غازي دحمان
يتكشف المشرق بعد سنوات طويله من التشكل الافتراضي الكياني على مجموعة من الجزر الثقافية والديمغرافية التي لا تربط بينها سوى جسور واهية يسهل تفكيكيها والعودة إلى الواقع الجزري في أي لحظة، في حين تبقى إستراتيجيات العزلة والتأهب للصراع بمثابة خلايا نائمة قابلة للتفعيل في أي لحظة.
الإجماع الوحيد في المشرق يتمثل بركوب ذلك الكم المتناقض لتيار التنافر والغرف من بحر منطلقات واحد عن الأخر، من خارج الأقلية، حتى الأكثرية في المشرق هي تجمع لجملة من الجزر المناطقية والقبلية، ولا تجمعها الأكثرية إلا بقدر ما تجمع الوطنية للأقليات.
وإذ تبدو الأقليات أكثر انسجاما وتماسكاً بحكم إحساسها بالخطر المتعدد المصادر الكامن دائماً بالوجود الأكثري (الاضمحلال والذوبان أو خطر الهيمنة والتهميش) ونتيجة وعيها بنفسها وبالمحيط حولها، فإن حين الاكثرية المفترضة تبدو بعيدة عن هذا الوضع إذ غالباً وفي ظل الأزمات يستطيع الفرد الأكثري تطوير أطر حماية واندماج تبدأ من الحل الفردي الذي تتيحه نواته الصغرى إلى الإطار العائلي القبلي الأوسع نسبياً إلى الإطارين الطائفي والقومي، ويستطيع التنقل ضمن هذا الطيف الواسع من الأطر دون أن يشكل ذلك خطراً على وجود المكون برمته.
وفي إطار الانسجام ذاته والذي يشكل العنصر الأهم في الحقل التفاعلي بين المكونات الوطنية، كثيراً ما أفرز الدهاء الاجتماعي المشرقي نوعاً من التورية كان نتيجتها سيادة حالة مضلله عن واقع هذا المجال، ذلك أن الانسجام كان يبدو متحققاً قي نقاط كثيرة بل ويشكل حالة متماسكة وصلبة، ولكن لدى حدوث أي هزة يتراجع إلى الحد النسبي، ومع اشتداد الأزمات يتضح انه لم يكن سوى نوع من التذاكي والأدب الإجتماعي حيث لم يصل بعد إلى حدود القواسم المشتركة في الوطن والاجتماع!.
لقد كشفت الأزمة السورية زيف ذلك الوهم وحررته من كل المحسنات التي طالما تعود المشرقيين التلطي خلفها والاكتفاء بالتأكيد على صلابة انسجامهم ورقي وعيهم ، فلم يكن صدفة عدم انخراط الأقليات في الثورة ولم يحصل حتى نوع من التوازن بين تأييدها للنظام وتأييدها للثورة، ولعل اغلب التحليلات التي تحاول إيهام الآخرين بان السبب يعود إلى خوف الأقليات من بطش النظام لم تكن سوى تقية ذرائعية، حتى يمكن القول أن الأقليات شاركت أصلا في صناعة الوهم الإسلامي وأنها منعت شبابها ونبذت الناشطين من بيئاتها، ثم اتكأت على هذه الخديعة لتريح ضميرها تجاه المأساة التي راحت تتفاقم على جسد الوطن.
مارست الأقليات كل ذلك تحت ظلال قلقها من الأكثرية، والواضح ان المنطقة لن تشفى من أوجاعها طالما أن الأقليات لم تطمئن وهي قضية معقدة تنتصب في وجه المنطقة برمتها، ذلك أن الأقليات وبحكم ظروف تاريخية حازت إمكانيات ومواقع مهمة في بنية الكيانات وهي غير مستعدة سوى لاستمرار مثل تلك الامتيازات واستمرار توطينها في بيئاتها لأجيال قادمة كضمانة من غدر الأكثرية وجموحها السلطوي، وإلا فالبحث عن مخارج أخرى أكثر ضماناً كالتقسيم أو الهجرة لبعضها.
في المقابل لا تزال الأكثرية تحت وطأة اختراق الكثير من تياراتها المتطرفة وهي بحكم حالة اللاوعي الهوياتي وفي ظل عدم تبلور هويتها المكوناتية من غير المتوقع أن تفرز بنى سياسية ذات طابع حداثي من شأنها تدعيم الاندماج وضمان العيش المشترك، فلا إمكانية لقيام إطار سياسي سني من قبل قوى مدنية وليبرالية، هذه ستجد نفسها خارج هذا النمط من الأطر، وما يعيق إمكانية حصول مثل هذا التطور حقيقة سيادة الانتماءات الضيقة في الوسط الأكثري وهي انتماءات في أغلبها تبدو مكتفية بذلتها ومنغلقة على نفسها وغير معنية تالياً بالانتماءات الأخرى ما لم يكن لها وظيفة مصلحيه أنية ومباشرة.
في سبيل ذلك ثمة أطروحات جرى تداولها وإن في نطاقات ضيقة مثل” المشرقية” أو “الفيدرالية “في المنطقة. الأولى تضمن حماية الأقليات عبر جعلهم كتلة موازية للأكثرية في المشرق بحيث تتساوى الكتلة العددية لعموم أقليات سورية والعراق والأردن ولبنان وفلسطين مع الكتلة الأكثرية وبالتالي يصبح هذا الأمر بحد ذاته ضمانة كافية لحماية الأقليات من تهديد الأكثرية . والثانية تساوي حقوق الطرفين بضمانة توازنهم العددي واستقلاليتهم الإدارية ضمن أقاليمهم، بما يضمن الحفاظ على وجودهم ويحافظ على خصوصيتهم ويوفر لهم الطمأنينة.
غير أن هذه الحلول تحيل إلى إشكاليات أخرى عبر انطواءها على عملية فرز شرعية تاريخية تبدو أمامها عملية التدليس والتورية والتضليل التي تمارسها المكونات تجاه بعضها البعض أرحم بكثير كونها تندرج في إطار محاولة تحقيق النسبة الأدنى من الانسجام المساعد على العيش المشترك، في حين أن الفرز المعلن والمشرعن قد ينذر بإتباع إجراءات معينة لتحقيقه تكون مقدمة لعملية الإنقصال النهائي، صحيح أن تلك الأطروحات ذات طبيعة جريئة وواقعية، لكن منذ متى كان المشرق والعقل يلتقيان.
متى تطمئن الأقليات؟، تلك إشكالية ستبقى معلقة مثل كل قضايا المشرق وإشكالياته الأخرى، ألم يعلق الخلاف السني- الشيعي لألف وأربعمائة عام ثم يصار إلى إعادة تفعيله مؤخراً؟. كثيراً ما يجري الحديث عن إعادة صياغة العقود الاجتماعية وإعادة تشكيل الدولة الوطنية على أسس جديدة وتصير هذه الأخيرة الضامن الأساسي لمواطنيها، لكن يبدو أن هذا النمط من الحلول غير مؤهل للإقامة في المشرق، بالأصل فإن الدولة بمختلف مستوياتها لم تكن موجودة في التعاطي السياسي الداخلي، ما كان موجوداً هو إدارات للنهب والإخضاع ليس أكثر، وفي أحسن الحالات شكل من أشكال إدارة المحاصصة والنهب الطائفي، تماماً كما هو حاصل في العراق ولبنان.
المصدر ايلاف