معركة #التنف ـ دير الزور: مربط الفرس :حنا صالح: كاتب لبناني
التحذير الذي أطلقه ذات يوم الملك الأردني عبد الله الثاني من خطر قيام «هلال شيعي» لم يؤخذ على مجمل الجد. «هلال شيعي» يربط إيران بلبنان والمتوسط عبر العراق وسوريا، اعتبر في حينه ضربا من الخيال. لكن ما حذّر منه الملك سرعان ما تمّ وضعه في التطبيق. في لبنان كان هناك «تسامح» مع خطوات الانقلاب على الطائف والدستور، وتواطؤ في عملية بناء جيش رديف: «حزب الله»، الذي أُنشئ على أيدي بعض جنرالات الحرس الثوري الإيراني، ومن البداية نفذ المحتل السوري خطة قضت بإخلاء الساحة لهذا الجيش الصاعد، فجرى وضع جبهة المقاومة الوطنية أمام كماشة التصفية الجسدية أو الترهيب والتضييق لإلغاء الدور، وتم تعطيل أي مشروع جاد لإعادة بناء جيش وطني للبلاد، والموجود من هذا الجيش جرى تقنين دوره.
ومع إسقاط ديكتاتورية صدام حسين في العراق، ومجيء أكثر الحكام الجدد على متن الدبابات الأميركية، وبعضهم قدِم من طهران مباشرة، شكل قرار «بريمر» حل الجيش العراقي الطامة الكبرى، والبقية معروفة، إذ سارعت طهران إلى إطلاق أكبر خطة لملء الفراغ على أنقاض الجيش العراقي. وكان للجنرال قاسم سليماني ما أراد، فإلى شبه جيش، تم إنشاء ميليشيات طائفية توجت بـ«الحشد الشعبي» الذي تم مؤخرا تشريعه، وهو بنهاية المطاف ذراع عراقية للحرس الثوري الإيراني، وربما الأداة الأبرز في تعميق الشرخ الطائفي وتفتيت العراق لتسهيل الهيمنة عليه.
عام 2005 هزّ اغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري نظامين أمنيين في بيروت ودمشق، وأدى الالتقاء الموضوعي بين «انتفاضة الاستقلال» التي أطلقها اللبنانيون، والتحرك الدولي ضد الاستباحة السورية والمُعبر عنه في قرار مجلس الأمن الدولي 1559، إلى فرض جلاء رسمي للاحتلال الأسدي عن لبنان، فاهتزت بقوة صورة الحكم السوري، الذي ذهب إلى الحد الأبعد في عملية الالتحاق بالنظام الإيراني.. أما القوى السياسية اللبنانية، التي حازت الأغلبية في برلماني 2005 و2009 (المستمر حتى اليوم نتيجة تمديدين قسريين) فقد تعايشت مع الأمر الواقع، ودون أي تجن، لم تقدم أي مشروع لبسط سلطة الدولة دون أي شريك، واستسهلت ممارسة الحكم من خارج الدستور المعلق منذ إقراره قبل نحو من 27 سنة، وأدت الحكومات المتتالية التي تساكن فيها أطراف الفريقين الطائفيين 8 و14 آذار، إلى تحاصص الدولة ووارداتها، وتغلغل غير مسبوق لـ«حزب الله» في كل المؤسسات العامة فأمسك أبرز مفاصل القرار.
منتصف مارس (آذار) 2011 انفجرت انتفاضة الشعب السوري، نجحت بتحدي آلة القمع الوحشي، وكُسرت هيبة «مملكة الصمت» القائمة على التخويف والقتل، وخلال أشهر قليلة بات نحو 60 في المائة من سوريا خارج سيطرة الحكم الديكتاتوري في دمشق، الذي ارتمى في حضن النظام الإيراني، ودفعا معا لفرض عسكرة الانتفاضة وإلصاق تهمة الإرهاب بالشعب السوري، وخدم هذا المخطط، ربما لأهداف أخرى، بعض الأطراف الإقليمية التي تتحمل مسؤوليات جساما عن تخريب الأوضاع في مصر وليبيا وسوريا (..)، وشكلت مفاوضات الاتفاق النووي، التي استمرت نحو خمس سنوات، المظلة للتوسع الإيراني في المشرق العربي واليمن. توسع ما كان ممكنا لولا خطة ممنهجة اعتمدتها طهران لزعزعة الاستقرار وتخريب النسيج الداخلي لبلدان تبجح مرارا قادة الحرس الثوري بالسيطرة على أربع من عواصمها.
مع تيقن موسكو، التي تدخلت في الحرب السورية مجربة أسلحتها بالمدنيين والعمران، بأن لا حلّ عسكرياً للأزمة السورية، طرحت كل جولات السؤال المحوري عن مصير القوى الخارجية، وأولاها الأذرع المسلحة للحرس الثوري التي تعيث فسادا وخرابا لا يقل عما تقوم به الميليشيات الطائفية الأخرى. لكن التطور النوعي تمثل في مجيء الإدارة الأميركية الجديدة، التي وإن حددت أول أهدافها اقتلاع «داعش» وأضرابها، فقد حمّلت إيران المسؤولية عن زعزعة استقرار المنطقة، والتقت مواقف صناع القرار في واشنطن على ضرورة محاصرة التمدد الإيراني. وحتى لا يكون هناك أي التباس، فإن أميركا التي استهدفت التوسع العسكري الإيراني، لم تطلق أي إشارة بأنها ذاهبة اليوم إلى خوض مواجهة عسكرية مباشرة، لكن كل المؤشرات بدأت تشي بأن الميدان لم يعد مفتوحاً لإيران كما تخطط، وتوجيه ضربة للميليشيات التي كانت تتقدم باتجاه الحدود مع العراق وفّر مصداقية عما تعتزمه واشنطن.. وجاءت قمم الرياض التاريخية لتكرس عزل نظام طهران، ووسمت إيران بوصفها دولة راعية للإرهاب. بهذا السياق كان لافتا أن وزير الخارجية الأميركية تيلرسون دعا الرئيس روحاني الفائز بولاية رئاسية ثانية إلى العمل الفوري لتفكيك المنظومة الإرهابية للحرس الثوري.
اليوم السؤال الذي يطرح نفسه بعد المواقف الأميركية، هو هل الإمكانية متوفرة لاتخاذ إجراءات جدية تحاصر التمدد العسكري الإيراني؟ السؤال داهم وقد بات الهامش ضيقاً جداً، مع الاندفاعة الإيرانية للحفاظ بأي ثمن على المواقع التي تحتلها الآن، كمراكز نفوذ دائمة.
المعروف أن طهران التي تعمل لتوسيع بحيرة نفوذها حتى المتوسط، عدلت من خطتها الربط البري مع العراق عبر تلعفر وغرب الموصل، بعدما باتت منطقة الحدود تلك من جهة، مركز نفوذ ووجود الحركة الكردية، وتعمل على قتال «داعش» واستعادة الرقة تحت غطاء أميركي كبير، ومن الجهة الأخرى أقام الجيش الأميركي فيها مهابط للطائرات، فعمدت إيران لتجنبها، وغيرت مسار ممرها البري نحو الجنوب، نحو معبر «النتف» قرب دير الزور، وبدا ضغط ميليشيات الحرس الثوري انطلاقا من القلمون الشرقي ومنطقة تدمر جليا، ويقابله تقدم «الحشد الشعبي» العراقي نحو «باعج» التي كانت مقراً للبغدادي زعيم «داعش»، والمنطقة حلقة أساسية في المخطط الإيراني الذي يربط المحافظات الشيعية جنوب العراق بالبادية السورية فتدمر ومحيط دمشق الذي عرف تغييرات ديموغرافية معينة، ومن هناك إلى القلمون الغربي والحدود اللبنانية.
الثابت أن طهران تتجه لخوض معركة حياة أو موت، بالنسبة لاستمرارية نفوذها وحجمه في سوريا والمنطقة، وتقوم بحشد قوات كبيرة من مختلف أذرع الحرس الثوري ومعهم وحدات من الجيش السوري، ومن الوجهة الإيرانية وحده هذا الواقع الميداني يمنح طهران التأثير اللاحق على قرار دمشق حتى بعد التغيير في رأس القيادة السورية. بالمقابل فإن واشنطن التي تعدُّ لمعركة الرقة في الشمال الشرقي، تجد نفسها في قلب معركة في الجنوب، وتدرك أن الأولوية الآن لهذه المعركة بالذات، لأنه فقط عبر إبعاد الميليشيات الإيرانية عن معبر «النتف»، يتم قطع «الهلال الشيعي» وتصبح معركة إنهاء «داعش» في دير الزور أكثر سهولة. وبهذا السياق ترتدي المباحثات العسكرية الأميركية – الروسية، التي تستضيفها عمان، أهمية خاصة، كونها تناقش إقامة منطقة آمنة ومحظورة على الميليشيات الإيرانية، وتمتد من القنيطرة إلى درعا والسويداء والنتف ودير الزور، والأكيد أن عقدة النقاش تكمن بالتوافق على الأحجام والنفوذ والأثمان وهو الأمر المعروف عما تريده روسيا.. وهذه المباحثات التي شملت أيضا إسرائيل، وفق ما كشفه وزير الدفاع الروسي، تؤكد أن السباق العسكري على الأرض يتقدم على جنيف وآستانة، والمصداقية الأميركية على المحك أكثر من أي وقت سابق.
“الشرق الاوسط”