هناك قاعدة من قواعد أصول الفقه التأصيلية في الأحكام تقول: (إن الأحكام تدور بعللها وجوداً وعدماً)، بمعنى أن العلة هي التي تُسوغ تطبيق الحكم، كما أن غياب العلة لا يسوغ تطبيقه؛ وهذا يعني بكل وضوح أن العبرة في تطبيق الأحكام الشرعية، أو تعليق مقتضياتها، مناط بمقاصدها، وأن النص إذا تعلق بالدنيويات، وليس بالعقيدة والعبادات، يدور مع المقاصد حيث دارت. وهناك من الأدلة التي تُثبت هذه القاعدة الاستنباطية، ما لا يتسع له حيز هذه الزاوية؛ لعل أهمها قوله صلى الله عليه سلم (أنتم أعلم بأمور دنياكم) عندما نهاهم عن تلقيح النخل، ثم دار مع المصلحة، وعاد عن أمره. عمر بن الخطاب كذلك تلمس مصلحة المسلمين عندما علَّق بعض أوامر القرآن متذرعاً بالمصلحة، واختلاف الزمان والمكان والظروف التي اكتنفتهما، مثل تعطيله سهم المؤلفة قلوبهم، وتعليق حد قطع يد السارق في عام الرمادة. كل هذه الدلائل الثابتة، والتي يتفق عليها الفقهاء، تعني أن الإسلام يتماهى مع الزمان والمكان، بمواكبته، وليس بالتعالي على متغيراته المُطردة.
وهنا يتجلى الفهم الخاطئ والمغلوط لدى البعض لمقولة (إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان)؛ فالمقصود هنا من استقراء الأدلة، ودوران النص مع مقاصده، أن يُواكب الحكم الشرعي المصالح، وتغيرات الواقع، ولا يتعالى عليه. فمثلاً هناك أوامر إلهية، نزلت على الرسول بصيغة (الأمر)، مثل قوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ}. أو الرواية التي رويت عن الرسول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله .. إلخ الحديث)، هنا يبرز الفرق بين أن نتمسك بالنص، ونجرده من مقتضيات الزمان والمكان، وبين أن نحصره في زمنه صلى الله عليه وسلم، انطلاقاً من أن ضرورات المصلحة، وتراضي الناس على نبذ العنف والغزو والقتال بين الأمم يستدعيان أن نجرده من زمن الرسول. وهنا لا بد من القول إننا إذا استطعنا فعلاً لا قولاً أن نجعل المصلحة العليا للإسلام والمسلمين وتحرّيها هي الفيصل في تطبيق الشرع الحنيف، فإننا حينها نكون عملياً طبقنا المقولة الخالدة (الإسلام صالح لكل زمان ومكان)، أما إذا فهمنا هذه المقولة فهماً خاطئاً، وقمنا بالإصرار على (تكييف) الواقع بالقوة لتطبيق النص، وليس تكييف النص ليتواءم مع متطلبات الواقع وتغيراته، كما فعل عمر سنة الرمادة، فإننا سنتحول إلى (دواعش) في نهاية المطاف؛ فداعش لا تهتم بالزمان والمكان قدر اهتمامها باستيراد النص من الماضي، وتستورد معه زمنه، ثم تفرضه على زمننا بقوة السلاح، حتى وإن كان ذلك النص لا يتماهى مع زمننا؛ فتحري المصالح بمختلف أنواعها ليس لها أي وجود في قواميس الدواعش الفقهية، كما كانوا أسلافهم الخوارج. كل ما أريد أن أقوله في هذه العجالة أننا سنظل نعاني من الجمود والتكلس وبالتالي الإرهاب ما لم نربط أحكام الإسلام الدنيوية بنظرية المقاصد ليكون الإسلام في النتيجة صالحاً لكل زمان ومكان..
* نقلاً عن “الجزيرة”