سعد الله ونّوس
( يدخل ممثلان يحملان قطع ديكور بسيطة جدا ، تمثل ما يشبه رواقا في قصر بغداد ، ويمكن هنا وفي كل المشاهد التالية الاستعاضة عن قطع الديكور بلوحات مرسومة ، بعد تركيب المشهد . يلتقي الممثلان في المقدمة . الأول يمثل المملوك جابر ، شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره ، معتدل القامة ، شديد.
الحيوية ، يمتاز بملامح دقيقة وذكيه وفي عينيه يتراءى بريق نفاذ يوحي . بالفطنة والذكاء . أما الثاني فهو المملوك منصور في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره أو أكثر قليلا . قامة قصيرة وبنية قوية . ملامح تشف عن وداعة وطيبة ) .
جابر : ( يتقدم نحو رفيقه لاهيا .. مدندنا ) عندما أصبح للمسلمين خليفة ، سأسميك وزيرا للدولة .
منصور : هس .. لو سمعك سيدنا وهو في هذه الحالة ، لأمر بجلدك حتى يهترئ جلدك .
جابر : ( يفرك مؤخرته بباطن كفه ، وكأنه يساط فعلا ) ولم كفى الله الشر !.
منصور : ألا ترى ما يجري سيدنا الوزير متكدر المزاج للغاية .
جابر : أعرف أنه متكدر المزاج . وأن الحظ يبتسم لجاريته شمس النهار .
منصور : ولماذا يبتسم الحظ لجاريته شمس النهار ؟.
جابر : ( هامسا في أذنه ، وعلى وجهه تتخايل ابتسامة الخبث ).
لأن سيدنا الوزير لا يشبع من وصالها عندما يتكدر مزاجه . لو استمر الحال كذلك فستصبح شمس النهار سيدة كل شيء في هذا القصر .
منصور ( يهز رأسه ) كف عن الهزار يا جابر .
جابر : وحياتك ليس هذا خادمتها زمرد هي التي تنقل إلى الأخبار .ولقد روت لي أشياء وأشياء ( تبرق عيناه ) آه … من هذه البنت يا منصور لها طريقة لا تجارى في رواية الأخبار ( يؤدي مع الكلام حركات تمثيلية ) تغمز ، وتضحك ، ويتثنى جسدها مع الكلام حتى يغلي دم السامع في كل مرة أراها تجعلني أخور كالثور إنها محنكة كسيدتها . تمنيني بالوعود ، لكنها لا تترك لي سبيلا للوصول .
منصور : ( متأففا ) انظروا ماذا يشغله الآن !.
جابر : وماذا تريد أن يشغلني ؟.
منصور : ألا ترى أن الأمور لا تجري على ما يرام ؟.
جابر : ومتى كانت الأمور تجري على ما يرام ؟.
منصور : هذه المرة يختلف الحال . تعقد الوضع ، وأصبح في غاية الاضطراب .
جابر : يستطيع الوضع أن يتعقد ، ويضطرب حتى يصبح كمياه دجله ، ولكن بعيدا عني . .
منصور : بعيدا عنك !! الأحوال تضطرب بيننا ومن حولنا . إن الخلاف على أشده بين الخليفة والوزير .
جابر : وما لنا نحن هل تريد أن نمنعهما من الاختلاف ؟.
منصور : ومن نحن حتى نتدخل بين الخليفة والوزير .
جابر : إذن .. ليختلفا ، وليفقأ كل منهما عين الآخر . لن ألطم خدي ، وأمزق ثيابي لأن الخليفة والوزير مختلفان.
منصور : هس … ( ويلتفت حوله خائفا أن يكون حولهما سامع ) اغسل فمك ، وإلا رموا عنقك . لن أندهش لو رأيتك يوما مقطوع اللسان .
جابر : وأنا لن أندهش لو رأيتك مشنوقا لأسباب سياسية . أم نسيت أن المشانق في بغداد ، لا تنشطها إلا الأسباب السياسية . ما الذي يعينك في خصام الخليفة والوزير حتى تنشغل إلى هذا الحد ( لحظة وبحيوية ) اسمع .. لقد بدلت رأيي. .
منصور : بدلت رأيك ؟.
جابر : لا يعجبني اهتمامك بهذه الشؤون . ستكون بارعا في حوك المؤامرات لو سميتك وزيري .
( يبدأ منصور بالتأفف ، ويحاول مقاطعته لكن ” جابر ” يتابع بنفس المرح ) عندما أصبح خليفة ، سأبحث عن وزير غبي وأمين . ذلك أضمن .
هو .. هو .. بالله دعنا من مزاحك .
جابر : ولكن لا أفهم لماذا تبدو كالصوص الغارق في الماء ! كل هذا لأن الخليفة والوزير مختلفان .
منصور : وصل الخلاف حدا شديد العنف .
جابر : ينبغي أن يكون الخلاف شديد العنف ، كي يليق بخليفة ووزير .
منصور : وإذن لا تقدر الخطر الذي يحيط بنا ، النتيجة هي الأخرى ستكون عنيفة . من رأى سيدنا الوزير يخرج من الديوان أمس ، حسب أن عاصفة تهب . كان قاني العينين ، كامد الوجه ، يقضم شاربه بأسنانه .
جابر : إذا بدأ سيدنا الوزير يقضم شاربه بأسنانه ، فهو ينوي شيئا مريبا دون شك .
منصور : فور خروجه بادر إلى الاتصال بأصحابه . لا أحد يعلم ما يجري ، إلا أنني أشم رائحة خطر عظيم .
جابر : لو ذبح أحدهما الآخر ، فستصبح في بغداد وظيفة شاغرة .
منصور : ونحن ؟ .. هل فكرت ماذا سيحل بنا ؟.
جابر : ماذا سيحل بنا ننزوي جانبا ونتفرج .
منصور : قد تتفرج على جهنم قبل ذلك .. بالله كيف تريدنا أن نتفرج على فتنة تقع بين الخليفة وسيدنا الوزير .
جابر : كما يتفرج كل الناس .. نفتح أعيننا ونتسلى لمتابعة ما يجري .
منصور : ويريد أن نتسلى أيضا أما مجنون فكر في مصيرنا .
لو شبت نار الفتنة .
جابر : وما علاقة مصيرنا ؟ قد الوزير من الكمد ، أو يتوقف قلب مولانا الخليفة من الغضب أما نحن فلن تنفجر لنا مرارة ، أو يتوقف لنا قلب .
منصور : من السهل أن تقول ذلك ، ولكن لو اندلعت النار ، فسنكون الحطب الذي يغذيها .
جابر : يغذي النار من أوقدها .
اسمع . ولم لا تتدفأ بالنار بدلاً من أن تحرق أصابعك بها ؟.
منصور : لن نستطيع سيجروننا وراءهم ، ونجد أنفسنا فجأة وسط اللهب ، في النهاية نحن من يدفع الثمن .
جابر : وما أدراك قد نقبض بدلاً من أن ندفع .
منصور : أهذا ما تأمله ؟.
جابر : ولم لا لكل عملة وجهان والمهم أن تميل في الوقت المناسب إلى الوجه الكاسب …
زبون 1 : ابن زمانه …
زبون 2 : هذا المملوك شيطان .
جابر : ( أثناء حديث الزبونين يظل منغمراً في متابعة مجرى ما يريد قوله … تبرق عيناه وقد خطرت له فكرة مفاجئة ) .
أقول لك … تعال نتراهن ..
منصور : وعلام نتراهن ؟.
جابر : على الوجه الكاسب .. انتظر .. ( يزداد بريق عينيه ، وهو يفتش في جوبه ) .
اللعنة نسيت أني أعطيت كل ما أملك لزمرد آه من النساء ! يتجملن بنقودنا ، ليأخذن نقودنا مرة أخرى . ألديك قرش ؟ فتش في جيبك عن قرش .
منصور : ( يتابعه ببلاهة ) ماذا تريد أن تفعل ؟.
جابر : ( بمد يده ملحا والبريق يتقد فى عينيه ) هات قرشاً ، وسترى …
منصور : لن أعطيك قرشا هكذا لوجه الله .
جابر : لا تخف قرشك محفوظ ، ولن آخذه .
( يخرج منصور على مضض قرشا من جيبه ، فيخطفه جابر ، ويفركه بين أصابعه . إنه بدأ لعبة . حركاته تتسارع وكذلك كلماته ) انظر … الكومة كلها في هذا القرش ( يتوقف الخادم فجأة وهو يحمل صينية وينتبه ناحية الممثلين متابعاً لعبتهم باهتمام ) .
زبون : بعد من قدامنا يا أبو محمد .
( يغير الخادم مكانه … بينما جابر يوالي كلامه ولعبته دون أن يتوقف ).
جابر : الخلافة والوزارة معا. الوجه الأول يمثل الخليفة ، والوجه الثاني يمثل الوزير ، كلاهما في هذا القرض ، فلنتراهن على الكاسب ( يرميه في الجو ثم يلتقطه، ويخفيه بين راحتى يديه ) أيهما تختار الوجه الأول أم الثاني ؟ الخليفة أم الوزير ؟ يا الله … اختر أحد الوجهيين كل الدولة في هذا القرش ، الخليفة أم الوزير ؟ ( لحظة ) أخمن أنك ستقول الخليفة .
منصور : ( انساق مع جابر على غفلة منه . تفاجئه العبارة ) ما الذي يجعلك تخمن ذلك ؟.
جابر : أعرف كيف تفكر تحسب أن الخليفة هو دائماً أقوى لا … لا … تعتمد على ظواهر الأمور . فكم من خليفة لا يقدم ولا يؤخر مثقال ذرة . لخ من الخلافة اسمها وسرايا الحريم فقط معاذ الله ان أقصد مولانا الخليفة بسوء لكن أحذرك من الاعتماد على ظواهر الأور والآن ماذا قلت ؟ هل بدات تميل نحو سيدنا الوزير ؟.
منصور : ( ما يزال منساقا مع اللعبة ، وعلى وجهه انزعاج وشيق ) أميل نحو سيدنا الوزير جابر : ربما … ولكن تذكر أن لهذا الأمر أياً مخاطر وإذا كانت مؤخرة الخليفة تملأ العرش وعلى مقاسه ، فقد راهنت على وجه خاسر .
منصور : ( منبهاً إلى نفسه ، بدأ يغضب ) لم أراهن على أحد ، ولم أقل شيئاً .
جابر : ماذا تنتظر إذن ؟ التردد هو الآخر له مغبته ، الخليفة أم الوزير ؟.
منصور : (ملتفتا حوله ) .
أعوذ بالله … أرجو أن أحداً لا يرانا أو يسمعنا .
جابر : هدئ أعصابك ، ولا تفسد الرهان ، الربح قرش ، والخسارة قرش وبينهما خليفة المسلمين ووزيرهم معلقان . فقل كلمة وخلصنا .
منصور : لعنة الله عليك ، لم أر في حياتي ماجنا مثلك . رد لي قرشي .
جابر : قد أكسبه لو أخطئت التخمين ماجنا مثلك رد لي قرشي .
جابر : قد أكسب . لو أخطئت التخمين يصبح قرشي .
جابر : ولماذا لا تفك عقدة وجهك يا منصور ؟ دعنا نتسل قليلاً . طيب .. إذا شئت سألعب بمفردى ، سأقول .. ( يتلكأ ) ماذا أقول ؟ وما الفرق النقل … ( وبعد لحظة ) الخليفة ( يرفع كفه التي تخفي القرش ، وينظر يتخذ صوته طابعاً مأساوياً نادبا ) يا خيبتى إنه الوزير .. فليبك المسلمون إذن خليفتهم . أراهم يحزون عنقه ، ويسيل الدم كالنافورة .
منصور : ( مرتبكا . وفي غاية الحرج والضيق ) أستغفر الله العظيم …
جابر : معنى ذلك أننا نرتفع مرتبة إذا علا مقام سيدنا الوزير ، يعلو أيضاً مقام مماليكه لكن شوطا واحدا يكفي السباق الصحيح لا يستقيم إلا بثلاثة أشواط والآن إلى الشوط الثاني لنرى القرش مرة أخرى ( يرمي القرش برشاقة ، يهم منصور بخطفه ، لكن جابراً يلتقطه كالمرة السابقة ويخفيه بين كفيه ) ساعدني يا منصور ، قل شيئاً .
منصور : لن أشترك في عبثك ومجونك ، الخطر يحيط بنا كالهواء وأنت تلعب رد لي قرشي.
جابر : انتظر ، انتظر يجب أن تعرف النتيجة . والآن ماذا أقول . لو تكرر ظهور الوزير تنتهي اللعبة ( موجها الكلام إلى القرش المختفي بين يديه ) على أي وجه تستقر أيها القرش ؛ ستقرر مصير دولة بأسرها أعرف أن تقلباتك مجنونة لا يحكمها ضابط ولكن قد يجعلنا الحظ نتلاقى ، وجدتك ميالاً وانظر ( ويبدأ برفع كفه تدريجياً ) بأي وجه ستطالعنا … بأي وجه … بأي وجه ؛ إنه الخليفة . واحدة بواحدة . بقي شوط أخير .
وعليه تتوقف أمور كثيرة .
( يفرك جابر القرش ، ثم يرميه من جديد لكن ” منصور ” يسرع ، فيلتقطه غاضبا ، ويضعه في جيبه . ) .
منصور : وهو ( ينسحب ) لعنة الله عليك .. لا حد لاستهتارك .
جابر : بقي شوط واحد . فلم تفسد لعبتنا ( يبتعد منصور ولا يجيبه ، فيلتفت جابر صوب الزبائن متأهبا بدوره للانسحاب ) لو أعرف فقط ما الذي يعنيه في خلاف ينشب بين الخليفة والوزير ( يهز كتفيه ويمضى) .
زبون : ( لجاره ) ما قولك و الله ولد ابن زمانه .
زبون 2 : لا شيء يشغل باله .
زبون 1 : لا خليفة ولا وزير .
الخادم : ( وهو يدور بالموقد ) نارة .
زبون 2 : تعب قلب ووجع رأس بلا فائدة .
زبون 3 : تعال هنا .
( الخادم يقترب من الزبون الذي يناديه ، حاملا الملقط وموقد النار).
الحكواتي : ( يستأنف بعد أن يخلو المسرح ) هذا ما بدا من المملوك جابر حين سمع عن الخلاف الدائر وكانت الأمور تتطور بسرعة ، وتشيع الأنباء بين الناس كالوباء فقد قضى الخليفة ليلة مجتمعا بقواد الأمن ، وفي الصباح ظهرت في بغداد إجراءات حازمة ومنذرة . وكان الوزير يرغي في ديوانه ، وحوله عدد من أصحابه أمراء وتجار كبار أما أهل بغداد فما أن شاعت بينهم الأنباء ، حتى يسرعوا كعادتهم يزاحمون حول الأفران ، ليؤمنوا خبزهم لأيام …
( يدخل الممثلون الخمسة الذين رأيناهم من قبل يمثلون أهل بغداد ، وهم يحملون معهم شباك فرن وبعض القطع الأخرى التي مكن أن توحي بمنظر شارع عام . يضع الممثلون قطع الديكور ويركبونها أمام المتفرجين . يمكن هنا كما في كل المشاهد ، الاستعاضة عن ذلك بالبانوهات المرسومة . بعد إعداد المنظر يبدأ التمثيل . إنهم ينتظرون بنفاد صبر وقلق أمام شباك القرن .
يتطلعون إلى الداخل ، ويتعجلون الفران . متعبون وعلى وجوههم اضطراب وشعور عميق بانعدام الأمن ).
المرأة الأولى : أف .. منذ الصباح وأطفالي وحدهم في البيت لو كنت أعلم لحملتهم معي .
الرجل الثالث : انتصف النهار ونحن في الانتظار .
الرجل الأول : ( مادا عنقه فوق رؤوس الآخرين نحو شباك الفرن ) ولكن ماذا يفعلون بحق الله ؟ أخشى أن يكونوا نائمين .
الرجل الثاني : ( وهو أقربهم إلى الشباك . يوجه الكلام إلى الفران ) يا الله يا أبو عمر .
صوت الفران : ( من الداخل ) وهل ترانا نتثاءب ؟ منذ منتصف الليل لم تهدأ أيدينا .
الرجل الأول : ومع هذا نحن ننتظر منذ وقت طويل .
صوت الفران : ماذا نفعل ؟ كل واحد يطلب اليوم أضعاف حاجته .
الرجل الأول : أمر طبيعي في مثل هذا اليوم .
المرأة الأولى : إذا وقعت الواقعة فمن يعرف متى تنتهي .
صوت الفران : إذن امسحوا وجوهكم بالرحمن ، وانتظروا .
المرأة الثانية : ( وهي تجلس ) أف .. يبست أقدامنا ونحن ننتظر .
الرجل الثاني : ما الفائدة سننتظر . لا بد من الخبز .
الرجل الثالث : ( يجلس بدوره) في هذا الوقت الخبز أهم شيء إذا توفر في بيتك ضمنت نصف السلامة .
المرأة الأولى : ووراءنا أطفال سيصرخون إن لم يجدوا لقمة الخبز .
الرجل الثاني : لن نذهب قبل أن نؤمن خبزنا لثلاثة أيام أو أربعة .
المرأة الثانية : أربعة أيام ( تتنهد ) محظوظ من يستطيع أن يشتري خبزا لأربعة أيام .
الرجل الثاني : أختي . لا تظني بي اليسر . والله سأفرغ كيسي كله في يد الخباز .
الرجل الأول : أفضل لنا جميعا أن نفرغ أكياسنا الهزيلة الآن بعد قليل سيصبح ما فيها كالعملة الباطلة .
المرأة الأولى : ماذا تقصد ؟.
الرجل الأول : ( خافض الصوت ، كأنه يسر لهم ) حتى الآن .. لم يرتفع سعر الخبز إلا قليلا ، ولكن خلال ساعات ..
المرأة الثانية : ( تقاطع باندهاش وقلق ) هل رفعوا سعر الخبز ؟.
الرجل الأول : ألم تعلمي ؟.
الرجل الثالث : بدأ الغلاء مع الصباح .
الرجل الأول : رفعوا السعر قرشا . ولكن خلال ساعات سترتفع الأسعار كالحمى ، وستصبح قروشنا كالعملة الباطلة .
المرأة الثانية : أعوذ بالله .. لا تفتح علينا هذا الباب … .
الرجل الأول : أأنا أفتحه كأنك لا تعرفين تجار بغداد إنهم يزقزقون اليوم .
الرجل الثاني : يزقزقون ويغردون .
المرأة الأولى : خزاهم الله . لو استطاعوا لأكلوا لحومنا نيئة .
الرجل الثالث : هذا يومهم .. ولو تطورت الأزمة لأصبح كل شيء أغلى من الذهب .
الرجل الأول : لو تطورت وماذا تسمي ما يجري إذن إنها تتطور وبسرعة مخيفة .
الرجل الثاني : فعلا وإلا ماذا يعني خروج الحراس من ثكناتهم .
المرأة الأولى : ( تشهق ) آه .. بالله لا تذكرنا .
المرأة الثانية : أجارنا الله .. فاجأتني وجوههم عند المنعطف ، فارتخت ساقاي ، وكدت أسقط. .
المرأة الأولى : رؤية الموت أهون .
الرجل الثاني : اكتسحوا الأسواق كالعاصفة كان الناس يختفون في الجدران وهم يرتعشون . لا أستغرب لو أن بعضهم بال في سرواله .
( بينما الحوار مستمر ، يدخل رجل رابع يحمل كيسا فارغا . يمكن أن يقوم بدوره الممثل الذي يقوم بدور منصور ، وإن بدا الآن أكبر سنا . ينضم إلى الجماعة ، ويجلس واضعا كيسه في حجره . يلتفت الآخرون إليه . إلا أنهم لا يعيرونه كبير اهتمام ) .
الرجل الثالث : عشت عمرا طويلا ، ومع هذا لا أذكر يوما أن أهل بغداد لم يبولوا في سراويلهم ، عندما يظهر الحراس في الشوارع .
الرجل الثاني : أما اليوم فأكثر وأكثر . كالعاصفة اكتسحوا المدينة . ألم تر أسلحتهم المشهرة ووجوههم العابسة . من المؤكد أنهم ينفذون قرارات خطيرة .
الرجل الأول : ملأوا الشوارع والساحات . كيفما تحرك المرء يصطدم بهم .
المرأة الثانية : سترك يا رب .. ينتفض قلبي كلما تخيلت وجوههم .
الرجل الثاني : كل المظاهر تدل على أنها واقعة بين لحظة وأخرى .
المرأة الأولى : ولا أحد يعلم ما يخبئه لنا الغد .
الرجل الثاني : سبحان علام الغيوب . زمن أين لنا أن نعرف ما يخبئه الغد .
الرجل الأول : لهذا خير ما نفعله هو أن نؤمن خبزنا ، ونختفي في بيوتنا . .
الرجل الثالث : هذا هو الصواب . نشتري أرغفتنا ، ونمضي إلى بيوتنا .
المرأة الثانية : ولكن متى ينتهي الخباز ، ويتركنا ننصرف ؟.
المرأة الثانية : ولكن متى ينتهي الخباز ، ويتركنا ننصرف ؟.
المرأة الأولى : لو علمت أننا سننتظر كل هذا الوقت ، لحملت أطفالي معي .
الرجل الأول : ( يلقي نظرة على الرجل الرابع ) وكلما تأخروا ازدادت جمهرة الناس أمام الفرن . لن يبقي للشاطر رغيف .
الرجل الثاني : ( إلى داخل الفرن ) أنظل واقفين يا أبو عمر ، انكسرت ظهورنا .
صوت الفران : عليكم بالصبر إلا إذا أردتم أن تشتروا عجيناً بدلاً من الخبز .
الرجل الثاني : اسمعوا .. بعد كل هذا الانتظار يريد أن يبيعنا عجينا بدلاً من الخبز .
المرأة الأولى : أعوذ بالله ! ما هذا اليوم ؟.
الرجل الثالث : لا خيار لنا سننتظر ونحن مضطرون في هذا الوقت الخبز أهم شيء .
المرأة الثانية : حتى ولو كان عجينا يغص به الآكل .
الرجل الثاني : إننا منتظرون على كل حال .
( تأفف .. بعضهم ينفخ نافد الصبر وتسود لحظات من الصمت ) .
الرجل الرابع : لا مؤاخذة … وهل بينكم من يعرف بالضبط ما يجري ! .
( يلتفت إليه الجميع ، وتتفرس فيه العيون ، كأنهم يكتشفون وجوده لأول مرة بينهم ) .
الرجل الأول ( ساخراً ) بالضبط .
الرجل الثاني : ومن أين لنا أن نعرف بالضبط ما يجري ! .
الرجل : ألست من أهل بغداد ؟.
الرجل الرابع : أي وحق الله مولود فيها ، وكذلك أبي وأجدادي .
الرجل الثاني : وإذن فأنت تعرف ما نعرف لم يعد الاضطراب سرا .
المرأة الثانية : اضطراب الأحوال كالحريق لا يخفى دخانه .
الرجل الثالث : نعرف ما نراه … وما نراه هو غيوم سوداء كالفحم تخيم على بغداد .
الرجل الثاني : كل الظواهر تؤكد أن العاصفة ستهب بين لحظة وأخرى .
المرأة الأولى : ارحم عبادك يا رب .
الرجل الثالث : وإذا هبت العاصفة ما علينا إلا أن ندخل بيوتنا ونغلق نوافذها جيداً .
الرجل الأول : ألم تر الحراس وهم يجتاحون الشوارع .
الرجل الرابع : أي وحق الله رأيتهم وتعوذت من رؤيتهم .
الرجل الأول : والتوتر ألم تسمع بأن الوضع متوتر وأن الخلاف شديد بين الخليفة والوزير .
الرجل الثاني : كلاهما متصلب أكثر من الآخر ولا يبدو أن هناك سبيلاً للوفاق أو التراجع .
الرجل الرابع : أي وحق الله سمعت عن هذا أيضاً .
الرجل الأول والثاني : ( معا وبغيظ ) ما الذي تجهله إذن ؟ .
الرجل الرابع : ما أجهله كثير ، أسأل إن كان بينكم من يعرف سبب الخلاف أو توتر الأوضاع .
الرجل الأول : يسأل عن سبب الخلاف !.
المرأة الأولى : وكيف يمكن أن نعرف لماذا يختلف السادة .
الرجل الثالث : وما علاقة أمثالنا في ذلك ؟.
المرأة الثانية : إنهما مختلفان والسلام المهم أن يخلصنا الفران ، ونذهب إلى بيوتنا .
الرجل الرابع : وحق الله من الضروري أن نسأل عن سبب الخلاف ، وأن يكون لنا رأي فيه .
الرجل الثالث : أيها الرجل … تثير شؤونا خطيرة ، عاقبة البحث فيها وخيمة .
المرأة الأولى : هل تريد أن تدهور الناس ؟.
المرأة الثانية : بالله عليك .. العب بهذه الشؤون المفزعة بعيداً عنا من نحن حتى نسأل عن سبب الخلاف بين وزير وخليفة !.
الرجل الثالث : الضروري بالنسبة لنا هو الخبز والأمان لا سبب الخلاف .
المرأة الثانية : أي والله ، هذا كل شيء الخبز والأمان .
المرأة الأولى : سلامة أولادنا أغلى من الدنيا كلها .
الرجل الثاني : وما علاقتنا! ابعد عن الشر وغنِّ له .
الرجل الرابع : ( دائماً هادئ اللهجة، واثقا من نفسه ) وحق الله لا أخالفكم الرأي ، ولكن طريق الخبز والأمان واأسفاه يمر من هذا السؤال .
المرأة الثانية : ( هامسة للأولى … يبدو الضيق وكذلك الدهشة على وجوه الجميع ) ويلح في إثارة شؤؤنه .
المرأة الأولى : قلت لكم يريد أن يدهورنا .
الرجل الأول : ولماذا يمر فيه أتأمل أن يكون الخلاف من أجل تخفيض الضرائب .
الرجل الثاني : أو من أجل تحسين أحوال الرعية .
الرجل الثالث : عشت عمراً طويلاً ، يا ما رأيت سادة يعلون وآخرين يولون .
الرجل الثالث : عشت طويلاً ، يا ما رأيت سادة يعلون وآخرين يولون ، أما عامة بغداد فحالهم هو هو ، وإن ضمنوا السلامة كان فوزم عظيماً .
الرجل الأول : أمر معروف … لا يختلف السادة من أجل عامة بغداد ( لحظة … هامساً ) ربما كانت الخزينة تزرب .
الرجل الثاني : أو كان نزاعا على قيادة العسكر .
الرجل الأول : أو على تعيين الولاة .
المرأة الثانية : ( قلقة تحاول أن تقطع الحديث ) بالله ابعدونا عن هذا الحديث .
الرجل الأول : المهم … لا يختلف السادة من أجل عامة بغداد .
( يظهر في الشارع حارسان مدججان بالسلاح ، يبدو أنهما يقومان بأعمال الدورية تلحظها المرأة الثانية ، فيرتعش وجهها بالخوف ، وترتبك تمسك الرجل الأول من طرف سترته ، لتنبهه .. ) .
الرجل الرابع : ( وكان مطرقاً ) وحق الله … ما تقولونه … .
المرأة الثانية : ( برعب ، والحارسان يقتربان ) هس … .