الإتحاد الاماراتية
تسارعت عروض التفاوض المتبادلة بين الأطراف في سوريا. فبعد خطاب للأسد قبل شهر وضع فيه للتفاوض شروطاً كثيرةً تضمنت مواصفات للمفاوضين ولمحددات التفاوض ولنتائجه المسبقة، قال معاذ الخطيب رئيس الائتلاف السوري المعارض إنه يقبل التفاوُض مع نظام الأسد بشرط اتخاذ ذاك النظام إجراءات لبناء الثقة تتمثل في إطلاق سراح السجينات، وتجديد الجوازات السورية للموجودين بالخارج! وعلى الرغم من أنّ هذه “الشروط” هي بمثابة الجبل الذي أسفر عن فأر؛ فإنّ النظام لم يأْبَه لهذا العرض السخي الذي بدا أنّ الأميركيين والروس يحبّذونه. وفي حين خاضت فصائل”المعارضة” بالخارج (ولا أقول الثورة، لأنّ المقاتلين بالداخل لم يؤيد منهم أحداً تفاوضيات الخطيب) في تكتيكات الخطيب رفضاً أو قبولاً أو ترجيحاً؛ فإنّ الرجل بدا مستميتاً للحصول على شيء من النظام (وليس من الثوار) يُكْسِبُ خطوته المفاجئة بعض الوزن. ولذا وبعد نهاية المدة التي حدَّدَها، عاد فـ”تحدّى” النظام باقتراح أن تكون الحوارات أو المفاوضات على”رحيل النظام” في المناطق المحرَّرة بشمال سوريا.
وردَّ النظام بسيارة مفخَّخة على الحدود مع تركيا تقصَّد بها وفداً من المجلس الوطني السوري، وبكلام لوزير “المصالحة الوطنية” في حكومة الأسد علي حيدر، يعرض فيه على الخطيب أن يحاوره في جنيف. في حين تبرع نائب وزير الخارجية الروسي أن يرتّب لقاءً بموسكو بين الخطيب ووليد المعلِّم وزير خارجية الأسد، واللذين يزوران روسيا الاتحادية آخِر شهر فبراير!
عندما بدأ هذا الكلام حول “التفاوض” من أجل حلٍّ سلمي قبل شهور وشهور، كان قائده المبعوث الدولي والعربي الأخضر الإبراهيمي. ويومها، وبعد ثلاثة أشهر من المداولات والزيارات لدمشق، عبَّر الإبراهيمي عن خيبة أمله لفشل النظام في الاستجابة للحدّ الأدنى من مطالب المجتمع الدولي والمعارضة السورية. وفي كلامه أمام مجلس الأمن، بدا الإبراهيمي متبنياً لأُطروحة أو وثيقة جنيف، والتي تقول بحلٍّ سياسي تفاوُضيٍّ بين نظام الأسد والمعارضين. إنما الطريف وغير الظريف أنّ موسكو التي تكلمت دائماً عن وثيقة جنيف، باعتبارها أساساً للحلّ هي التي حالت دون الذهاب إلى مجلس الأمن، واتخاذ قرار تحت الفصل السابع بإنفاذها. وذلك لأنّ الأسد لا يقبل إنهاء العنف فوراً، وإدخال قوات سلام دولية للإشراف على وقْف القتال، والشروع في العملية السياسية المشتركة. ولذا فقد بدا الأُفق السياسي أو التفاوضي مسدوداً، إلى أن طَلَع الخطيب بمبادرته ذات الشروط المنخفضة السقف وإن رمت كرةً خفيفة الوطأة في ملعب النظام. وقد فهمْتُّها في ذلك الوقت – أي قبل أسبوعين- بأنها تحريكٌ للجو الخانق، وربما تُضرُّ بالنظام أكبر من إضرارها بالمعارضين. وبخاصة أن الولايات المتحدة وأنصار النظام السوري، أكثروا من الحديث عن قوى الإرهاب والتطرف بين فصائل الثوار بالداخل السوري!
لكنّ ظهور معاذ الخطيب بالقاهرة مع الإبراهيمي من جهة، وتجديده لدعوة الحوار بعد انقضاء المدة، واستجابة النظام والروس على حد سواء؛ كلُّ ذلك يدفع باتجاه احتمالات أُخرى، دون أن نفترض قصر النظر أو سوء الظن بالخطيب نفسه.
قبل ثلاثة أشهُر شاع لدى الأوساط الغربية والروسية على حد سواء، التوجُّهُ القائل إنّ الروس والأميركيين اتفقوا على الضغط خلال فترة تنتهي في شهر فبراير على “تهدئة” أو وسائل كبح وإرغام على التقدم باتجاه التفاوض. الروس يضغطون على النظام، ويقللون من شحنات السلاح إليه. والأميركيون يضغطون على داعمي الثوار لقبول التفاوض، من طريق تأخير الدعم للحكومة المؤقتة، وعدم إرسال السلاح، وبخاصة المضادّ للدروع والطيران. أما وقد شارفت هذه المدة على الانقضاء، فقد تعمَّد الروس الإعلان عن تتابُع إرسال السلاح الثقيل للنظام؛ في حين لا يزال الغربيون يُعارضون دعم الثوار بوسائل الدفاع عن النفس. وهذا الأمر ذكره الأمير سعود الفيصل في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية النمساوي بالرياض قبل خمسة أيام. فقد قال الفيصل إنّ على المجتمع الدولي اتخاذ قرار حازم بإنهاء العنف في سوريا، أو تمكين الشعب السوري من الدفاع عن نفسه في وجه النظام القاتل. وهذا كلُّهُ يعني أنّ فترة التهادُن الدولي الضاغط قد انتهت من دون نتيجة، في حين ما تلقّى الثوار الدعم المطلوب منذ عام، وازدادت القوة النارية لدى النظام، وصار الإيرانيون إلى تشكيل قيادة مستقلة بسوريا مكوَّنة من العناصر الإيرانية، ومن فيلق القدس المكون من (إيرانيين وعراقيين)، وكتائب “حزب الله”، فالنظام يُعطى فرصة للمرة العشرين للتغلُّب على الثورة، وبعض جهات المعارضة السورية بالخارج تنوء تحت ضغوط العجز، والحاجة لإظهار الاعتدال، وقبول التفاوض مع النظام بغضّ النظر عن مدى إفادة ذلك للنظام دعائياً على الأقل، وتأثيره على معنويات المقاتلين وغيرهم من فئات الشعب المنتظر للخلاص.
بعد قُرابة العامين على اندلاع الثورة السورية، صارت كل الأمور والمواقف واضحة. فأقصى ما يمكن الوصول إليه مع الروس والصينيين هو تخفيف الدعم للنظام، دونما موافقة على قرار بمجلس الأمن بشأن سوريا. وأقصى ما يمكن الوصول إليه مع الأميركيين، هو المساعدات الإنسانية واللوجستية. وأقصى ما يمكن الوصول إليه مع دول الجامعة العربية، القرارات التي اتُخذت وما نفذها لبنان والعراق والجزائر والسودان. ويبقى الأوروبيان(الفرنسي والبريطاني)، وتركيا والسعودية وقطر والأردنّ. وما فرضت هذه الدول، ولا استبشرت بتفاوُضية مُعاذ الخطيب، ولا بعروضه وصِيَغه المتوالية. فأحمد داود أوغلو قال إنّ الحوار انقضى أوانُه. ووزير الخارجية السعودي قال بقرار دولي حازم أو مساعدة الشعب السوري للدفاع عن نفسه. والفرنسيون والبريطانيون لا يزالون يتحدثون عن رحيل النظام، وإنما الصيغة متروكة للسوريين.
إنّ الكلمة اليومَ إذن لإقدار الشعب السوري وتمكينه من الدفاع عن نفسه، وإعانته تسليحاً وغوثاً وإدارةً على إرغام الأسد وأعوانه على الرحيل. وأوضاع الثورة والثوار صعبةٌ اليوم، وأوضاع المدنيين السوريين بالداخل والخارج أصعب. لكنّ الثوار يتقدمون بشمال سوريا وشرقها. وقد يشهد هذا الشهر الذي نحن فيه اكتمال انسحاب قوات الأسد وشبيحته أو استسلامهم بالشمال والشرق. بيد أنّ الإيرانيين على الخصوص يأملون من طريق إرسال قوات من جانبهم، أن يستطيع النظام “الصمود” بمدينة حلب، باعتبارها منطقة مواجهة وتوازُن مع تركيا. وتقاتل قوات النظام بشراسة لتحافظ على نقاط تمركُز قوية بدرعا والحدود مع الأردن. لكنها ستفقد على الراجح أكثر تلك القدرات خلال شهر أو أقلّ أو أكثر. ولذا فالذي يبقى للنظام والإيرانيين: قلب دمشق، الذي لا يستطيعون التخلّي عنه من أجل” الشرعية” المفترضة، ومناطق أساسية في حمص وحماة للامتداد باتجاه وادي النصارى، والحدود اللبنانية من جهة الهرمل، والمناطق المحاذية لجبال العلويين، والساحل. وبحسب تقارير العسكريين السوريين والأجانب، فإنّ قوات الأسد منهارة المعنويات، وما عادت تأمل بالاستمرار حتى في دمشق، لكنها مستميتة في الدفاع عن المناطق العلوية وحواشيها بالجبال والساحل. ويحاول الإيرانيون زيادة الدعم المادي والعسكري لترميم هذه المعنويات. ويبلغ من طموحهم وتطميناتهم للضباط العلويين أنهم حتى إنْ سقط النظام، فيستطيعون الانفراد أو الانفصال بمناطقهم بحماية إيران. وهكذا فإنّ إيران تحاول خَلْق بؤرة توتر وانفصال جديدة بسوريا شأن ما فعلته بلبنان والعراق واليمن والبحرين وغزة.
على أنّ هذه الأحلامَ كُلَّها، ستنهار حتماً إنْ حصل الشعب السوري بالسرعة القصوى على الدعم العسكري والإغاثي الذي يمكّنه من إسقاط نظامه القاتل في الشهور المقبلة.