الواعظ الذي ظهر في مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة الذي اختتم أخيراً، لم يكن وحده، بل صاحبه فريق مكون من شرطي ومرافقين أحدهما تولى دور المذيع وقاطع «فرقة الباحة» التي كانت تؤدي عرضاً فولكلورياً يتلو شاعرها أهزوجة تراثية، دخل عليهم الواعظ ممثلاً دور ضيف مهذب أوقف الأهزوجة وهو يقول «لقد هيضني غناءكم»، هكذا حياهم تحية طربية. «يا سلام يا شيخ»، ثم سلّم عليهم ولم يأخذ المايكروفون بنفسه، بل أخذه المرافق المذيع وقدّم للجمهور الواعظ الفذ الذي جاء كي يلقي إليهم كلمة لم تكن ضمن البرنامج طبعاً، ولم تستطع هذه الكلمة أن تنتظر القوم حتى ينهوا فعاليتهم، فما هو هذا الكلام المهم الذي اضطر هذا الواعظ لقوله؟
أخذ الواعظ المايكروفون وقال إنه جاء ليدعو لهم، ودعا الله «أن يجعل كل امرأة في المكان أجمل زوجة في عيني زوجها، وأن يجعل كل رجل في المكان أجمل زوج في عيني زوجته»، ثم قال: «أوصيكم بصلة الرحم، فمن يمنع زوجته أن تزور والديها يعاقبه الله، ولا تضربوا زوجاتكم ضرباً عنيفاً فتكونوا من أشرار العرب، ومن ضرب زوجته اليوم عليه أن يحضر لها هدية، ويجب أن تعاملوهن معاملة الأسير، فالزوجة كما قال ابن القيم في مقام الأسير عند زوجها، ولا تضربوا أولادكم على الوجه» فلديه بحث نتائجه مرعبة عن أضرار ضرب الوجه. لم تتجاوز العظة هذه الأفكار الساذجة التي يعرفها الجميع، ثم أنهى حديثه قائلاً إنه كان بوده أن يهزج معهم لكنه لا يعرف. «جزاك الله خيراً يا شيخ»، هذا ما ردده رجل من فرقة الباحة «كان دوره أن يطلق باروداً في الهواء» ورأى في هذه المقاطعة بياناً وسحراً، لهذا أصرّ أن يطلق أمام الواعظ طلقتين تحية له على مقاطعته ونصحه لهم، ليدخل الجمهور في وجوم. ثم ذهب الشيخ كي يمارس هوايته في مقاطعة فعاليات الجنادرية الأخرى ويدعو لهم ولزوجاتهم ويوصيهم بصلة الرحم، وبعدم ضرب الزوجات الأسيرات بعنف.
هذا الشيخ يرى أن كلامه أهمّ من كل ما يحدث حوله من أهازيج الناس ومن برنامج المؤسسة المنظمة لهذه الفعاليات، فهو لديه بحوث عن صلة الرحم وعدم ضرب الأسيرات. وهو وحده الذي يعرف أن يقول هذه الكلام، لكنه هو وجمهوره المتحمس له سيكونان أول المعارضين للتشريعات القانونية المتعلقة بمنع العنف والتحرش بالنساء والأطفال، لأن المجتمع لا تنصلح حاله إلا بالعظات، أما القوانين فإنها تلغي دورهم.
ليس هذا الآن هو المهم، المهم كيف استطاع هذا الواعظ مقاطعة الفعالية؟ وكيف تأتّى له أن يصطحب شرطياً ومذيعاً؟ فوجود عنصر من الأمن معه يعني أن هذا الفعل تمّ بدراية الجهة المنظمة، وإن كان الأمر كذلك فلِمَ لا تنظم له مكاناً خاصاً للعظة وتترك الفعاليات من دون مقاطعة؟
مع بداية معرض الكتاب الذي انطلق مساء أمس وتنظمه وزارة الثقافة والإعلام، سيكون لفرق الاحتساب التي تدربت على عمليات الاحتساب المنشورة في جنبات الفضاء الإلكتروني حضور لافت للنظر، وبدايته جاءت من تحذير أولي أطلقه أحد الوعاظ المشهورين يوصي «بعدم ذهاب المرء منفرداً إلى معرض الكتاب» وأن عليه أن يأخذ معه موجهاً ناصحاً خبيراً «كي يقيه شر الوقوع في بحر الظلمات الفكرية، فكل كتاب يقرأه إما ينكت قلبه نكتاً بيضاء أو سوداء»، الجدير بالذكر أن النكتة المقصودة هنا ليست لها علاقة بالإضحاك إلا في مضمونها، فالناصح الخبير لن يكون سوى «سوبرمان» يستطيع من نظرة واحدة أن يميز الكتاب ذا النكتة السوداء من البيضاء ومن بين آلاف دور النشر وملايين الكتب.
فكر الاحتساب هو فكر وصاية واعتقال يجعلك بالضبط كالأسير عنده يفعل بك وبعقلك ما يشاء، لكنه في الوقت نفسه لا يدرك أنه في عصر الدولة، وأن القوانين لا تجيز الاحتساب المنفلت الذي يقاطع الفعاليات والأمسيات الثقافية، وأنها وحدها من تنظمه وتقننه، وفي الوقت نفسه لا يلتزم بقول الله تعالى «لست عليهم بمسيطر». إنه لا يرى نفسه إلا وكيلاً وحارساً على كل الناس. وقانا الله وإياكم شر النكتة السوداء.
*نقلاً عن “الحياة”.