلى المناطق المقدسة في مدينة القدس، أو التي تشمل برامج زيارة إلى المستوطنات والتجمعات السكانية اليهودية في المناطق الفلسطينية، والتوقف عن مختلف أشكال التعاون التي كانت بينهما طبيعية ونشطة.
في الوقت الذي ينشط فيها حقوقيون ومهتمون بحقوق الإنسان، وناشطون إعلاميون وسياسيون، في الدعوة إلى تنظيم وقفات احتجاجية وتسيير مظاهراتٍ معارضة، ضد مسؤولين إسرائيليين يزورون بريطانيا، ويلتقون برئيس وأعضاء الحكومة البريطانية، ويتلقون منها الدعم والإسناد حتى في ظل عدوانها على قطاع غزة، ويحرضون جمعيات حقوق الإنسان وغيرها لتتقدم بشكاوى واعتراضات لدى المحاكم البريطانية، تطالب فيها باعتقال المسؤولين الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وبالمسؤولية عن إلحاق أضرارٍ جسيمة بالشعب الفلسطيني، ولا يستثنون من حملتهم المسؤولين السياسيين على اعتبار أنهم الأصل في القرار.
الأمر لم يعد يقتصر على بريطانيا وحدها، بل معها وسبقتها إلى مواقفها دولٌ أوروبية عديدة، بالإضافة إلى كندا وبعض الدعوات الأمريكية والأسترالية الخجولة، إلا أنها تبقى نذرٌ خطرة ودعواتٌ جادة، يخشى الكيان الصهيوني منها ويتحسب لها، فهي دعواتٌ آخذةٌ في التوسع والانتشار، والامتداد والتأصيل، الأمر الذي جعل الإسرائيليين يشعرون أن أسس كيانهم تتزعزع، وأن قواعد بنيانهم بدأت تنهار، وأن إمكانية الصمود في مواجهة الأصدقاء والحلفاء صعبة جداً، وهي مواجهة تؤدي إلى تفكك المجتمع وخلخلته، وتقود إلى تصدعه وتفككه، وتزرع بينهم صواعق تفجيرٍ حقيقة، وهي ليست كمواجهة الخصوم والأعداء، الذين يوحدون مواقفهم، ويصلبون صفهم، ويجمعون كلمتهم معاً، معارضةً وسلطةً في حكومة وحدةٍ وطنيةٍ، في ظل الحروب أو الأزمات، لمواجهة خطر الأعداء التقليديين والتاريخيين.
هذه المواجهة الجديدة مع دول أوروبا ومجموعة الأصدقاء لا تدفع الإسرائيليين إلى الوحدة والاتفاق، ولا تقودهم إلى التفاهم والتعاون، فهي تختلف عن تلك المقاطعات التي كانوا يواجهونها تاريخياً مع العرب، إذ أنها كانت دوماً سبباً في وحدتهم، وعاملاً في تماسكهم، وهي التي كانت تشجع أمريكا وأوروبا ودول العالم إلى التعاطف معهم ومساندتهم بالمال والسلاح، ومحاولة تعويضهم عن الأضرار التي تلحق بهم نتيجة المقاطعة العربية، وبدلاً من أن يكون سلاح المقاطعة العربية للكيان الصهيوني حاداً ومؤلماً، كان دوماً عامل إنعاشٍ لهم، وسبباً قوياً في تعميق علاقاتهم بالغرب، وتمتين تواصلهم مع مختلف مؤسساته، لئلا يتركوه وحيداً في مواجهة العرب المعادين والمقاطعين والمحاربين.
ومن جانبٍ آخر، لم تكن المقاطعة العربية مؤذية للكيان الصهيوني على كل المستويات الاقتصادية والإعلامية والأكاديمية وغيرها، إذ أنه لا يوجد في الأصل تعاونٌ اقتصادي أو تبادلٌ تجاري بينهم، كما أن كبريات الشركات العالمية التي تتعامل مع الدول العربية، وتلتزم معها باتفاقياتٍ عديدة، لم تكن تلتزم أو تقبل بمقاطعة الكيان الصهيوني، ولم تمتنع عن التعامل معه، مهما كان الميزان التجاري الذي يربطها بمجموع الدول العربية عالياً.
أما المقاطعة الجديدة فهي مؤلمة وقاسية بالنسبة للكيان الصهيوني، ذلك أنها تطال المؤسسات الأمنية والعسكرية، وبرامج التسلح والبحث العلمي، ومشاريع التطوير والبناء، وتضيق على المستوطنات، وترفض التعامل مع المستوطنين، وتمتنع عن تقديم أي مساعدةٍ أو عونٍ لهم، ولو كانت شراكة أو مساهمة، أو مساعدة مادية أو معنوية، الأمر الذي بات يشكل خطراً على اقتصاد المستوطنات، التي كانت تعتمد كثيراً على دعم أمريكا ودول أوروبا لها.
للأسف فإن المقاطعة الغربية الجديدة للكيان الصهيوني جاءت في ظل حالة الانحطاط العربي، وفي ظل الانقسام والتردي والتمزق والاختلاف والاحتراب الذي يعيشه العرب في بلادهم، فما باتت القضية الفلسطينية تتقدم وتتصدر، ولم تعد قاسماً مشتركاً ولا عامل وحدة، ولا عنواناً يلتقي عليها الفرقاء ويجتمع من أجلها الخصوم، وما أصبح الكيان الصهيوني هو العدو الأول للأمة العربية، بل بات صديقاً أحياناً ومحلاً للثقة في أحيانٍ أخرى، وضاعت في ظل الفوضى والخراب قيمنا النضالية، ومفاهيمنا الثورية، وقواسمنا الوجودية المشتركة، فهل تجدي مقاطعة الغرب في ظل سقوطنا، وهل ينفع سلاحهم في ظل انهزامنا، وهل ينجح الغرب في تحقيق ما عجزنا عنه، وإنجاز ما فشلنا في الوصول إليه من أهدافٍ وغاياتٍ.
بيروت في 22/8/2015