هذه الشائعة ليست الشائعة الأولي ، ولا الشائعة الأخيرة التي لا تبدو أقلَّ سكينة عند التماس مع المنطق فحسب ، وإنما لا تجد ملجأً للانسجام مع أيِّ منطق علي الاطلاق ..
هذه الشائعة أيضاً ، ومنذ حداثتها ، لا تسكن حيزاً ممتلئ الدلالات تربِّي فيه أعشاشها ليتحقق وجودها ، ويحفظ لها حرارتها المجردة علي الدوام ، ويدعمها بامتدادات نشطة تمكِّنها من العبور الذاتيِّ إلي أزمنة تتجاوز اللحظة التي ولدت فيها إلي نسق من الديمومة ، هذا جعلها منكمشة علي تلك اللحظة ، وجعلها أيضاً تنسحب مباشرة إلي الإحالة ، بل المبالغة فيها ، كلما تقدمت في العمر ، لولا أن التزاحم حول الشغف غير الصحِّيِّ بما يظنُّ مقدساً يردع العقول عن الدوران حول لماذا هو مقدس ، وأين موطن قداسته ، تماماً ، كما تجعلنا عبقرية بيكاسو ، وعبقرية لوحته الشهيرة (آنسات أفينيون) ، ننسي دائماً ، أو نتناسي علي وجه الدقة ، أنها صنعت خصيصاً لتكون واجهة لبيت دعارة !!
لقد عاشت هذه الشائعة حتي الآن لأنها الشريعة العائلية والإرث المكتسب بمجرد الميلاد والمعلق في النوايا كصليب لا يقود إلي خلاص ، لا لأنها جديرة بالحياة سوي في العقول التي تتمسَّك بحياتها !!
ولأنها أيضاً ربحت مع ظهور الإسلام حيوية باهظة وأبعاداً إضافية ، ولأنَّ الآباء الأوائل ، وهذا هو الأهم ، قد نسَّقوا بارتجال مكيدتهم دون أن ينتبهوا ، لحسن الحظ ، إلي ارتجالية تلك المكيدة ..
قبل أن أصعدَ في دواعي الشكِّ في بتولية مريم ، وعلي جذوع الأناجيل فقط ، أتصور أن هذه الخرافة جزءٌ حقيقيٌّ وعميق من بنية المسيحية ككلِّّ ، وأنها تتحول ، تماشيا مع هذا التصور ، ممرَّاً للانكشاف علي احتمالات متعددة وناجمة عن تماهي نصوص الأناجيل حتي وقت غير بعيد ، مع تداعيات الضرورة اللحظية !!
استحالة التوافق تلك بين الأناجيل التي تعتمدها الكنيسة القويمة ، وهي أيضاً أكثر جدارةً بمسمي اليوميات ، أقول استحالة التوافق بينها في سرد الأحداث ، حتي ليطال التضارب بينها نسب “يسوع” نفسه ، ينجم عنها شكوك قاتلة وأبواب مشرعة للرجم بالوقوف علي حافة الخلق الشهيرة ، كما تتسبب الأجوبة التي لا تستقيم مع عبث الواقع في انعزالها عن الحقيقة وتحريض الريبة في صحتها !!
إنَّ المرء ليعجب من تلك المعايير التي اختار بناءاً عليها يسوعُ تلاميذه ، تلك المعايير التي لا تقدِّر الفارق الرحب بين صيد السمك وصيد الناس ، ” اتبعني لأجعلك صيَّاد ناس” ، لا ندري كيف سارت الأمور لكنها نجحت مؤقتاً ، غير أنَّ صيَّادي السمك بعد أن فقدوا الرمز الذي هو المخلِّص كما تصوروا ، وخرجوا لصيد الناس كانوا كأسماك سرقوا منها حكمتها ، مع ذلك ، فإن الفضل في مائية المسيحية التي تخال من أجلها دين سلام ومحبة ، حين لا يوجد دين يظنُّه الناس سماويَّاً يدعو للسلام ، يرجع إلي هؤلاء الصيادين لا لمائية الفكرة من تلقائها !!
وإنَّ المرء لا يملك أيضاً إلا أن يعجب من ركون “يسوع” إلي الثقة في صلاحيتهم لاستئناف فكرته حتي بعد أن عاين لسلةٍ من المرات خذلانهم ، حتي “بطرس” ، أشهر تلاميذه ، والصخرة التي بني عليها كنيسته ..
لقد اتَّخذوا الفرار ملجأً أميناً أكثر من مرة ، كما تروي الأناجيل ، من المربع المنذر بالخطر حرصاً علي الحياة وتركوا “يسوع” يجاور الخطر هو والتلميذ الذي كان يحبه ، كما تسميه الأناجيل ، وحيدين ، يأخذ خوفهما مكانه بين الأشياء !!
ولابد هنا أن أشير إلي أن أضخم علامة استفهام في تاريخ المسيحية تقف كمنارة خلف هذا التلميذ تحديداً ، ليس هذا فقط ، بل أضفي التضارب حول شخصيته علي شخصيته ظلاًّ شاحباً من اللاشئ !!
من يكون ذلك التلميذ الذي لا ترشد الأناجيل انتباهنا إلي وجوده في حضرة يسوع إلاَّ عارياً ؟
قيل هو “يوحنا” ، ويمنعني إعجابي الشخصيِّ بصوفية “يوحنا” الصارمة ، علي أنَّني يمكن ببساطة أن أردَّها إلي تأثره الباهظ بتعاليم رهبان قمران ، كما “يوحنا المعمدان” ، لا إلي امتلائه بالمسيحية نفسها ، أقول ، يمنعني إعجابي بصوفيته أن أصدِّق أنَّهُ هو ذلك التلميذ !!
ثارت الشكوك أيضاً حول “لعازر” مرفوعة علي زند نصٍّ إنجيلي يسرد خلوة له مع “يسوع” وهو يرتدي فقط غلالة شفافة !!
هذا التخمين أيضاً لا ينبِّهُ نظرية ..
لعلَّنا ظفرنا بسؤال متطلب !!
لماذا أراد أولئك الصيَّادون أن يلمِّحوا للمؤجلين بمثلية “يسوع” ؟؟
إنَّ إضاءة هذا الحدث بإسراف ، وليس جمال الإضاءة الإسراف ، وباحتفال أيضاً ، كأنه متفق عليه ، لهي من أكبر محرضات الريبة في صحته ، بل ومن محرضات الريبة في أنَّ خلفه شيئاً يرادُ الاحتفاظ به في العتمة !!
لكن ، لحسن الحظ ، أن حروف العلة عندهم وصلت إلينا غامضة ومنخفضة كجذور !!
وإذا كنت أرجح أن ذلك السرِّ الذي أرادوا أن يحتفظوا به في العتمة ، هو نفس السرِّ الذي أفشاه ، بتواضع غير الرواد ، السيد “دان براون” في شيفرة دافنشي ، فلأنها الحقيقة !!
تلك الهوة التي نكاد نلمسها ونوشك علي البرء منها !!
علاقة “يسوع” الغامضة بـ”مريم المجدلية” ما أعني ..
ستظلُّ “مريم المجدلية” ، تلك الشخصية العامرة بالألغاز التي تحتاج إلي تأويل ، هي المحور الذي تدور حوله المسيحية في كل أطوارها ، ولعلَّ بقية التلاميذ قد سبقونا إلي تقدير خطر اكتشاف كلِّ ما ينتمي إلي تلك المرأة علي سلامة الفكرة اليسوعية فتعمَّدوا أن يضيئوا لنا منها فقط ذلك الجانب الذي يغضَّ أبصارنا عن السفر في قلب الفكرة النابض ، فسرقوا الشرف من جبهتها !!
كلُّ ما يمكن أن تمدَّنا الأناجيل به حول تلك المرأة ، أنها كانت امرأة خاطئة ، رأسها عامر بسبع شياطين ، وأنها كانت تخدم يسوع من مالها ، وأنها كانت شاهدة علي الصليب ، وأول من رآه عند قيامته !!
إن المرأة لم تجد ذرة من الرحمة في قلوب الآباء الأوائل !!
لكن هذه المسافة من العتمة المنظمة من سيكسرها ، ومن سيعيد لها صياغة نسق إنسانيٍّ أكثر رحمة سوي الغنوصيين !!
في أربعينيات القرن الماضي ، كان فلاح من “نجع حمادي” بصعيد مصر ، يلتمس سماداً لأرضه بالقرب من ساحل دير “الأنبا باخوم” ، فوجد جرَّةً مدفونة ظنَّها كنزاً ، فهشمها بفأسه مباشرة ، لقد خاب ظنُّهُ حين وجد فقط لفافات من الورق ، دون أن يدور بباله إطلاقاً أنه باكتشافه هذا قد أضاء إلي الأبد تفاصيل أشرس معركة بين المسيحية (القويمة) وبين المهرطقين ، والتي انتهت ، لسوء الحظ بهزيمة الغنوصية ، لكن هناك شئ رقيقٌ للغاية ودقيقٌ للغاية يضيع علي الدوام !!
ربما لأنهم لم ينتبهوا منذ البداية إلي حقيقة أن الأفكار عامة ، والأفكار الروحية بشكل خاص ، يشحب جوهرها بالتداول ، وتستحيل عند الصدام بأفكار أرقي إلي جوهر لا يمتُّ ربما للفكرة نفسها ، فمن الأسلم إذاً إضفاء قدر كبير من المرونة عليها ، وجعلها مهيَّأةً دائما للتفاعل والتلاقح مع التداعيات الزمنية في أيِّ وقت وكلِّ وقت !!
ولقد انزلق المسلمون الأوائل في نفس الشرخ أيضاً ، فكان لابدَّ للفكرة الاسلامية ،عند أول صدام بحضارة فارس الأرقي ، وحضارة الرومان ، أن تتفتت إلي غابة من المذاهب المتضاربة ، وأن تتحول إلي شكوك ..
قد تملأ فراغات الريبة في هذه الحقيقة نظرتنا اليوم إلي الوهابيين ورجمهم بالتخلف والرجعية ، مع ذلك ، فإن الحقيقة أن صرامة الإسلام في البدايات تتَّحدُ تماماً بصرامة النسخة الوهابية من الإسلام ، وأن بواعث نظرتنا المستنكرة لجمود الوهابيين حول كلِّ ما قال “أبوهريرة” ، ناجمة عن تلاقح الفكرة مع إرث ثقافي أكثر رقيَّاً !!
لقد انتصر المسلمون حربياً ولكنهم انهزموا روحياً ، وهزيمة ساحقة ومبكرة ..
ولقد رد الغنوصيون لـ”مريم المجدلية” اعتبارها ، بل أرشدوا ظلالنا إلي إنجيل خاص بها تعتبره الكنيسة مزوَّراً ، وفتحوا من الغيب باباً للشكِّ في كلِّ ما قال الآباء الأوائل !!
والأهم من هذا أنهم أرشدوا من الغيب ظلالنا ، وفي مفاجأة غير سارة لكهنة المسيحية ، إلي واحد من آباء الغنوصية الأوائل ، إنه ” يعقوب أخُ الربِّ” !!
وتؤكد شهادة لـ”يوحنا” هذا النزوع المبكر لكفر “يعقوب” هذا الجهاريِّ بفكرة أخيه ، حيث يقول :
“فقال لَهُ إِخوته : انتقل من هنا واذهب إِلَى اليهودية ، لكي يري تلاميذك أيضاً أَعمالك التي تعمل ،لأنه لَيس أحدٌ يعمل شيئاً في الخفاء وهو يريد أن يكون علانية ، إِن كنت تعمل هذه الأشياء فاظهر نفسك للعالم ، لأن إخوته أيضاً لَم يكونوا يؤمنون به”
أين إذاً ، ولا أين ، بتولية “مريم” وليسوع أخوة ؟
ثم النص الإنجيلي ، وهو من أكثر النصوص صلاحية للاتفاق بين الأناجيل عامة يؤكد أن ليسوع أخوة ..
يقول “متي” : “ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعا اسمه يسوع” 1-25
ولا أعتقد أنني بحاجة إلي تأويل لـ ” لم يعرفها” سوي ما أراد “متَّي” أن يقوله ، وهذا يعني أن علاقة “يوسف” بـ”مريم” ، بعد ولادة المسيح ببساطة ، كأي علاقة بين زوج وزوجة ، كما استخدامه لمصطلح “ابنها البكر” هنا كعلم ليسوع لا يدع مجالاً للشكِّ في أنَّه ليس وحيدُها ..
ويقول “لوقا” : “فَولدت ابنها البكر وقمَّطته وأضجعته في المزود ، إِذ لم يكن لهما موضعٌ في المنزل” 7:2
لا أعتقد أن هناك تفسير أكثر عدالة لكلمة “بكر” من الابن الأول للأسرة !
وأزيدكم من الشعر بيتاً ..
سفر أخبار الأيام الأول : “وبنو يوشيَّا : البكر يوحانان،الثاني يهوياقيم، الثالث صدقيا، الرابع شلوم” 15:3.. وهذا يفسّرُ أن البكر هو الأول وليس الوحيد !!
أيضاً يقول “متي” : فَقال له واحدٌ : “هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجاً طالبين أَن يكلموك” 47:12
أيضاً يقول “لوقا” : “وجاء اليه أمه وإخوته ، ولم يقدروا ان يصلوا اليه لسبب الجمع” 19:8
يقول “متي” أيضاً : “أليس هذا ابن النجار، أليست أمه تدعى مريم واخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا” 55:13
وشهادة لـ”مرقص” : “أليس هذا هو النجار ابن مريم واخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان” 6: 3
لكن .. من اللافت خيانة “يوحنا” عند التصدي لهذه النقطة تحديداً صوفيته وما تتسم به من مباشرة ، فبدا مرتبكاً وخجولاً ، كأنه يستجدي المؤجلين أن يصدقوا ، بل يهددهم مباشرة وبعصبية ، يقول :
” اَلذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين ، لأنه لم يؤمن باسم ابنِ الله الوحيد ” 18:3
ويستأنف في رسالته أيضاً :
“بِهذا أظهرت محبة الله فينا أَنَّ الله قَد أَرسل ابنه الوحيد إِلَى العالم لكي نَحيا به”9:4
لكنه ، ربما لارتباكه ، وخيانته لصوفيته المعهودة ، نسي أن يؤكد أنه ابن “مريم” الوحيد !!
كما أن أقدم الشهادات عمراً تدحض خرافة بتولية مريم ..
قال “هلفديوس” الذي أظنُّ أنَّهُ لها ، لذاكرته القريبة من عهود التدوين المسيحيِّ المدبر:
إن هؤلاء هم أولاد مريم ويوسف ، ولقد ولدوا بعد ولادة المسيح !!
والآن .. لقد كان ليسوع أخوة ، وكل الطرق بعدُ لا تصل ، وكل تأويل كنسيٍّ للنصوص دفعاً للحرج هو كالدقِّ علي الماء لا أكثر ..
ثم .. الثيب “مريم” هي رمز مسيحيٌّ وقرآنيٌّ يعبِّر عن المخلوق الواعي مكتمل الدوائر والنزعات البشرية ، فليس معقولا أن نجرِّدها من نزعات البشر تكريماً لخرافة من الجذور !!
وأعتقد أن الإلحاح المسيحيَّ المزمن في التأكيد علي بتولية مريم هو انعكاس مباشر للصراع المبكر بين المسيحية والغنوصية ، كما كان الإسلام انعكاساً مباشراً علي ذاك الصراع ، وإن لا ، فممن سمع نبيُّ المسلمين بـ”أريوس” المصري ، أشرس المنشقين عن الكنيسة المبكرة ؟ ، حين قال للحاكم الرومانيِّ في رسالته “عليك إثم الأرسويين” ، هكذا..
لم يخرج تلاميذ المسيح من نطاق الصيَّادين أبداً ، وربما لأنهم كانوا يتوقعون الطاعة ، بل الصمت ، لذلك لم يكتفوا بمطالبة الناس أن يصدقوا رواية الحمل الركيكة ، بل ذهبوا أبعد ، وظنوا أنها نسجت لتكون من المسلمات ، وأن كل ما يلزمهم أن يحصِّنوا خرافة الربَّ ابن الله بأفكار فولاذية لا تسمح بنفاذ الشك إلي قلبها فارتكبوا أكبر حماقاتهم علي الإطلاق !!
إن المطلع علي التأويلات الكنسية لنصوص العهد الجديد لا يملك إلا أن يعجب من تلك السطحية التي تناول المفسرون بها قضايا محورية حتي أنها تمس صلب الفكرة ، في حين تعمقوا في تأويل توافه لا يقيم لها القارئ وزنا ، كعدد الأسماك علي المائدة ، ولعن شجرة التين مثلاً !!
كيف وجد الصيادون باباً للخروج من مأزق أن يكون ليسوع إخوة من الجسد ؟
لقد زعموا ، في سقطة فادحة ، أنهم أبناء خالته “مريم الصغري” زوجة كلوبا !!
كأن اسم “مريم” كان الاسم الأكثر حظاً في فلسطين في ذلك الوقت ، وكأنَّ اليهود في ذلك الوقت ، كانوا لا يجيدون نطق اسم آخر !!
ولكي تربح الفرية ظلاً من الحقيقة ، تسربت هذه المرأة ، “مريم الصغري” ، في عهد متأخر علي ما يبدو ، إلي أبرز مشاهد العهد الجديد قسوة ، وقبضاً علي الذاكرة في الوقت نفسه ، مشهد الصليب أعني ، وهو أكثر المشاهد تضارباً بين الأناجيل حتي ليظن معه أن خلفه غابة من الأصابع المتعاقبة !!
“وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه ، وأختُ أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية” يوحنا 19:25
حيلة ركيكة يكفي لانهيارها خمول اليهود في اعتماد هذه العادة العائلية ، ويكفي للرقص فوق ركامها شهادة المؤرخ الكاثوليكي “ملاخي مارتن” بالرغم من دواعي الشك في صحتها ، بأنها ابنة خالتها لا أختها ، وهو يكرس الأنساب في وضوح أكثر مما ينبغي ، هكذا :
“واحدٌ من يواقيم وحنة ، جد يسوع وجدته من الأم ، وواحدٌ من إليصابات ، ابنة خالة أم يسوع ، مريم ، واليصابات زوجها زكريا ، وواحدٌ من كليوباس أو كلوبا و زوجته الذين كانوا أيضا اولاد خال مريم”
ربما قال قائل : كيف له ، إذا كان له إخوة ، أن يعهد بأمه لـ”يوحنا” ؟
ومن قال أن المقصود هو “يوحنا” ؟
إنَّ ذلك التلميذ هي من لا نشكُّ أنها تفعلها ، “مريم المجدلية” لا أكثر ، بل والساكنُ رحِمَها !!
لكن هذه الحيلة السخيفة ، برغم سخافتها ، وربما بفضلها ، تفتح باباً عريضاً للولوج إلي قراءة أخري !!
أليس من الممكن أن يكون اسم “مريم” علماً خاص لأشخاص خاصين ، كما كان “هند” علماً لكلِّ امرأةٍ تنتمي إلي ” المناذرة “؟
لا يخفي علي المصابين بحرفة الأدب أن كل شاعر، ولا أستثني أحداً ، وفد إلي بلاط المناذرة ، ردد لابدَّ في قصائده اسم “هند” حياً دافقاً ، وليس بالضرورة أن يكون للممدوح ابنة تسمي ” هند”، كما لابد خاطب الممدوح بـ ” أبي هند ” ، ثم ، “عمرو بن هند” ، أحد أشهر ملوك المناذرة !!
“عدي بن زيد” مثلاً يقول :
أَبلِغ خَليلي عَبدَ هِندٍ فَلاَ / زِلتَ قَريباً مِن سَوادِ الخُصُوص ..
و”عمر بن كلثوم” يقول :
أَبَا هِنْـدٍ فَلاَ تَعْجَـلْ عَلَيْنَـا / وَأَنْظِـرْنَا نُخَبِّـرْكَ اليَقِيْنَــا..
وأخيراً الشاعرة “هند بنت النعمان بن المنذر ” التي تقول :
ما كنت أحسب والحوادث جمة / أني أموت ولم يعدني العوَّدُ
حتى رأيت على جراية مولدي / ملكا يزول وشمله يتبدد
سأكتفي بهذه القطرات من رتل من غيم المطلق الذي سال في قصور الحيرة ..
وأدعم هذا المسار بقول “أبي عبيدة” :
” إن العرب كانت تسمى ملوك الحيرة ، أي كل من ملكها ، “النعمان” لأنه كان آخرهم”
وبعدُ ..
تؤكد ترجمة النعمان أنه كان أحمر أبرش ، وأن أمَّهُ يهودية ، وهذا يدفعني إلي الظن بأن عادة علم “هند” علي كل نساء المناذرة ، هي عادة وافدة مع وفادة أمِّه اليهودية إلي بلاط الحيرة ..
إذاً ..
أليس من الممكن أن يكون علم “مريم” الذي يزدحم به العهد الجديد ، كآنسات أفينيون ، واجهة لبيت دعارة !!
قد ..
محمد رفعت الدومي
* ملخص لكتابي قيد الطبع “تناذر فلورنس”