سعد الله ونّوس
( يخفت الضوء في القاعة ، بينما يشتد على الكرسي التي يجلس عليها الحكواتي . سيتم المنظر على شكل تمثيل إيمائي وطقسي .. فالحركات ذات إيقاع بطيء ، يزيدها صمت الممثلين ثقلا ، حتى لتصبح شبيهة بطقوس غامضة ، وسحرية . تمتزج الحركات بكلام الحكواتي ، وتشكل معه ما يشبه اللحن الحزين ) . .
الحكواتي : وطلب الوزير أن يحضر الحلاق في الحال . وأن يحمل معه من الأمواس أشدها بريقا ، وأمضاها حدا . وعلى الفور جاء الحلاق إلى الديوان يتبعه ثلاثة من الغلمان . ( يدخل الحلاق ووراءه الغلمان الثلاثة . يسيرون بخطوات موزونة ، بطيئة ، بالغة التأدب ، يلبسون ثيابا ناصعة البياض ، ويحملون معدات الحلاقة . أحد الغلمان يحمل كرسيا عاليا ومسندا للقدمين . والثاني يحمل حقيبة فيها عدة الحلاقة وبعض المناشف . أما الثالث ففي يديه دورق وطشت من الفضة الخالصة ، يتقدم الجميع نحو منتصف الديوان . وبين الفينة والفينة لا ينسون أن ينحنوا باتساق ، وبشكل احتفالي . عندما يصلون إلى حيث يقف الوزير وجابر ، ويبدأون في الإعداد للحلاقة . يوضع الكرسي في مواجهة الجمهور ,أمامه المسند الجو ثقيل بطابعه الاحتفالي .. ).
الحكواتي : وقال الوزير مملوكه جابر حتى أجلسه على الكرسي العلى ، فاستقام ظهره فوقها ، وامتلأ بالزهو . وكانت عيناه تبرقان ، وتدغدغ مخيلته الأحلام . فتح الحلاق حقيبته . أخرج موسا له بريق ، ومعه مسنه الجلدي . وراح يسن الموس .. ” اشحذ موسك أيه الحلاق .. اشحذ حتى يصبح كالومض البراق .. الرأس الذي ستجز شعره له في هذا الزمن المضطرب دوره .. فاصقل .. حد الموس حتى يصبح كالومض البراق ” .. وكان الصبية يهيئون كل ما تحتاجه حلاقة يشرف عليها الوزير بنفسه ، ولما صار الموس ذا حد يفري الحديد ، تناول الحلاق برقة رأس المملوك جابر . فارتخت عضلات رقبته ، واستسلم هادئا بينما سرت في العينين نشوة كالحلم .
الوزير : ( منفعلا هذا الراس له قدره عندي .. أريدك بارعا كما عرفتك . احلق الشعر من الجذور . من أعمق منابته .. أريد أن يصبح رأس مملوكي جابر أكثر نعومة من خدود العذراى .
الحلاق : ( منحنيا في طقسية ) سمعا وطاعة .
الصبيان : ( وهم يصطفون وراء الحلاق متهيئين لك خدمة .. بصوت غنائي رقيق خافت أثناء الحلاقة ) . ” يا معلمنا احلق ونعم الحلاقة . خل الرأس يصير مثل خدود العذراى يا معلم الحلاقين .. بفن ومهارة .. خل الرأس يصير مثل خدود العذارى ” .
الحكواتي : ( على صوت الغناء الرقيق الخافت ) وأخذ الحلاق يحز شعر المملوك جابر . ولخفة يده ومضاء حد موسه ، لم يكن جابر يشعر إلا ببرودة لطيفة تشبه الأنسام، وترتخي لها الأجفان . وتساقطت خصلات الشعر .. خصلة بعد خصلة تساقطت .. وبان جلد الرأس .. يد الحلاق ماهرة رشيقة ، تتحرك فيلتمع الجلد.
الوزير : نعم يا حلاق .. نعم ما استعطت .
الحلاق : ( منحنيا للوزير ) سمعا وطاعة ..
الصبيان : خل الرأس يصير مثل خدود العذراى ..
الحكواتي : وشعر جابر برأسه يعرى . أحس بالبرودة ، لكنه لم يرتعش ، ولم تضطرب عيناه ، بل ظلت النشوة تختلج فيهما ، والموس .
يروح ويجئ ، حتى صار لرأسه لمعان المرايا . .
( تسقط حزمة ضوء على رأس جابر ، فينبثق منه لمعان ) . .
الحلاق : ( يعطر الرأس ، ويمسح عليه فتنزلق أصابعه … ) نعيماً .. ( ثم يلتفت إلى الوزير ) نعيماً لمولانا ومملوكه . .
الصبيان : نعيما لمولانا ومملوكه . .
الوزير : ( يتحسس هو الآخر رأس المملوك جابر ، فتثيره نعومته ) عظيم .. عظيم .. أصبحت تغار من رأسك خدود أجمل العذارى ( ثم يلتفت إلى الحلاق وصبيته ) انصرفوا الآن ( بعد أن يجمع الحلاق وصبيته أدواتهم ينسحبون وهم يتمتمون : ” نعيماً لمولانا ومملوكه ، مكررين نفس الطريقة الطقسية التي دخلوا بها ) . .
جابر : ارتعش من السعادة ، إذ يسبغ مولاي على رأسي الوضيع هذا الاهتمام .
الوزير : رأسك يساوي مملكة يا جابر . .
جابر : هو لك يا مولاى ( لحظة حتى يخرج الحلاق من الباب ) والآن … ابحث يا مولاي عن ريشة وحبر لا يمحى إلا بالحفر .
الوزير : ( منفعلاً ) هذا ما سنفعله بلا إبطاء . .
ويبتسم ابتسامة طويلة تغص بالمعاني .. يأتي الوزير ومعه الدواة والريشة ) . .
جابر : بين يديك يا مولاى . .
( يركع جابر بحركة بطيئة ووجهه للجمهور ، بحيث تبدو واضحة كل الانفعالات التي يمكن أن تعبره . يأتي الوزير بكرسي منخفض ، ويجلس خلف جابر واضعا الدواة قربه ، يمسح مرة أخرى على الرأس الذي يلمع تحت الأضواء . ثم يغط ريشته بالدواة في الكتابة . عندما يضع الريشة على رأس جابر تتلقص ملامحه تحت تأثير الوخزة ، لكنه يتحمل ، وتخفق عيناه ) . .
جابر : ( ووجهه يتلقص ) آه ليت مولاى يختار من الكلمات ألينها وأكثرها إيجازاً . .
الوزير : لا تخف سأوجز في الكتابة ما استطعت . .
( من حين لحين يتوقف الوزير لحظة ، يفكر فيها باحثاً عن كلمة ، ثم يعود إلى الكتابة ) . .
جابر : ( متلقصا من الألم ) هذه الكلمة أحسها تنغرز في دماغي ، ليت مولاي يجد كلمة أخرى . .
الوزير : انتهيت تقريباً . .
( ينهي الجملة التي يكتبها . يضع الريشة ، ويغلق الدواة ، لكنه يتوقف فجأة ويسهم مفكراً ) . .
جابر : بعد أن فرغ مولاي من كتابة رسالته ، هل يسمح لي بالنهوض . .
الوزير : ( ساهما ) لا .. لا .. انتظر قليلاً . .
( ينهض ، ويذرع الديوان جيئة وذهاباً . يتناول نشوقا ويعطس ) . .
الحكواتي : وفكر الوزير كانت هناك حاشية ناقصة فيما يبدو وتردد .. عطس وتردد . وبعد أن اجتاز الديوان مراراً في غدو ورواح ، التمعت عيناه ، وعاد يجلس على كرسيه . .
الوزير : انتظر .. انتظر .. هي جملة وننتهي . .
_ يكتب الوزير جملة جديدة ، وينقبض وجه جابر من الألم ) . .
الوزير : ( يربت على كتفه بابتسامة ) والآن … تستطيع أن تنهض .
جابر : ( وهو ينهض ) هل يشرفني مولاي الآن بمعرفة الجهة التي سأحمل إليها رسالته ؟ .
الوزير : ليس الآن .. ستعرف فيما بعد المهم أن ينبت شعرك بسرعة ، وأن يكسو جلد رأسك كطاقية سوداء .
جابر : وإلى أن يحين ذلك الوقت ؟.
الوزير : إلى أن يحين ذلك الوقت .. ستثقيم في غرفة منعزلة ومظلمة حتى لا يراك أحد ، ولا يقرأ ما هو مخطوط على رأسك إنس ولا جن . .
جابر : من أجل مولاي مستعد لكل شيء .
الوزير : إذن تضع على رأسك كوفية . وتستعد للمكوث في غرفة مظلمة . هيا معي ( يمسكه الوزير بيده ، ويخرجان ) .
الحكواتي : وهنا نستأذن المستمعين الأكارم باستراحة قصيرة نشرب فيها فنجانا من الشاي طبعا من يشاء الخروج لقضاء حاجة يستطيع الخروج ، ومن يشاء البقاء يمكنه أن يبقي ( تنفر من بين الزبائن تعليقات وردود فعل سريعة .. ) لا .. بالله عليك كمل … .
زبون 3 : نريد أن نعرق بقية الحكاية .
زبون 1 : دائما تقطعها في لحظة حرجة .
زبون 2 : هات شاي للعم مونس .
زبون 1 : تستطيع أن تشرب الشاي ، وأنت تقرأ .
الحكواتي : لا تخافوا .. سنكمل القصة .. دعوني أسترد أنفاسي قليلا .
زبون 3 : اتركوه على راحته . لن يغير العم مونس عادته .
زبون 2 : هات نارة يا أبو محمد .
الخادم : حاضر .
( يعود جو المقهى إلى التراخي والفوضى ، كلام .. وتعليقات .. وصياح على أبي محمد الذي تنشط حركته الآن . بعض الزبائن يستغل الاستراحة للخروج قليلا من المقهى ) ..
زبون 1 : أرى أن أعرف إلام سينتهي هذا الولد .
زبون 2 : يمين بالله أحببته . .
زبون 3 : يفهم الحياة كأنه جربها أجيالا . .
زبون 2 : ويعرف كيف يقتنصها أيضا .
زبون 3 : الحياة كالمرأة لا تعطي جسدها إلا لمن يعرف كيف يأخذ جسدها . .
( الخادم يحمل صينية عليها عدد من كؤوس الشاي .. يضع كوبا أمام الحكواتي ، ويوزع الباقي ، ثم يعود بعد قليل حاملا موقد الفحم الجمر على النراجيل ) .
زبون 1 : أنا أقول إن شأنا كبيرا ينتظر هذا المملوك .
زبون 2 : بمثل هذه الفطنة والجرأة يستطيع أن يتسلق عرش السلطنة .
زبون 4 : لا تزيدوها . ما هو إلا ولد ذكي ونهاز للفرص .
زبون 3 : نهاز للفرص .. ليكن . هذا هو الطريق للوصول إلى أعلى المراتب .
زبون 4 : وأحيانا إلى أسفل المراتب إذا كنت لا تعرف .
زبون 2 : نعرف ونرى كيف يسير دولاب الدنيا .
زبون 1 : ولد بهذه العياقة ، يخرج من ألف مصيدة بسلام .. بالله يا عم مونس عجل .. أنا أقول إن شأنا كبيرا يتظر هذا المملوك ، فما رأيك ؟ .
الحكواتي : اصبروا .. اصبروا هي دقائق وتعرفون بقية الحكاية ..
زبون 1 : طيب .. العم مونس لا يريد أن يجيب . ولكن هل تراهن على ما أقول ؟.
زبون 2 : وأنا أنزل معك بالرهان .
زبون 4 : لا أراهن .. قد يصح ما تقول ، إلا أن المنطق السليم هو ألا يصح ما تقول .
زبون 1 : هذه فذلكة . نحن نعرف الدنيا ، ونرى كيف يسير دولابها .
زبون 2 : ستأتي بقية القصة على كل حال .
زبون 1 : هات شاي يا محمد ..
زبون 3 : ما دام العم مونس يطلب استرحة افتح لنا الراديو .
زبون 2 : أي .. افتح هذا الراديو يا أبو محمد ..
( أبو محمد يفتح الراديو .. ) .
صوت المذيع : وفي الساعة السابعة من مساء اليوم عقد اجتماع هام بالقصر الجمهوري حضرة السادة الوزراء .
زبون 1 : غير المحطة يا أبو محمد ..
زبون 4 : دعونا نسمع نشرة الأخبار .
زبون 1 : بلا أخبار ووجع قلب .
زبون 2 : ابحث عن أغنية تبل الريق . .
زبون 3 : أي أسمعنا غنوة حلوة ..
( يد محمد تحرك المؤشر بحثا عن أغنية .. ينبثق صوت أم كلثوم في أغنية ” الحب كده ” ..) .
أصوات زبائن : – أيوه يا سلام .
( يستقر المؤشر على المحطة ، ويتوضح غناء أم كلثوم ، وهي تكرر ” الحب كده ” العم مونس يرقب الزبائن ، ويهز رأسه بينما يشرب الشاي بهدوء . تستمر الأغنية بضع دقائق هي تقريبا فترة الاستراحة . ومن حين لحين نمسع آهة ” يا سلام ” ) .
بعد الاستراحة.
( يخفت صوت الغناء ويصبح خلفية … ) .
زبون 2 : أنهي العم مونس فنجان الشاي .
زبون 1 : لنسمع إذن بقية الحكاية .
زبون 3 : لا بأس بهذه الحكاية تملأ الدماغ فعلا .
زبون 1 : والله .
زبون 2 : حلفتك بالله يا عم مونس لماذا تتدلل علينا بسيرة الظاهر ؟.
الحكواتي : العم مونس لا يعرف الدلال ، ولكنه يعرف جيدا ترتيب الحكايات في كتابه .
زبون 2 : تبالغ في الحرص على الترتيب وكأنه تنزيل حكيم .
الحكواتي : لن نفهم أيام الظاهر ، إلا إذا فهمنا ما تقدمها من أوضاع وأزمان لا تنسوا أن التاريخ متسلسل .
زبون 2 : ولكن متى تنتهي حكايات ما قبل الظاهر ؟ .
الحكواتي : كل شيء وله أوانه .
زبون 2 : أتكون حكاية اليوم هي الأخيرة ؟.
الحكواتي : من يدري ( يفتح كتابه مبسملا بصوت خافت .
زبون 2 : لا فائدة .. كتوم وعنيد أيضا .
زبون 3 : با أبو محمد .. ساعدنا على العم مونس ، كي يبدأ السيرة غدا .
الخادم : وهل أستطيع والله مشتاق لسماعها أكثر منكم .
الحكواتي : ونعود إلى الصلاة على النبي ، ونتابع مجرى قصتنا .
أصوات : ألف الصلاة والسلام عليه .. سنرى الآن نهاية جابر .
– اقفل الراديو.
( تهدأ الضجة ، ويختفي صوت الراديو .. يرين الصمت والانتظار ) .
الحكواتي : فقال الوزير لمملوكه جابر . هيا معي .. وبعد أن ستر رأسه بكوفية سوداء ، وضعه في غرفة مظلمة على بابها حارس بالاقتراب . وكان لا بد من الانتظار حتى ينمو الشعر ، ويخفي سر الوزير .. والتوتر في ازدياد . ترقب في قصر الوزير . وحركة ومشاورات في قصر خليفة بغداد . وكلعبة الشطرنج كل يحك رأسه ، ويفكر كيف يحرك أحصنته وجنوده . اللاعبان خليفة بغداد ووزيرها ، ووقعة الشطرنج بغداد وعامتها .
( أثناء كلام الحكواتي يدخل الممثلان اللذان قاما بدوري الوزير والأمير عبد اللطيف .. هما الآن يمثلان دوري الخليفة المنتصر بالله وأخيه عبد الله . يضعان ما يحملان من قطع ديكور بسيطة تمثل ديوان الخليفة ، وهو شبيه جدا بديوان الوزير يتخذان مكانيهما ، وينتظران سكوت الحكواتي .. بعد لحظات ) .
عبد الله : أصبحت اللحظة مناسبة للخطوة الحاسمة .
الخليفة : أواثق من النتائج .؟.
عبد الله : لو لم أكن واثقا من النتائج ما كنت لأقول .. أصبحت اللحظة مناسبة .
الخليفة : لا تنس أن له أعوانا مخلصين داخل قيادات الحرس .
عبد الله : ( يلوح برسائل في يده ) وهل أجهل ذلك . ما قيمة هؤلاء الأعوان بعد أن أثمرت مراسلاتنا .
الخليفة : ( لا يخفي ضيقه ) مراسلاتنا : بل قل تنازلاتنا التي ستجردنا تقريبا من معظم ولاياتنا. .
عبد الله : ( باحتداد ) لن نعود لنناقش هذه النقطة . أحيانا من الضروري أن تتنازل عن شيء كي تكسب شيئا أهم . دون تنازلات ما كان ممكنا أن نقنع بعض الولاة بإرسال إمداداتهم وبلا إمدادات لن يكون سهلا أن ننتصر ، عليه قل لي .. أتريد أن ننفض أيدينا ، ونترك الوزير يسرح ويمرح في بغداد . يدعم قواه ويعزز مراكزه ، وحين تواتيه الفرصة ينقض علينا ، ويصفينا ؟.
الخليفة : ( يختبط وجهه ) لا تستفزني . أنت تعرف أني مصر هذه المرة على ألا نتراجع . ما عدت أحتمل أن يكون في بغداد خليفتان وقيادتان . سيصيبني الشلل لو اضطررت بعد كل هذا إلى استقباله في ديواني ورؤية وجهه المريب .
عبد الله : إذن لماذا نتردد ؟ المناورة أساس الحكم . نوقف بعض العداوات لنتفرغ لعداوة أهم . وبعدها سيكون لكل حادث حديث . إننا نمسك بالخيط قطعنا عليه كل فرصة للاتصال بالخارج ، وأقنعنا ولاة أقوياء بالانضمام إلينا . الآن لدينا قوات تنتظر إشارة ، وأعتقد أنها اللحظة المناسبة كي تصدر لها الأوامر بالتحرك إلى بغداد .
الخليفة : ومع هذا أريد أن تكون حساباتنا دقيقة . وضعنا لا يحتمل خطأ أو هفوة .
عبد الله : تعرفني بارعا في الحساب . إني أوكد لك أن الفرصة حانت كي نتخلص منهم ، ونعيد للسلطة حزمها ومركزها .
الخليفة : أتعلم مجيء رغم ضرورته . أخشى أن نخلص من شر لنقع في شر آخر . لو أوقظ النصر شراهتهم ، فسنواجه مساومة غالية الثمن .
عبد الله : اترك لي هذا الأمر بعد أن ننتهي من الوزير ، ونعيد لقوات بغداد وحدتها ، سيكون سهلا أن نواجه احتمالات طارئة كهذه . ولا تنس أني أعرف التنقاضات القائمة بين الولاة أنفسهم من اليسير دائما أن نشعل بينهم معارك تستنزفهم وتضعفهم حتى التنازلات يمكن أن تكون مؤقته .
الخليفة : إنها مواثيق يا عبد الله .
عبد الله : القوة هي ميثاق كل المواثيق يا خليفة المسلمين ، وعلى كل الوقت مبكر للخوض في هذا الحديث . ما تزال أمامنا المهمة الأساسية ، أن نخلص من الوزير وأعوانه . وهذه هي اللحظة . فأصدر الأمر لولاتك بالتحرك نحو بغداد . أما نحن فعلينا أن نهيئ ما يحتاجه قدومها . أمامنا ترتيبات كثيرة لا بد من اتخاذها ، والوقت لا يرحم . .
الخليفة : ( مفكرا وساهما .. بعد فترة ) هل تتخيل ما تحتاجه قوات كهذه تأتي لتحل في بغداد ؟ أنت تعرف أن بطون العساكر .
كالبراميل لا تشبع ولا ترتروي .
عبد الله : هو ذا واحد من الترتيبات التي تنتظرنا .
الخليفة : الخزينة لا تشكو التخمة يا عبد الله .. وحتى ثرواتنا الخاصة لا تكفي .. فمن أين سنسدد نفقات إقامتهم ومكافأتهم ؟.
عبد الله : لن نعدم وسيلة لتدبير المال وتسديد كل النفقات .
الخليفة : أتعتقد أن التجار لن يبخلوا .
عبد الله : التجار .
الخليفة : ولم لا يعنيهم الأمر مثلنا إننا نحمي أيضا . .
عبد الله : الحقيقة ينبغي أن نقتصد في استنزاف التجار لم يبخلوا أبدا وخزائننا شاهدة .
الخليفة : إذن .. من أين سنجد ما يسدد نفقات العساكر ؟.
عبد الله : مسألة بسيطة للغاية .. لماذا تأتي هذه القوات ؟ إنها لا تأتي لتتنزه ، وتتفرج على عاصمة المسلمين بغداد وإنما لتؤدي واجبا مقدسا! إنها تأتي لتحمي للمسلمين خليفتهم وتحفظ لهم وحدتهم . حماية الخليفة واجب على كل مسلم فمن قوته يستمدون القوة ، ومن ضعفه تدب إليهم الفرقة والشقاق . ولهذا فعلى الجميع أن يساهموا بنصيبهم في حماية الخليفة ، وصون خلافته ذلك أول واجباتهم كمسلمين .
الخليفة : ( مبهورا ) أوضح لي ماذا تعني ؟.
عبد الله : ألم تفهم ما أعنيه سنفرض ضريبة مقدسة على الناس في بغداد ، وبذلك نوفر كل النفقات اللازمة . .
الخليفة : (باسما ) ضريبة مقدسة حمانا الله من دهائك هي فكرة معقولة ، لكنها لا تخلو من مزالق . أخشى أن تثير الضريبة تذمر الناس . وفي مثل هذا الظرف من السهل أن يتحول التذمر إلى فتنة . حينئذ قد تنقلب الأمور رأسا على عقب .
عبد الله : فتنة عامة بغداد تحث فتنة ( تلوح على وجهه أبشع علامات الازدراء ) .. ينقصك يا خليفة المسلمين أن تعرف رعيتك . أما أنا فأعرفهم جيدا .. قد يتذمرون ، ولكن ما أن يروا وجه حارس حتى يمضغوا تذمرهم ، ويبلعوه مع ريقهم . وفي النهاية يهرولون ، لينبشوا الأرض من أجل تسديد الضريبة .
الخليفة : كم تبدو واثقا من خططك وتقديراتك .
عبد الله : تعرفني بارعا في الحساب ، والبارع في الحساب لا يضيع اللحظة فأصدر يا خليفة المسلمين أوامرك ولنتهيأ للضريبة الفاصلة .
الخليفة : ما دمت واثقا إلى هذا الحد .. فلتكن مشيئة المولى . .
زبون : مشيئة المولى ، أو مشيئة هذا الداهية .
الحكواتي : ( فيما ينسحب الممثلان حاملين معهما قطع الديكور ) هذا ما كان من الخليفة وأخيه عبد الله .. وأما عامة بغداد فحالهم من سيئ إلى أسوا ، يسكن قلوبهم القلق ، ويشلهم الخوف . ينامون ولا يعرفون علام سيستيقظون .. وبدأت المعيشة تزداد صعوبة . نذر الرغيف وازداد القلق .. وبدأ يمتزج الخوف بالجوع ، والتعاسة بالحاجة والألسنة الجافة تهتف : يا بصير .
( أثناء كلام الحكواتي تدخل امرأة ما زالت صبية على حضنها طفل . يمكن أن تقوم بدورها الممثلة التي أدت دور المرأة الثانية .. غرفة بائسة شبيهة بالكوخ … تجلس المرأة شاحبة تعيسة . وهي تضع طفلها في حجرها .. الطفل لا يكف عن الصراخ والعويل المرأة شديد البؤس والتعاسة .. تبدو وكأنها تنتظر ) .
الزوجة : ( تهدهد الطفل … وهي تغني ) هي يا الله … هي يا الله .. نام يا عيني نام .. هي يا الله .. ( يواصل الطفل البكاء ) يا الله …. .
ماذا أفعل ( تفتح ثوبها ، وتخرج ثديها لترضعه ) تعرف أن ضرعي جاف ، ولا توجد فيه قطرة واحدة من الحليب . من أين سيأتي الحليب ، وأمك لم تضع في فمها لقمة خبز منذ يومين ( الطفل لا يجد ما يرضعه ، فيعود إلى البكاء ) هي يا الله .. هي يا الله .. .
( يدخل الزوج ، وهو شاب في حوالي الثامنة والعشرين ، يمكن أن يقوم بدوره الرجل الأول . وجهه مكفهر وحزين . يجلس على الأرض متحاشيا النظر إلى زوجته ) .
الزوجة : ( مبهوتة ، تحدق فيه .. ولكنها للحظات تخاف أن تتكلم . بعد قليل ) أراك تعود بسرعة ؟ .
الزوج : ( الطفل يبكي دائما ).
الزوجة : هل توسلت إليه كما وعدتني ؟.
الزوج : لا فائدة .
الزوجة : ( يائسة ) أعرف كبرياءك . فضلت أن تكابر على أن تتوسل . .
الزوج : أقسم إني توسلت .
الزوجة : وشرحت له كل ما نقاسية ؟.
الزوج : لم أترك إليه سبيلا .
الزوجة : هل أقسمت له إننا لم نذق طعاما منذ يومين . منذ يومي لم نضع في أفواهنا لقمة خبز . هل قلت له إن ابننا سيموت من الجوع ، لأن صدري ناشف لا يدر إلا الهواء لو قلت كل هذا ، لا يمكن أن يمنع عنك العمل ولو كان قلبه من حجر .
الزوج : ولكن قلبه من حجر .
الزوجة : حلفتك بالله .. هل ألححت عليه . وشرحت له كل ما نقاسية ؟.
الزوج : ( بعنف ) والله كدت أبوس قدمه . بقيت ألح حتى طردني وهددني بالضرب .
الزوجة : ( بعد فترة ) يا رب ماذا حل بالدنيا ؟ عملت عنده سنتين .
الزوج : وإذا بدأ الكساد رماني كالكلب .
( يعلو صراخ الطفل ، فتنظر إليه المرأة بحزن وتهدهده ) .
الزوجة : خلت كل القلوب من الرحمة .. ماذا حل بالدنيا ؟ ( الصراخ يعلو ) نم يا حبيبى نم .. آه .. لو أستطيع لعصرت لك قلبي وأطعمك .. ( تهدهده ) هي يا الله .. هي يا الله ( بعد لحظة ) .
والآن .. ما العمل ؟.
الزوج : لست أدري .
الزوجة : ومن الذي يدري إذن ؟ سيموت الصغير بين أيدينا .
الزوج : ( مقهور الصوت ) ماذا أفعل ؟ .
الزوجة : أي شيء .. لن نتركه يموت بين أيدينا .
الزوج : ( بعد تردد .. بلهجة يرعشها الخجل والغضب وهو مطرق الرأس ) لماذا لا تذهبين إلى جارنا في بيته مؤونة تكفي لسنة . يمكنك أن تسأليه شيئا نأكله .
الزوجة : ( يتغير وجهها .. بعد لحظة تتأمله بعينين جاحظتين ) أتطلب مني ذلك ؟.
الزوج : ( لا يزال مطرقا في الأرض ) لعله الحل الوحيد ..
الزوجة : أأنت جاد ؟ إنك تعرف ما يعنيه الذهاب إلى بيته ( يغص صوتها بالبكاء ) لا .. لا يمكن أن تطلب مني ذلك لا يمكن .. ( تنفجر دموعها ) .
الزوج : ( ينفجر قهره ) ماذا أفعل ؟ تضعين كل شيء على رأسي وكأني المذنب . أأنا المسؤول عما يحدث في بغداد أأنا من أوقع الفتنة بين الخليفة والوزير أأنا من أحدث الكساد ، وأوقف الأعمال قولي لي ماذا أفعل ؟ لست ساحرا ولا رجل معجزات . تعرفين أن قلبي ينزف ، وأن صراخه يكويني في الأعماق ( خلال ثورته ، تنهض المرأة ، وتجلس إلى جواره ثم تمسح على شعره ) .
الزوجة : ( مع شهيق دموعها .. بحنان ) أعرف .. أعرف .. إني امرأة موجوعة وحمقاء . لا أريد أن تغضب . الجوع يعض كما تعرف .
( يسود الصمت .. الرجل يدفن وجهه بين يديه . بعد قليل تنهض المرأة فتضع الطفل على حشية من القش ، وتهم بالخروج ) .
الزوج : ( كالمجنون يمسك معصمها ) ماذا تفعلين ؟.
الزوجة : الله بصير ، ولن يضن علينا بالغفران .
الزوج : ابقي هنا .
الزوجة : الله يغفر .. لن نتركه يموت ونحن نتبادل النظر ؟.
الزوج : لا .. ليس الآن .. لا أستطيع .. لا أستطيع .
( يشدها إلى جواره يجلسان وتتساقط دموعها معا ، بينما يعول الصغير ) .
الزوجة : يا بصير ..
زبون 2 : أستغفر الله العظيم .
زبون 4 : في النهاية لا تقع إلا على رؤوس المساكين .
زبون 3 : الله يساعد ..
الحكواتي : وكان المملوك جابر ما يزال في الغرفة المظلمة ، لا يدخل إليه الضوء إلا من نافذة صغيرة كفتحة العين ينتظر أن ينمو شعر رأسه كي يخرج من حبسه ، ويرحل حاملا الرسالة ( أثناء كلام الحكواتي يجري تركيب غرفة على المسرح لها باب ونافذة ضيقة جدا . النافذة مشبكة بالحديد ، والباب مغلق يقف عليه حارس ) وكان الوزير وكأنه على جمر يبدو نافذ الصبر . وفي كل يوم ينفتح له باب الغرفة ( الحارس ينحني ويفتح الباب أمام الوزير الذي يدخل ) فيدخل على جابر يمسح بيده على رأسه ، ويقيس نمو شعره ، ولو ملك لأمر الشعر أن يطول لساعته ، ويصبح كجدائل امرأة . لكنه كان يخرج كل يوم ضيق الصدر . في يده علبة نشوقه ، ويمضى لينتظر يوما آخر ( يخرج الوزير تحية احتفالية من الحارس .. ينغلق الباب ) ولم يكن يستطيع أحد أن يزور جابر في عزلته ، أو يقترب من غرفته . فأمر الوزير الصارم ، وغضبه عات لو علم .. لكن للنساء حيلهن . وقد استطاعت زمرد بعد تعب وجهد ، أن تجعل الحارس يغمض عينيه ، وأن تسرق لحظات من وراء النافذة . تتحدث خلالها مع المملوك ، الذي يخفق قلبها لمجونه وحسن كلامه .
( تكون زمرد قد ظهرت، واقتربت بخطوات حذرة من النافذة الصغيرة . تبرز مشيتها مفاتن صبية يضج جسدها بالحياة . على وجهها نقاب نصفي لا يخفي جمال عينيها ، ولا القلق الذي يطلي سوادهما .. ) .
جابر : ( يتدافع صوته بفرح من وراء النافذة ) زمرد لم يخطئ إحساسي إذن عرفت أنك تأتين . تلك هي العلامة فجأة التهب رأسي ، وانتفض كل ما في جسدي ، فأيقنت أنك تأتين . وها أنت ذي بلحمك ودمك .. لم تفارقي خيالي يا زمرد . دائما معي في هذه الغرفة . أرى عينيك تضيئان العتمة . وجسدك يتثنى حولي نضرا . حيا ، معطرا أتصدقين أحيانا أحس عطرك ينفذ إلى مسامي فتأخذني رعشة كاللذة . ينتفض جسدي ، ويرتعش كما لو كنت أحتويك .. ولكن بحق الله ارفعي النقاب .. .
زمرد : ( القلق والحزن واضحان في صوتها ونظرتها ) جئت متسترة ، ولا ينبغي أن يلمحني أحد . تعبت كثيراً حتى نجحت في الوصول إليك . .
جابر : ولم ؟ ألا يعرفون أنك أصبحت لي ؟ .
زمرد : لم يصبح لك شيء بعد ؟ .
جابر : ماذا تقولين ؟ وافق الوزير وكانت وعوده صريحة . .
زمرد : ربما وافق ووعد . .
جابر : ( بعنف ) لا تقولي .. ربما بل وافق بالفعل . .
زمرد : أصدقك ولكن لم يصبح لك شيء بعد ، أنت الآن سر محبوس في غرفة مغلقة . .
جابر : كلها فترة وتمر … عندئذ سأحتوى هذا الجسد الذي يكويني ، ولن أدعه يلفت مني إلا بالموت فعلت كل هذا من أجلك يا زمرد . أنت من أوقد ذهني ، ومدني بالإلهام . كنت أحلم بك عندما لمعت في ذهنى الفكرة أصبحت لي .. كل هذا الجسد الدافئ لي .. زمرد : ( غائمة العينين ) ما تزال بيننا مسافة محفوة بالمخاطر . .
جابر : ماذا تعنين ؟ لم أسمعك مرة تتحدثين بهذه الجدية أعرف صوتك يغنج ؟ لم أسمعك مرة تحدثين بهذه الجدية أعرف صوتك يغنج مرحاً ، والكلمات تنزلق بين شفتيك لأهمية مثيرة ماذا هناك ؟ .
زمرد : هذه الرحلة .
جابر : أتخافين على سأنهب الأرض كالخيال ، وسأكون أسرع من طير . لو بدأت زينتك فسأكون إلى جوارك قبل أن تفرغى منها زمرد : إني قلقة يا جابر . .
جابر : ولم القلق ؟ .
زمرد : لا أدري .. أحيانا يعصر قلبي إحساس غريب ، إني أحبك يا جابر . .
جابر : آه .. لو سمعت هذا التصريح في ظرف آخر ولكن بحق الله ارفعي النقاب . .
( تلتفت زمرد حولها قلقة ، ثم تفك طرف النفاب ، فيظهر وجهها الجميل والمتناسق التقاطيع ) . .
زمرد : لو لمحني أحد ، فسيسلخون جد الحارس . .
جابر : ليسلخوا جلده ، وجلدى أيضاً إذا شاؤوا . ثمن عادل لرؤية هذا البهاء ( يتحلب الريق في صوته ويمد يده ) لو أستطيع أن ألمس . هاتين الشفتين الندبتين ، أو هذا العنق الشفاف . ( تصطدم يده بالقضبان ) لعنة الله على هذه ستحرق شفتاي كل ثنية في هذا الوجه .
زمرد : أشعر قلبي ينقبض ، ويتقلص ، كان من الأفضل ألا تزج نفسك في هذه القصة . .
جابر : أفعل ذلك من أجلنا هل تريدين رجلاً بلا طموح وبلا قيمة كنت أظنك فخورة بي، ستزوجين رجلاً رفيع المقام ولديه ثروة ، وسأعرف كيف أوظف هذه الثروة . الذكاء لا ينقصني .. وبالذكاء يستطيع المرء أن يصبح خليفة بغداد يا زمرد . .
زمرد : إلا أن ما حولنا غامض وملئ بالمهالك أصبح القصر كالقلعة ، الحراسة شديدة ، والأوامر صارمة ، والجميع يحملون أسلحتهم استعداداً لطارئ أو مفاجأة العبوس يخيم حولنا . وكل واحد يضع يده على قلبه خائفاً عليها الوزير مهموماً يزمجر . ( يتحول صوتها هامساً ) وأحياناً تفلت منه كلمات يتطاير منها الهول . الواقعة بين الخليفة والوزير يا جابر . .
جابر : فخار يكسر بعضه يا زمرد المهم أن إبلغ الرسالة ، وأنال مكافأتى . .
زبون 1 : مثلك يربح ولا يخسر . .
زبون 3 : يفهم سر الحياة وأصولها . .
زمرد : هل تعرف ما تحويه الرسالة ؟ الرسالة ؟ لا شك أنها مليئة بالحماقات ، أعرف كيف مراسلات الحكام ، ولكن ليكتب ما يشاء تعنيني المكافأة لا مجرى الرسالة .
زمرد : ( مترددة بقلق ) لا أدري .. كنت أتمنى ألا تورط نفسك ، ومن يعرف لو افتضح الأمر ، فلن تلمسني إلا يد باردة ميتة . .
جابر : لا تقلقي . ستكون يدي مشتعلة بالحياة عندما تلمسك . لست ذبابة حمقاء تسقط في أي فخ ، الأمر إبسط مما تتصورين ، سأنطلق كالريح ، إبلغ الرسالة ، وأعود لئلا نفترق بعدئذ . .
زمرد : إني خائفة يا جابر لا بد أنها خطيرة ، ولعلها تمس مولانا الخليفة لو علم أحد . .
جابر : وتشغلين نفسك بالخليفة والوزير ! فخار يكسر بعضه يا زمرد . لن نحمل همومهم أيضاً . مستقبلنا أهم تصوري فجأة وجدت أمامي فرصة عمري ، فهل أتركها ! أكون مجنوناً لو لم أثب عليها ، كل الفرق بين الفشل والنجاح ، هو أن يعرف المرء كيف ينقض على الفرصة لا لا تخافي . المهمة سهلة ولا مبرر للقلق سأعود .. وستكون أمامنا كل الأيام ، أيام حافلة وبهيجه . .
زمرد : أواثق حقاً أنه لا خطر عليك ؟!.
جابر : هناك خطر واحد فقط . .
زمرد : ( بلهفة وجدية ) ما هو ؟ .
جابر : أن تبالغي في التثني حين تسيرين في أرجاء القصر . لو فعلت . فسيكتشف الوزير نفسه أن لك أليتين تتلاحق لها الأنفاس كأني أراه .. سيتناول نشوقه ، ويسوقك إلى مخدعه ، حينئذ لن يبقي للمسكين جابر أن يموت كمدا . .
زمرد : ( باسمة ) متى تتعلم الحشمة ! .
جابر : كل هذه المفاتن أمامي ، وتريدين أن أحتشم ( يضرب بيده على القضبان .. متحسراً ) لولا قضبان النافذة .. ولكني عائد فور خروجي . ابدئي زينتك عندما أعود ، ينبغي أن أشم عطرك على بعد فراسخ من بغداد ( يظهر الحارس ويتنحنح ) . .
زمرد : (بحركة عاجلة ترفع نقابها وتربطه ) حان الوقت يجب أن أمضى . كن حذرا يا جابر وتحاش المخاطر . سأقضي الوقت كله ابتهل لعودتك ، فحافظ على نفسك .
جابر : لا تخافي .. سأسبق طيور البراري . .
( إشارة وداع تغادر النافذة ، وهي تلتفت من وقت لآخر ناحية جابر غامزة وباسمة ) . .
الحكواتي : ( بعد فترة وبقي جابر حبيس غرفته يتردد عليه الوزير كعادته ، حتى جاء يوم قدر فيه الوزير أن الشعر طال حتى صار كافيا لستر الكتابة ، لا يظهر جزء من كلمة ولو تغلغلت الأبصار بين الشعرة والشعرة . حينئذ طاف السرور بوجهه ، وقاد مملوكة ليهيئ أمر رحيله دون إبطاء ، فالوقت ثمين والبرهة قد تقلب أوضاعاً ، وتغير مصيراً . .
( يظهر الوزير محمد العبدلى ، ومعه المملوك جابر وقد بدأ شعره ناميا ، وإن كان أقصر مما كان عليه أول ما رأيناه . نهما في ركن من الديوان ) . .
الوزير : حانت اللحظة يا جابر لحظة لن ينساها لك لا وزير ولا أمير ولا مؤرخ في بغداد . .
جابر : يبهج القلب ألا ينساني سيدنا الوزير . أما الآخرون فلا شأن لي بهم . أيأمر سيدي مملوكه بالرحيل ؟ .
الوزير : نعم حان الوقت ، ولدقائق ثمن . .
جابر : وإلى أين يريد سيدي أن أتوجه برسالته ؟ .
الوزير : قبل أن أخبرك .. اسمع يا جابر تحذيري “وإني أعني ما أقول . لو عرف إنس أو جن المكان الذي تقصده ، فاعلم أنك مفقود . وأن جهنم تفتح أبوابها لابتلاعك . .
جابر : معاذ الله أيشك سيدي بأمانة مملوكة . لا عشت إن كنت ممن يخونون السر أو الأمانة . .
الوزير : أتوسم فيك الإخلاص ، إلا أن التحذير لا يضر . .
جابر : التجربة محك الإخلاص ,. وسيرى سيدي إن كنت أستحق ثقته أم لا . .
الوزير : طيب ستتوجه يا جابر قاصداً بلاد العجم . تطلب .
حاضرتها ، وتسلم الرسالة إلى ملكها . .
جابر : بلاد الملك ” منكتم بن داوود ” .
الوزير : نعم بلاد الملك “منكتم بن داوود” . والرسالة لا تقبل التأخير . كلما أسرعت كانت الخدمة أجل ، والجزاء أعظم . .
جابر : سأقطع المسافة كالبرق الخاطف . لن تشرق الشمس بعدد أصابع اليد ، إلا وأكون أمام الملك ” منكتم بن داوود ” .
الوزير : ( يبتسم ويمسح على شعره . يطوف في نظرته معنى غامض ) كم تعجبني همتك ! لو كان لدي عشرة من أمثالك لغزوت بهم الدنيا . تدبيرك يا جابر لن ينساه وزير ولا أمير ولا مؤرخ في بغداد . .
جابر : جاد على سيدنا الوزير بأغلى مما تستحقه خدمتى التافهة . وعوده لا يحلم بمثلها مملوك . .
الوزير : الوعود محظوظ . سننفذها ونزيد . إن كنت تسأل عنها . .
جابر : والله أردت التعبير عن الامتنان لا أكثر أنا رهن الإشارة فمتى يأمر سيدي بالرحيل ؟ الوزير : في الحال .. وكل شيء جاهز . أسرجوا أفضل جواد ، وهيأوا كل ما تحتاجه الرحلة ، ينبغي أن ينجح سباقنا مع الوقت ولا داعي للتنبيه مرة أخرى يا جابر .. !! ذر أهم من زاد الطريق ، وإن وقعت في مأزق ، فلا تضيع نباهتك وأحسن التخلص . .
جابر : سأفعل أي شيء، لأكون كما يرجو سيدي . .
الوزير : هيا إذن . .
جابر : ( متردداً ) أيسمح لي برجاء صغير قبل الرحيل ؟ .
الوزير : أطلب ما تريد . .
جابر : أن ترعى سيدتي شمس النهار خادمتها زمرد . وأن يتم تجهيزها خلال غيتي . .
الوزير ( يضحك ) عرفت سر العجلة . هو العشق إذن ، لا تخف منه إلى مخدع الأحباب هيا بنا . .
جابر : يعجز اللسان عن الشكر والدعاء . ( يخرجان ) . .