عن جريدة الحياة: خالد الحروب *
في أواخر الخمسينات من القرن الماضي نشر دانيال ليرنر كتاباً غدا شهيراً حول انتقال مجتمعات الشرق الأوسط من كيانات تقليدية إلى دول ومجتمعات حديثة
(Daniel Lerner, ‘The Passing of Traditional Society: modernizing the Middle East’).
في ذلك الكتاب كانت أطروحة ليرنر توحي بحتمية ذلك الانتقال وقد دافع الكاتب عن أطروحته اعتماداً على ما شهد به واقع تلك المجتمعات من استقبال للحداثة واندراجها في مساراتها، وسرعة ذلك الاندراج. أحد الآليات التي رآها ليرنز كحامل للتسريع الحداثي هو الإعلام الجماهيري، الذي يساعد على خلق مجتمعات حديثة، منصهرة في إطار الدولة الوطنية الحديثة، قائمة على المساواة المواطنية، ومنفكة من الأطر القبلية والطائفية والدينية والأبوية. بيد أن الواقع على الأرض اثبت وجود تعقيدات مركبة وليست خطية لم تخطر ببال ليرنز نفسه، واحد منها هو الإعلام الجماهيري نفسه، كما نشهد اليوم. إعلام اليوم في مجتمعات الشرق الأوسط اصبح احد اهم حوامل «نزع الحداثة» وتدمير مجتمع الدولة – الأمة، وإعادة المجتمعات إلى عصر ما قبل الدولة. لقد تطورت وسائل الإعلام والتكنولوجيا بسرعة خارقة فيما بقيت المجتمعات على تقليديتها وزحفها البطيء إزاء الحداثة. واختلاف السرعات هذا بين التقدم التكنولوجي والتحديث الاجتماعي أدى إلى توفير آليات إعلام حديثة وبالغة التأثير وسريعة النفاذ في أيدي مكونات غير حديثة سرعان ما وظفتها في الحفاظ على مكونات ما قبل الدولة الحديثة. ومن هذا المنظور نرى كيف انتعشت على شاشات الفضائيات وعلى وسائل الإعلام الاجتماعي كل تشظيات الطائفية والقبلية والتعصب الديني والجهوية وكل العصبويات السابقة للدولة. الإعلام الذي كان من المؤمل أن يساعد على بناء مجتمعات صحية، تحول إلى وحش يفتك بها ويشظيها، وطنياً وإقليمياً. في هذا السياق يمكن موضعة ظاهرة اكتساح الفتوى للفضاء العام العربي في الوقت الراهن، واتخاذها وسائل الإعلام آلية للسيطرة والتأثير وصوغ حيوات الأفراد والجماعات في مجتمعاتنا، أو ما تبقى منها!
في التاريخ الإسلامي تطورت تقاليد عريقة في طرائق تناول علماء الدين للقضايا والشؤون المُستجدة التي تواجه مجتمعاتهم، ويمكن هنا التوقف عن اثنين من تلك التقاليد التي تم القضاء عليها في حقبة التدين المظهري والتلفزيوني التي نشهدها الآن. التقليد الأول هو دراسة الشأن المطروح على الفتوى بأكبر قدر من التأني والحذر والدقة في إصدار الرأي فيه. وتروي الكتب كيف أن العلماء السابقين كانوا ينظرون في الأمر المعروض عليهم ويقيسونه زمناً ومكاناً وظرفاً وشخصاً، ويتأملون في انعكاساته وتأثيراته ثم يصدرون رأيهم. ما يصدر من فتوى في شأن من الشؤون يطلبها شخص ما، في مكان ما، في زمان ما، في ظل ظروف محددة قد تختلف تماماً حول ذات الشأن إن طلبها شخص آخر، أو في مكان آخر، أو في زمان آخر، أو في ظل ظروف مختلفة. ومُسجل في أدبيات الفتاوى أن الشافعي كان قد أفتى في العراق بشكل مختلف عما أفتاه في الشام وحول ذات الشؤون، لأن السياق والظرف يختلفان.
مقابل ذلك التأني والحذر وموضعة الفتوى في سياق الزمان والمكان والظرف والسائل ماذا نرى هذه الأيام؟ الذي نراه جحافل من أرباع العلماء يحتلون شاشات القنوات الدينية جاهزين «على الهواء» لإطلاق أي فتوى حول أي شأن كان، وفي أي مكان وزمان. كيف يتأتى لحضرة «المفتي التلفزيوني» هذا العلم الديني اللامحدود والذي يؤهله للرد الفوري والمباشر على أي سؤال من أي شخص ويكون ضميره الديني مرتاحاً؟ كان يُؤتى للعالم بالقضية في إطار التقاليد العريقة للفتوى فيطلب الوقت لينظر فيها ويعيد السائل من حيث أتى، فيعكف على المسألة لدراستها وتقليب وجوهها. مفتو اليوم لا يحتاجون «للنظر في المسألة» فعبقرية علمهم الديني تؤهلهم لإطلاق الرأي يميناً وشمالاً وعلى الفور حول اكثر القضايا تعقيداً. مشاهدة أي برنامج من برامج «فتاوى على الهواء» تثير الغثيان بسبب جرأة المفتين التلفزيونيين الذي داسوا تحت إقدامهم كل ما له علاقة بتقاليد الفتوى التاريخية من الدراسة والتأني والحذر. تأتي أسئلة لا تستثني شيئاً من السؤال عما إن كانت «العولمة حراماً أم حلالاً»، أو «امتلاك السلاح النووي حرام ام حلال»، إلى «حل أو حرمة مرافقة الابن الوسيم لأمه المنقبة في الشارع» (لأن رؤية الناس لوسامته سوف تشير ضمناً إلى جمال امه!)، إلى «حل أو حرمة تويتر وفايسبوك، إلى «حل أو حرمة شراء تذاكر اليوم الواحد في قطارات المترو في أوروبا، وصولاً إلى الحكم بإسلام أو كفر طوائف وجماعات بأكملها، وإلى كل شيء عملياً! ومع ذلك لا يرمش طرف للمفتين التلفزيونيين ونراهم وبكل ثقة تلفزيونية استعراضية يطلقون فتاواهم من على «شاشات مصانع الفتوى» ومن دون أي تردد. «الفتاوى التلفزيونية» كارثة حقيقية تواجه مجتمعاتنا اليوم، لأنها خليط من تنافس الاستهلاك الديني بين القنوات الفضائية ورأس المال الباحث عن دعايات اكثر في حال تحقيق نسبة مشاهدة اعلى لبرنامج هذا المفتي أو ذاك. يتسلل إلى وعي المفتي التلفزيوني الهوس التنافسي لتحقيق الظفر والتفوق على غيره من المفتين على الشاشات الأخرى عن طريق التشاوف بامتلاك علم أوسع وقدرة اكبر على الفتوى إزاء كل شيء. أصبحت «مصانع الفتوى» جزءاً لا يتجزأ من رأسملة الدين وتحويله إلى وسيلة للربح التلفزيوني السريع.
والتقليد التاريخي الثاني الذي تم طحنه في ماكينات الاستهلاك الديني التلفزيوني هو قول «لا ادري» إن أُشكلت القضية على العالم وحار إزاءها في الجواب. مثّل هذا التقليد سمة رفيعة عند علماء الدين الحقيقيين الذين كانوا ورغم علمهم العميق يتواضعون أمام هذا الشأن الخلافي أو المُبهم أو ذاك ولا يصدرون فتوى بشأنه. كان ذات العالم الذي يطلب وقتاً لينظر في قضية معقدة لا يتوانى عن الاعتراف بعدم قدرته على إعطاء رأي جازم فيها ويقول «لا ادري». أين هو هذا التقليد العظيم الذي يعكس التواضع والقدرة في ذات الوقت عند كثير من مفتي هذه الأيام وعلمائه الذين صار اشتغالهم بالفتوى والدين اقرب إلى «التشبيح» منه إلى أي شيء آخر.
لا يدرك «شبيحة المفتين» اليوم أن قاعدة «لا ادري» هي عملياً من حفظ التعايش التاريخي وعلى مدار قرون طويلة في المنطقة والعالم الإسلامي عموماً، ولأنها مرتبطة عضوياً بمنهج متأسس على «لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم». المعنى العملي والتطبيقي للنص هنا هو أن كثيراً من أمور الحياة والشؤون المُستجدة تقع في مناطق رمادية وبعيداً عن أن تُحسم بالفتوى وبـ «الحلال والحرام»، ومن الأفضل أن تبقى هناك وكذلك. وهذه المناطق الرمادية كلما بقيت على اتساعها كلما انتعشت المجتمعات وازدهرت، ويشهد التاريخ الإسلامي على ذلك في مراحل تقدم المسلمين وعلومهم. في المناطق الرمادية تشتغل العلوم وتتقدم الثقافة ويتم هضم كل ما هو مُستجد وتطويعه عبر عبقريات الاجتماع الإنساني لخدمة الناس من دون إعاقات. وفي المناطق الرمادية تعيش جماعات المجتمع المختلفة بأنماط تديّنها المُتباينة وسلوكاتها المختلفة، وهو أيضاً ما شهدت به المراحل التاريخية المختلفة. في المقابل عندما تتآكل المناطق الرمادية ويصبح هوس الأفراد ورجال الدين (الشبيحة) مُكرساً للخروج على منهج «لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم»، ويتحول كل الجهد المصطنع لاختلاق قضايا من لا شيء ندخل في زمن انحطاط وتقهقر. تبدأ ماكينة الفتوى والتحريم بالقضم التدريجي والمتواصل من المناطق الرمادية وتحاصرها في غياب كلي لقاعدة «لا أدري» والتي هي القاعدة الطبيعية لعدد هائل من المسائل الطارئة والمعقدة والمُبهمة، ولكن رغم تعقيدها وإبهامها إلا أن ذلك لا يدفع مفتي الاستعراض التلفزيوني من مواجهتها وإصدار الفتوى (التحريمية) بشأنها. نحن الآن نعيش هذه الحالة المريعة من محاصرة المربع الرمادي الوسطي للاجتماع العربي والإسلامي من قبل بلدوزرات الفتوى التحريمية التي تهدم أرضيات ذلك المربع الذي إن انتهى انتهينا معه.
النتيجة التلقائية لسيطرة الفتوى على الفضاء العام، وتدميرها لمنطقة التعايش الوسط، وتحكمها بالأفراد والمجتمعات أنها تعمل على تخليق كهنوت إسلاموي لم يكن موجوداً في أي حقبة تاريخية سابقة، وذلك بسبب انتشار الإعلام الجماهيري و»التمكين» الذي يوفره لـ «مصانع الفتوى». ويتمثل هذا الكهنوت في التدخل المباشر بين الفرد وخالقه واحتلال المساحة الواسعة والعريضة التي جاء الإسلام ليحررها أساساً ويزيح أية قوى أو سلطات تتحكم في الناس، ويحرر إراداتهم ويحول تلك العلاقة إلى تعامل مباشر بين الفرد وربه لا علاقة لأية جهة كانت، حكومة أم سلطة أم مفتين بها. مفتو اليوم يحطمون فضاء التحرر ذاك ويضعون قنوات اتصال بين الناس وخالقهم هم حراسها وكهنتها.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني
Khaled.hroub@yahoo.com