اكرم هواس
قبل فترة وجيزة كتبت مقالة حاولت فيها اجراء مقارنة بسيطة بين التجربتين المصرية في ادارة الدولة فترة ما بعد الثورة… في تلك المقالة وعدت ان اعود الى الموضوع بطرح اشكالية العلاقة بين الثورة و الحرب… و قبل ان ابدأ النقاش لابد ان اؤكد نقطة غاية في الاهمية و هي ان كل هذه المواضيع و اعني العلاقة المصرية الايرانية و موضوع تقييم التجارب في ما فترة ما بعد في اي مجتمع و كذلك موضوع العلاقة بين الثورة و الحرب…. هي كلها مواضيع كبيرة لا يمكن ان تحتويها مقالة واحدة او كتاب او مجلد بل تحتاج الى دراسات عميقة و طويلة و عليه فان كل ما اطرحه يمثل محاولات بسيطة للتقرب من صلب الموضوع ليس الا… هدفي هو فتح المجال للنقاشات و تبادل الاراء و ليس الوصول الى نتائج سريعة… كما قد ينتظر البعض…
مبدئيا… الثورة… اية ثورة… هي حرب او نوع من الحرب… الثورة هي صراع و اي صراع هو حرب و ان اختلفت الاليات و الاهداف و النتائج… ما يطلق عليه الثورة السلمية هو كلام عن اليات تحقيق الثورة و ليس عن الثورة ذاتها… فالهدف واحد و هو التغيير… و النتيجة تستدعي زوال ما هو قائم … و اقامة بديل ما…وسائل الثورة قد تكون استخدام القوة الفيزيكالية اي العنف و سفك الدماء و انتشار الاشلاء… و قد تكون اقتصادية مثل المقاطعة او المحاصرة او اية انواع من العقوبات… و قد تكون ضغوط سياسية او اجتماعية او ثقافية…
و السؤال المهم الذي يمكن ان يطرح هو عن توسيع دائرة الثورة حتى تشمل خطوط كنتورية اخرى او الوقوف عند خطوط معينة قد تكون اهمها ما تسمى الخطوط الوطنية..؟؟.. و انا اطلق عليها مصطلح …ما تسمى… لانها ليست خطوطا ثابتة و لا قابلة ان تكون مقياسا في الحسابات العلمية…. بكلام اخر… نحن نطرح التساؤل هنا ازاء العقلانية التي تتحكم في ادارة اليات تطور مسيرة الثورة و ليس في الثورة ذاتها كقوة مستقلة عن امكانيات اي فرد اي جماعة … لان الثورة ببساطة هي كيان تطوري و ليس كيانا جامدا….
هذه العقلانية هي التي تواجه ما يسمى بمفهوم تصدير الثورة… تاريخيا كل الثورات الكبرى واجهت هذه الاشكالية و منها الفرنسية و الروسية والايرانية… الاشكالية في مفهوم التصدير ترتكز اساسا على حقيقة ما ذكرته انفا و هي ان الثورة هي كائن تطوري و لذلك فان تمدد الثورة لا تعتمد على قرار سياسي بتصديرها و انما ايضا يتحدد بـتأثيراتها من جهة و من جهة اخرى برخاوة المناطق المحيطة اي مدى استعداد المحيطين بالتأثر سلبا او ايجابا بالثورة… و لنعود الى التجارب قليلا..الثورة الفرنسية حررت امريكا من الاحتلال و التسلط البريطاني و مهدت لحروب نابوليون … الثورة الروسية شكلت الاساس للتوسع الشيوعي في العالم كما اسست لتكوين جغرافي جديد باسم الاتحاد السوفيتي الذي حرر اوروبا من نير النازية الالمانية و دخل في حرب باردة لمدة عقود مع النظام الرأسمالي و الامبريالية العالمية… كما كان الخطاب السوفيتي يسميه… والتي شكل الغرب محورها و القوة الديناميكية لها… اما الثورة الايرانية… فقد جمع الجميع كل خبراتهم ليوقفو تمددها فكانت الحرب العراقية حربا نظاميا مدمرة و كانت و ما تزال العقوبات الاقتصادية و الضغوط السياسية التي تمددت الان الى الدينية-المذهبية و الحروب بالوكالة… و ربما تواجه ايران حرب نظامية اخرى و لكنها كبيرة هذه المرة… و هنا يبرز السؤال … كيف ستتعامل الثورات العربية مع هكذا حدث عظيم… ان حدث…؟؟
و من هنا كانت المقارنة بين مصر و ايران … مصر… و ان كانت ثورتها السابقة ليست في مصاف الثورات الكبرى الا انها تمددت في العالم العربي و لذلك فقد واجهت ايضا حروبا نظامية متعددة و حروبا اقتصادية و ضغوظا سياسية هائلة… حتى تم اسقاطها… ثم استيقظت من جديد…. و الان تقف على اعتاب تغيرات و ربما حروب… و هنا مكمن التساؤل… كيف ستتعامل مصر الثورة مع اية حروب نظامية في الشرق الاوسط الذي يشكل مدار الرؤية المصرية في التاريخ الحديث… هل ستتقوقع مصر الثورة داخل اطار (الوطني)… اما ستتحرك من جديد تجاه دوائرها التي حددها عبد الناصر … الدائرة العربية… الدائرة الاسلامية … و الدائرة الافريقية…؟؟.. يمكننا ان نطرح السؤال بشكل اخر… هل يمكن لمصر التي تعتبر نفسها ام الدنيا و واحدا من اهم محاور الاشعاع الثقافي و الحضاري في العالم ان تختار التقوقع في في عصر العولمة و الانفتاح العالمي..؟؟؟ …. كما يمكننا ان نطرح السؤال بصيغة ثالثة… هل يمكن للثورة المصرية التي الهمت الكثيرين في العالم ان تتوقف عند حدود جغرافيا سياسية حددتها لحظات ضعف و وهن تاريخية..؟؟
لكن في المقابل… اذا كان يجب ان يكون للثورة من دور فالاسئلة كثيرة و متعددة ايضا…. من هذه الاسئلة… الثورة عندما تفجرت كانت بلا رأس و بلا هدف سياسي واضح و بألية سلمية …على الاقل في الخطاب السياسي… و السؤال هنا… من ذا الذي يمتلك الحق في الريادة و قيادة الثورة…من ذا الذي يستطيع ان يحدد الاهداف و على اي اساس… كيف يمكن تحويل أليات الثورة من اساس سلمي الى عنف منظم و ربما حرب منظمة..؟؟؟؟
هناك مجموعة ثالثة من الاسئلة تتعلق بالبعد المعرفي و المفاهيمي عن ماهية الحالة الراهنة في الشرق الاوسط… هل هي حالة حرب… حالة تفاعل ثوري… و ما هي معالم هذه و تلك…ام هي حالة صراع النوازع و القوى الثورية .. او مايسمى صراع الثورة و الثورة المضادة…؟؟؟؟
مجموعة رابعة من الاسئلة تتركز حول ما يمكن تسميته عقلانية ما بعد الثورة…. مالذي يمكن تغيره و مالذي لا يمكن تغيره… ما هي مصلحتنا في كذا و كذا… و ماذا نخسر لو لم نفعل كذا و كذا…. ماذا عن العلاقات الدولية و المصالح الاقليمية و القوى الكبرى و الصغيرة… ما هي امكانيات التصادم… التعاون… التهاون… القبول…
من هنا البداية…
هناك مجموعة متغيرات تصاحب الحالة الثورية في مصر… اولها كانت اجراء الانتخابات العامة و الرئاسية و التي ادت الى احداث شرخ يتفاعل بشكل دراميتيكي بين الاسلاميين و غيرهم من القوى و ذوي المفاهيم المجتمعية غير الاسلمة السياسية و الثقافية… لكن ما هو اهم من هذا المتغيير هو شيئ اخر يتعلق باعادة تفعيل البنية الاساسية للحرب النظامية…. منذ قرار الرئيس السادات سنة 1973… ( لا حرب بعد اليوم)… فان الجيش المصري و هو الكيان الذي كان عبر التاريخ يرمز الى سلطة الدولة و حكم الفرعون… قد تعرض الى تحييد في معادلة العلاقة بين الدولة و المجتمع و بين الداخل و الخارج… بكلام اخر ان الجيش كان قد تم تعطيل قوته الدافعة و اساس وجوده الاخلاقي… قوته الدافعة هي تفاعلية امكانياته و ديموتها زمانيا و مكانيا…. اما اساس وجوده الاخلاقي يتعلق بالاسئلة الاخلاقية حول وجود الجيش و ممارسة دوره… نحن نعرف تاريخيا ان الجيش.. او تجييش الناس… في اي مكان في العالم… كان بهدف الحرب… و الحرب يستند الى قيمة مركزية و ان كانت تظهر و كأنها قيميتين متعارضتين لانه ينظر الى القيمة ذاتها من زاويتين مختلفتين و هما التضحية او الدفاع و القتل او الهجوم…
على هذا الاساس لابد من توفير دافعين مهمين و اولهما هو الاساس الاخلاقي للتضحية بالذات و قتل الاخر الذي لا تعرفه شخصيا (دفاعا او هجوما)… و ثانيهما تعريف دقيق للعدو … كلا العاملين يلعبان دورا حاسما في التهيئة النفسية طبعا اضافة الى اعداد الخطط و العمليات الاستخباراتية و غيرها… مثل التدريب البدني و شراء السلاح او تصنيعه….
المشكلة في مصر ان قرار الرئيس السادات ( لا حرب بعد اليوم) قد افرغ المؤسسة العسكرية العتيدة من هذه القيم و حولها تدريجيا الى مؤسسة ربحية بالنسبة الى النخبة و الى مؤسسة لرعاية العاطلين عن العمل و المشردين بالنسبة للغالبية العظمى من الجنود… الظاهرة الثانية لا تحتاج الى الكثير من البحث و الاستقصاء… كان يكفي ان تمر في شوارع المدن الكبرى و خاصة القاهرة و تلتقي بالجنود الذين جيء بهم من قرى و ارياف بعيدة جدا… كان على هؤلاء ان ينظمو سير المركبات بدلا من شرطة المرور… و طبعا للاسف فهؤلاء المساكين لا يفقهون شيئا من علم و قوانين المرور كما انهم لا يعرفون اي شيء عن المدينة سوى المكان الذي يقفون فيه …. و المشهد اكثر مأساوية هي ان بعضهم يطلب المساعدة من المارة لـتأمين غذائه اليومي لانه (جوعان)… نعم يفعل ذلك رغم انه في بعض الاحيان يحمل سلاحه الذي من المفروض انه يقاتل به… لا ان يرميه جانبا و يفتح يده (لله يا محسنين)…
لاشك ان احد اهداف المجيء بهؤلاء المساكنين و تسليمهم قيادة المرور و الحفاظ على الامن و الاستقرار في المدن الكبرى و خاصة …اذا اخذنا النظرية التقليدية بنظر الاعتبار… كان لدرء امكانية حشدهم من قبل اية قيادات متمردة قد تفكر في القيام بانقلاب عسكري… حيث ان عدم معرفة هؤلاء الجنود باي شيء عن طرق المدينة و شوارعها يشكل رادعا عملياتيا ضد اي تحرك ممكن للسيطرة على المؤسسات المهمة… لكن العامل المهم في اي تحرك ممكن في هذا الاتجاه هو دور القيادات العسكرية… او النخبة… التي تحولت الى قيادة عمليات تجارية في السوق بدلا من عمليات عسكرية في ساحات القتال… هذه الظاهرة اكدتها الكثير من الدراسات و التقارير التي كانت تنشر في الخارج قبل الثورة .. و من ثم ايضا في الداخل بعد تغيير النظام…
في هذا الوقت تضخم دور الاسخبارات العسكرية خوفا من الداخل… العدو غير المعلن… و بدلا من مراقبة الجاسوسية و العمليات الاستخباراتية الاجنبية.. فقد اصبحت الفرصة الوحيدة اما رجال الاستخبارات و المخابرات هي في اختبار مقدرتهم الجسمانية و التكنولوجية على اجساد بعض المصريات و المصريين الذين ( يرميهم حظهم العاثر) امام هؤلاء الضباط و العسكر ليجعلو منهم مادة دسمة و ادوات فعالة في (حلقات تدريباتهم اليومية)…
الهيكل المقدس… يعاد بناؤه..
هنا كانت البداية… حيث تراكمت بعض اهم عوامل التمرد على الفرعون… الرأس و النظام… الناس ارهقت من الفقر و العجز و لعبة الاستخبارات و المخابرات و الهيكل الهامد… الجيش… الذي لم يعد له وظيفة و لا دور و لا وجود… الجيش كان هيكلا مقدسا… فهو الذي يمثل روح الفرعون و قوته الهادرة…الجيش الذي ظل حتى في عهد الدولة الحديثة املا و شرفا و كرامة… اصبح في فترة ما بعد 1973 كابوسا للفقراء و سلعة للاغنياء… فازداد الشرخ الاجتماعي بين النخبة و المجتمع و كان لابد للمجتمع ان يعيد بناء نفسه فكانت الثورة.. و الان لابد ايضا من اعادة بناء ذلك الهيكل المقدس… الجيش…
هنا… جاء انقلاب الهيكل على الفرعون تساميا مع ثورة المجتمع و هنا ايضا جاء انقلاب القصر داخل الموسسة العسكرية حيث ازيحت النخبة المتهرأة… بقي ان تجد السلطة الجديدة اجوبة للاسئلة الاخلاقية… التضحية و القتل… و القضية العملياتية… العدو… و من حسن حظ العرب و المسلمين… ان الله قد رزقهم اجوبة ابدية… الجهاد في سبيل الله… و العدو الاسرائيلي… الذي سيبقى ما بقي الدهر… الم يقل اليهود لموسى ( اذهب انت و ربك فقاتلا.. انا ههنا قاعدون… المائدة 24)..المسلمون يذهبو و يقاتلو…اي كان… يقاتلو انفسهم كما يحصل الان في سوريا و العراق و ليبيا و مصر و مالي و لبنان …( القائمة طويلة) … ام الاسرائيليون فهم باقون… هذه مشيئة الله… او كما قلنا …انه رزق من الله للعرب و المسلمين… و لهذا سماها الايرانيون… الشيطان الاصغر… و الشيطان… صغيرا كان ام كبيرا… فانه باق حتى يوم القيامة… هكذا تقول الكتب السماوية… و هكذا يشاء الحكام… لماذا يجب ان تزول اسرائيل طالما انها تشرعن وجود كل الانظمة مهما كانت ايديولوجياتهم و سياساتهم … قوميون … وطنيون… اسلاميون… ليبراليون… دكتاتوريون… ديمقراطيون… او اي شيء اخر قد يستحدثه اي مفكر او سياسي او منافق… او… في اي مكان في العالم حتى يجد تطبيقا فوريا في العالم العربي… اما الفلسطسنيون… شأنهن شأن كل المظلومين و المشردين الذين يزدادون كل يوم في عالم العرب و المسلمين…فلهم الله… و ليفرح المنتفعون…
من هنا قد تبدأ السلطة في اعادة بناء الهيكل المقدس… الكلام عن تغيير اتفاقية كامب ديفيد… العمليات الجهادية في سيناء التي لا يعرف رأسها و لا اهدافها… اعادة الانتشار النسبية للقوات التي قد تنتهي بعودة الجيش المصري الى سيناء… هي بعض الاجراءات… ستتبعها اجراءات كثيرة قد تنتهي بحرب تحريك جديدة… تعيد اعادة بناء الاشياء… بعد ان غيرتها حرب التحريك الاولى… كما سماها البعض… او حرب اكتوبر العظيمة سنة 1973 كما يفتخر بها الكثيرون…
الحرب روح مدمرة… ربما هي نفحة من روح الشيطان… لكنها خيار الساعين للمجد في عالم لم يعرف المجد الا على جماجم الناس … ابرياء كانوا ام اشرارا…. فعلها الاقدمون… المتحضرون و غير المتحضرين… و يفعلها الان الجهاديون و الديمقراطيون.. كثيرون هؤلاء… لكن اكثرهم تأثيرا ة اقربهم للقلب و الجغرافيا هم الامريكيون و الاسرائيليون… و هكذا يستعد لها الايرانيون الذين يحلمون بالمجد ايضا… و السلطة في مصر ليست استثناء… و لن تكون… و هكذا فان هذه الحرب قد تكون ضد اسرائيل… او في التوسع نحو الاردن او سوريا او الخليج او ليبيا او السودان… ادعاءات كثيرة… تستفاد منها السلطة لاعادة الروح الى الهيكل المقدس… الحرب القادمة في الشرق الاوسط … ان وقعت… او عندما تقع… و ربما يلعب المصريون دورا في جدح شرارتها… ستكون مناسبة مهمة … للسلطة الجديدة… لتدشين هيمنتها الابدية… كما يأمل البعض… و كذلك في خلق اسس الفرعون الجديد و الهيكل المقدس… الذي سيضمن الهيمنة الابدية… او هكذا يتصور البعض…
نتوقف هنا.. الاسئلة كثيرة جدا… سنتابع… أكرم هواس (مفكر حر)؟