دانيال كيرتزر: الشرق الأوسط
استثمرت الولايات المتحدة الكثير لعقود في عملية السلام بالشرق الأوسط. وحان الآن وقت تبني الولايات المتحدة سياسة جديدة واستراتيجية جديدة وخططا مرحلية جديدة، بسبب ما تواجهه المنطقة وعملية السلام من مشكلات معقدة. وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن استثمار الولايات المتحدة في عملية السلام يعد إهدارا للوقت، فإن العكس هو الصحيح، فمثل هذا الاستثمار سوف يؤتي ثمارا، إذا نجح في توجيه الصراع نحو الحل، وسمح للمنطقة بالتحرك من أجل التصدي لطموحات إيران في السيطرة. إن عدم القيام بأي شيء أو القيام بالقليل، هو الذي سيؤدي إلى المشاكل.
من المهم أن تتخلص الولايات المتحدة عند وضعها سياسة أو استراتيجية أو خططا مرحلية، من الافتراضات البالية المتعلقة بإحلال عملية السلام. أولا: عملية السلام ليست مجرد مفاوضات، بل الهدف هو وضع نهاية للصراع والمطالبات بالأرض، والتوصل إلى اتفاق عادل بين إسرائيل والفلسطينيين. لا ينبغي أن تصبح المفاوضات، وهي التركيز على العملية، هدفا يستهلك الوقت والجهد. لا بد أن تضع الولايات المتحدة سياسة تتعامل مع القضايا الأساسية في النزاع؛ وهي: الأرض، والحدود، والأمن، والقدس، واللاجئين، وطبيعة السلام والدين والفكر والخطاب. ثانيا: لا تشبه كل فكرة لحل الصراع الأخرى. طرح حل الدولة، وحل الثلاث دول، والترتيبات المؤقتة على المدى الطويل، والثقة والهدنة وتشكيل كانتونات وأن الأردن هي فلسطين – خطير ومضلل وخاطئ. لا يوجد بديل جاد عملي لتقسيم الأرض، التي يزعم كل طرف أنها ملكه، إلى دولتين. لن يحقق التقسيم تطلعات أي من الطرفين، أو الخطاب القومي والديني والتاريخي لكلا الطرفين.
مع ذلك، يمثل التقسيم قرارا تاريخيا سيمكن الطرفين من التمتع بالاستقلال وممارسة السيادة على أرضهما.
ثالثا: يجب على الولايات المتحدة أن تتخلى عن احتكارها لعملية حل الصراع. لا يزال الإسرائيليون والكثير من العرب ينظرون إلى أميركا باعتبارها طرفا ثالثا أساسيا. مع ذلك، يمر الشرق الأوسط بمرحلة تحول جذرية، وتتطلب أشكال السلطة الجديدة طريقة جديدة لتنظيم الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى تحقيق السلام. تحتاج فلسطين إلى دعم يمكن أن تقدمه أطراف أخرى، وتحتاج إسرائيل إلى الاعتراف الذي يمكن أن يمنحه لها التواصل الدولي.
رابعا: لقد آن أوان وضع نهاية للجدل السخيف الدائر في الولايات المتحدة حول «الاقتران». لن يحدث حل الصراع العربي – الإسرائيلي في ذاته تحولا في المنطقة، وبالمثل لن تؤدي عمليات التحول الديمقراطي بالضرورة إلى حل للصراع العربي – الإسرائيلي. تتطلب الاهتمامات المعقدة والمتنوعة الأميركية أن نستثمر في الهدفين السياسيين بشكل متزامن. التفكير في التصرف بشكل متتابع أو محاولة تنفيذ ذلك يفسد الأمر.
تحتاج الولايات المتحدة إلى التفكير بشكل استراتيجي وتنفيذ خطط مرحلية حكيمة. لن تنجح الخطط المرحلية المنفردة، مثل إجراءات بناء الثقة، لأنها تحتاج إلى أطراف تقبل دفع ثمن سياسي باهظ على المستوى المحلي من دون أي عائد سياسي يسير أو كبير. مع ذلك، في إطار استراتيجية أكبر، يمكن أن تساعد الخطوات المرحلية الأطراف على فهم المبادلات والفوائد. وأول خطوة هي وضع سياسة أميركية متماسكة.
خطوط السياسة الأميركية: سبعة عناصر أساسية:
1) تكوين نموذج مادي لإسرائيل وفلسطين على أساس حدود. من غير المنطقي ألا يتم التوصل إلى اتفاق حول حدود دولة إسرائيل ودولة فلسطين المستقبلية، رغم مرور 65 عاما على قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة. ويجب أن يكون ذلك جزءا رئيسا من السياسة الأميركية. ويجب ضمان أن تكون الحدود آمنة ومعترفا بها ويمكن الدفاع عنها. لقد كان الرئيس أوباما محقا في مايو (أيار) عام 2011 عندما حث على ضرورة أن تثمر المفاوضات عن حدود على أساس حدود 1967 مع الموافقة على تبادل الأراضي. ويجب أن يعرف الإسرائيليون والفلسطينيون من أين تبدأ دولة كل منهم وأين تنتهي.
2) التعامل مع متطلبات الإسرائيليين والفلسطينيين الأمنية. ينبغي أن تقود الولايات المتحدة محاولات تعريف المتطلبات الأمنية للشعبين والتعامل معها. طلب الرئيس بوش الابن عام 2008 من الجنرال جيمس جونز، الذي أصبح في ما بعد مستشار الأمن القومي لأوباما، القيام بتقييم أمني شامل. ولم يتم نشر دراسة جونز، لكن العمل الذي بدأه ينبغي أن ينقح ويتم الانتهاء منه. وبالتوازي، ينبغي أن يتم تكثيف عمل منسق الأمن الأميركي على أرض الواقع، المكلف التعامل اليومي مع الطرفين، وتدريب وتسليح قوات الأمن الفلسطينية، وإعادة التعاون والتنسيق الأمني.
تتسم هذه المتطلبات الأمنية وطرق التعامل معها بالتعقيد. مع ذلك، يمكن أن يكون أي نظام أمني، يتكون من عدة عناصر مختلفة وقدر كبير من الالتزام الأميركي والمشاركة الأميركية ومجموعة متنوعة من الوسائل والممارسات الأمنية – مثمرا. ولطالما قالت الولايات المتحدة إنها تتفهم ضرورة أن يعتقد الطرفان أن أمنهما سوف يتحسن عند التوصل إلى اتفاق سلام. وحان الآن وقت إثبات ذلك من خلال قيادة أميركية. جزء أساسي من هذا هو مدى اعتقاد إسرائيل استمرار تقديم الولايات المتحدة لها الوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها والتطمينات الأمنية اللازمة للإقامة في بيئة إقليمية تتسم بالعداء. وسوف تزداد احتياجات إسرائيل الأمنية بشكل كبير في سياق اتفاق مع الفلسطينيين، لهذا على الولايات المتحدة أن تستعد للتعامل مع الاحتياجات المشروعة لإسرائيل. ومن المرجح أن تصبح إسرائيل، إذا شعرت بالأمان في ما يتعلق بقدراتها وباستمرار قيام أميركا بالتزاماتها، أكثر استعدادا لتقبل المخاطرة التي يتضمنها السلام.
3) تبني وجهة نظر أميركية تجاه ثوابت القضايا الجوهرية. وتتطلب المفاوضات شروطا مرجعية للبدء والنجاح، لكن لا يمكن أن تتفق إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على أي شروط مرجعية. المفارقة هي أن الطرفين قد جسرا الهوة في ما يتعلق بالقضايا الأساسية المختلف عليها منذ مفاوضات طابا عام 2001. ولم يتم تسجيل هذا التقدم في أي وثيقة متوافق عليها، لكن لا يمكن التشكيك في إحرازه. قبل اتخاذ قرار بشأن استئناف المفاوضات أو كيفية القيام بذلك بشكل يسمح بنجاحها، تحتاج الولايات المتحدة إلى تحديد آرائها بنفسها حول شكل التسوية النهائية، ويتمثل هذا في ثوابت حل القضايا الأساسية. من دون هذا، ستفتقر السياسة الأميركية إلى التركيز، ولن تكون فعالة، وستقتصر على نقل الرسائل أو اقتراح إصلاحات متوالية محددة للتعامل مع الجمود في المفاوضات. وكما يحتاج الطرفان إلى رؤية شاملة لكل القضايا في المفاوضات حتى يستطيعا الموازنة بين التنازلات والمكاسب المتوقعة، تحتاج الولايات المتحدة إلى وضع سياسة داخلية حول شكل التسوية. دعنا لا نشكك في أهمية هذه الطريقة في حال ما قررت الولايات المتحدة استخدام الثوابت كشروط مرجعية مبدئية للمفاوضات. وقد أرسى الرئيس كلينتون هذه الثوابت عام 2000 وعرضها على الطرفين، ثم انسحب عندما رفض الطرفان الالتزام بالتفاوض على أساسها، لكنهما انطلقا لاحقا نحو التفاوض في طابا على أساس ثوابت كلينتون. من المهم للولايات المتحدة وضع سياسة حول المضمون والجوهر، حتى لو لم يتم اتخاذ قرار بشأن ما يجب فعله بهذه الثوابت إلا في ما بعد.
أوضح لويس كارول أقوى سبب يمكن أن يقنع الولايات المتحدة بتبني آراء حول القضايا الأساسية حين قال: «إذا لم تعلم إلى أين أنت ذاهب، فستصل من أي طريق». ولن يقود أي طريق الطرفين إلى حل الدولتين المنشود. في كل قضية من القضايا الأساسية أو قضايا الوضع النهائي، هناك نتائج محتملة لا تفي بالحد الأدنى من احتياجات أي من الطرفين، لهذا تعرض احتمال التوصل إلى حل حقيقي للخطر. وحتى تتمكن الولايات المتحدة من التصرف بحكمة وإبداع من أجل مساعدة الطرفين، عليها أن تعلم جيدا إلى أين تذهب وما أفضل طريق يقود الطرفين إلى نتيجة متوافق عليها.
4) ضمان كفاءة المؤسسات الفلسطينية والاقتصاد الفلسطيني. لقد اتخذ الفلسطينيون خطوات عظيمة نحو إقامة مؤسسات وكيانات اقتصادية من أجل إقامة دولة مستقلة. وساعدت الولايات المتحدة وآخرون كثيرون الفلسطينيين في القيام بهذه الخطوات، لكن حان وقت تطوير هذه العملية. سوف يخدم إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية ناجحة واقتصاد قوي مستقل مصلحتين أميركيتين مهمتين؛ المصلحة الأولى هي حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والمصلحة الثانية هي تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط. ويجب أن تستثمر الولايات المتحدة المزيد من الموارد في هذا الاتجاه.
5) تغيير السلوك الإسرائيلي والفلسطيني. وضعت الولايات المتحدة واللجنة الرباعية الدولية (الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة) عام 2003 خريطة الطريق، التي تطلبت اتخاذ كل من الإسرائيليين والفلسطينيين خطوات حقيقية تجاه تغيير سلوكهم، مثل وقف الاستيطان، والسماح للفلسطينيين بالحركة بحرية أكبر، والقضاء على الإرهاب من جذوره، وإقامة مؤسسات يمكن مساءلتها، والتوقف عن الإثارة والتحريض. وتعد هذه الأهداف بالفعل جزءا من السياسة الأميركية. ويجب على الولايات المتحدة القيام بالمزيد لتحقيقها باعتبارها عناصر في استراتيجية أكبر. ينبغي للولايات المتحدة إقامة نظام قوي لمراقبة تطبيق خريطة الطريق وتحديد الطرف المسؤول عن الفشل وعواقب عدم الوفاء بالالتزامات أو تغيير السلوك. وليس الهدف من ذلك هو توقيع العقوبة على أي من الطرفين، لكن الجدية هي ما ننشده. ووافق الطرفان على ضرورة تغيير سلوكهما، لكن الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي لديه القدرة على متابعة ذلك. ومن المؤكد أنه لا يمكن توقع تطبيق خريطة الطريق على أرض الواقع من دون اتخاذ خطوات محددة، فهي لا معنى لها إلا إذا كانت جزءا من سياسة أميركية متكاملة.
6) إشراك المنطقة في بناء أسس السلام. في التسعينات، كان العرب والإسرائيليون يتقابلون بشكل مستمر في اجتماعات تضم أطرافا متعددة، وقمم اقتصادية عامة وخاصة. وكانت مثل هذه التفاعلات تمنح الأجواء الخانقة التي تحيط بالمفاوضات الدبلوماسية معنى وتضفي عليها الحياة. وساعدت في بناء علاقات شخصية ومهنية بين العرب والإسرائيليين، وعززت الدعم الشعبي لعملية السلام. وانتشرت بالفعل على مدى العقود الماضية محاولات خلق الترابط بين الشعوب والمنظمات التي لا تهدف للربح وما تسمى أنشطة المسار الثاني. ويعرف الفلسطينيون والإسرائيليون اليوم بعضهم البعض أكثر من أي شعبين آخرين في العالم. وأسهمت الحكومة الأميركية في تقديم الكثير من تلك الفرص، لكن على مدى السنوات الماضية، تراجع اهتمام الإدارات الأميركية المتلاحقة، ولم تخصص إلا نذرا يسيرا من الموارد اللازمة لاستمرار هذه الأنشطة التي تهدف إلى دعم التواصل العربي – الإسرائيلي. وتم تبني مبادرة السلام العربية عام 2002 خلال القمة العربية التي عقدت في بيروت، لكن لم يكن لها أي تأثير على أرض الواقع، سواء كشبكة أمن لدعم الفلسطينيين أو كحافز يدفع الإسرائيليين لاتخاذ قرارات صعبة من أجل السلام.
على الجانب الآخر، ازدادت مشاكل المنطقة سوءا، حيث أصبح هناك نقص في المياه، وتتعرض الأرض الخصبة القابلة للزراعة للضغط بسبب تزايد عدد السكان، وأصبحت أكثر الدول مستوردة للغذاء، وفاضت المشكلات الصحية بحيث تجاوزت الحدود السياسية، ولا يزال التدهور البيئي مستمرا. ولن يكون هناك أي مبرر لبقاء هذا الوضع عندما يكون هناك حوار إقليمي وآليات لاتخاذ الإجراءات الضرورية.
ينبغي للولايات المتحدة إيجاد طرق لاستثمار النماذج السابقة للتواصل العربي – الإسرائيلي، مثل: تقديم الدعم لمبادرة السلام العربية، والاستفادة من العلاقات الموجودة بالفعل، وتوسيع قاعدة الدعم الشعبي والأنشطة المرتبطة بإرساء ثقافة السلام، حتى أقل تمويل ووقت ممنوح للمنظمات التي لا تهدف للربح، والأنشطة التي تدعم التواصل بين الشعبين، وأنشطة المسار الثاني سوف يؤتي ثمارا وفيرة.
ولن يكون من السهل القيام بذلك، فالحكومات العربية تشكك دائما في الأهداف والدوافع الأميركية، والإسرائيلية بطبيعة الحال، ويخافون من أن تكون هذه العمليات بديلا للجهود الحقيقية الجادة التي تهدف إلى حل الصراع. لهذا السبب، يجب ربط أي محاولة أميركية لتشجيع التواصل بين العرب وإسرائيل بإحراز تقدم على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي. ولا ينبغي التعامل مع كل عنصر من عناصر إطار السياسة المتكاملة بشكل منفصل حتى يرى الطرفان الصورة الكاملة التي يطلب منهما السير نحو تنفيذها. ويعد التعاون العربي – الإسرائيلي من المكونات المهمة في إطار هذه السياسة الأكبر.
7) عدم تجاهل الخطاب الديني أو الفكري أو التاريخي. في أفضل الظروف وعند تطبيق أكثر سياسة أميركية حنكة، ستواجه عملية السلام خطابا دينيا وفكريا وتاريخيا للجانبين. واعتاد الدبلوماسيون النأي بأنفسهم عن هذه الأمور لأنها عصية على المعالجة السريعة نظرا لارتباطها بغرائز نفسية وعاطفية عميقة في نفوس الشعبين. مع ذلك، بقدر ما يفضل صناع السياسة تجاهل هذه القضايا، يجب عليهم وضعها في الاعتبار إذا كان الهدف هو إنهاء الصراع والتوصل إلى اتفاق تسوية.
ختاما، يمكن القول إن وضع سياسة واستراتيجية أميركية شاملة قوية مستديمة، هو أفضل فرصة لإحداث تحول كبير في الشرق الأوسط وفي وضع أميركا في المنطقة. لقد جاء أوان قيادة أميركية تتمتع بالثقة بالنفس، من أجل الدفع بقوة باتجاه التوصل إلى اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
* سفير أميركي سابق لدى مصر وإسرائيل. ومستشار السياسة الخارجية في حملة أوباما الرئاسية عام 2008. وكان ضمن فريق التحول في الشرق الأوسط بعد تولي أوباما الرئاسة.
* هذا المقال مقتطف من «الطرق إلى السلام: أميركا والصراع العربي – الإسرائيلي». نشر بالاتفاق مع «بالغريف ماكميلان»