منذ مسرحية ما بعد النكسة والتي كان بطلها الخاسر الكبير آنذاك جمال عبد الناصر و التي تجسدت أحداثها في إستقالته الشكلية التي قدمها بعد الهزيمة المزلة من إسرائيل أمام شعبه ، والتي سرعان ما تراجع عنها بزعم رغبة الشعب العارمة في عودته ، أقول منذ تلك المسرحية باهتة الملامح وباتت تلك الأسطوانة المخروشة تُردد على نحو مستمر على لسان جميع الحُكام الذين جثموا على صدور شعوبهم سنينا متطاولة ، فيمكث الحاكم لعقود في الحكم حتى إذا بلغ من العمر عتيا وإستحى أن يُتهم بالتشبث بأعنة الحكم لجأ إلى الحيلة ( الناصرية ) لحفظ ماء الوجه .
فبوتفليقة الرئيس الجزائري و رجل أفريقيا المريض لم يخاطب شعبه أو يراه شعبه منذ أن مكث في كهفه الإستشفائي سنينا عددا ، والبشير أعلن عن عدم رغبته للترشح لولاية رابعة ، وعبد الناصر فاشل أورد شعبه موارد الهلاك بعد أن أثمله حتى التخامة بشعارات الصمود والعروبة والوحدة ، والسيسي الذي تعهد بعدم الترشح للرئاسة وبزهده في السلطة ، جميع هؤلاء عَدلوا عن رأيهم بسبب رغبات شعوبهم التي لا يستطيعون ردّها أو إدارة الظهور لها أو تجاهلها .
والسؤال هنا : كيف تُحدد إرادة الشعب تلك والمعيار الوحيد الذي نعلمه لمعرفة خيارات الشعوب هو التصويت أو الإستفتاءات أو عبر ممثليهم بالبرلمان ؟ بمعنى كيف علم هؤلاء الزعماء مسبقاً برغبات شعوبهم بترشحهم للرئاسة للمرة ( المليون ) غالباً ؟ ولماذا في حال كانوا متأكدين برغبة الشعوب تلك يخوضون سباقاً إنتخابياً مرهقاً لأجسادهم المسنة ولجيوبهم على إنتفاخها ؟
طالما كان هؤلاء الحكام مستيقنيين من رغبات شعوبهم في خوضهم الإنتخابات فما عليهم إلا أن يُداوموا الجلوس على أرائك الملك خالدين فيها أبدا إلى أن يتوفاهم الموت أو يجعل الله لهم مخرجا ، بدلاً من تبزير الأموال الطائلة في فبركة المسرحيات الإنتخابية التي تنتهي فصولها بالغالب الأعم بالنسبة التسعينية إياها المعروفة ؟ وأقترح مبدئياً تسمية جلوسهم في السلطة خالدين فيها بموجب رغبات شعوبهم ـ بإعتبار تلك صيغة مبتكرة وفريدة من التداول للسلطة ـ أقترح تسميتها بإسم ( الشرعية الرغبوية الشعبية ) فطالما علموا بأن الشعب راغب في ترشحهم للرئاسة ويحثهم بل ويُجبرهم على ذلك ، فهو ـ أي الشعب ـ قطعا راغب في فوزهم أيضا .
عموما الشعب هو دائما ( الحيطة المايلة ) التي تُعلّق عليها التبريرات للمشاريع الشمولية والإقصائية ، ولهضم حقوق الأقليات والأفراد الثوريون (الرافضون للتقليد وثقافة القطيع والنمطية الإجتماعية السائدة ) ، فالمرتد يُقتل لحماية الشعب من معتقداته ، والمثلي يُقتل لأنه شاذ عن الشعب ، والمعارض السياسي يُقتل لأنه يُشكل خطراً على وحدة الشعب ، والديموقراطية أحيانا بعبعا لأنها تهدد بفتك النسيج الإجتماعي للشعب وتحويله إلى فرق وشيع متناحرة ، والرئيس الذي يحكم منذ عقود يجب أن يترشح ويفوز بالنسبة التسعينية إياها ، لأن الشعب يرغب به رغماً عن سجله الملئ بالكوارث الإنسانية والماسي الأخلاقية والممارسات الوحشية ،فهو رغم ذلك كله صمام الأمان والوحدة ورمز الأمة والمعبر عن كيانها وتطلعاتها … الخ .
وفي المحصلة النهائية لجميع تلك الممارسات التي تتم بإسم الشعب نجد أن الوحيدين القاردين على الوصول إلى أفئدة ووجدان الشعوب والكشف عن خبايا صدورهم وخائنة أعينهم ومعرفة رغباتهم وتحديد خياراتهم وعلى نحو دقيق هم السادة الأجلاء أقطاب الزمان وشموس العرفان وتيجان العارفين وعُمد المُقربين وعلامات المحققين ، هم زعمائنا وقاداتنا ورموزنا ، لذلك فلا بدع أن يُفكروا نيابة عنا ويخافون علينا وعلى معتقداتنا نيابة عنا وأن يُحددوا رغباتنا نيابة عنا ويَنزلوا عن رغباتهم المتمثلة بزهدهم في السلطة إلى رغباتنا المشتعلة في إبقائهم بكراسي السلطة .
وطالما أنهم كذلك ، أي طالما أن الحكام أولى من المواطنين بأنفسهم ، وأقدر على معرفة خياراتهم دون تصويت أو إنتخابات أو إستفتاءات ، فلا داعي كما أسلفت إلى تبديد الأموال الطائلة في الإنتخابات ، ليس لأن الشعب في حاجة إليها ـ والحكام أعلم منا بحوجات شعوبهم ـ بل لحرصي على مضاعفة ثراء الحكام ، فمن يقرأ ما يعتمر بقلوب شعبه أحق من شعبه بنعم الثراء والغنى .فضلاً عن ضورة إستثمار أموال الدولة في رعاية مثل أولئك الحكام الخارقين الذين لهم قدرات غير طبيعية لطي الحجب وإختراق دثار القلوب ، مما يجعل منهم أسلحة إستخباراتية فتاكة ضد خصوم الأُمة إذا ما راودتهم نفوسهم على الإعتداء علينا ، فحكامنا ـ رعاهم الله ـ يطّلِعُون على خبايا النفوس قبل أن يكشف عنها أصحابها .
بجدية : يُمكن للحكام أن يترشحوا بمقتضى حدس أو شعور إو إيمان برغبة شعبوهم بهم ، لكن لا يحق لهم ـ حتى في ظل نظام ديموقراطي ناهيك عن أنظمتهم اللا مؤسساتية ـ الضرب بمبادئ الدستور عرض الحائط بإسم إحساسهم برغبة الشعب وجعل مُدد الترشح للرئاسة مستمرة مدى حياة الزعيم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !