مع بداية الثورة الشعبية السلمية في منتصف مارس (آذار) من عام 2011، دخلت سوريا مرحلة ما بعد النظام، التي كانت قد شرعت تتخلق مع فشله في تقديم أي شيء يتفق ووعوده التي كان قد قطعها خلال قرابة نصف قرن للشعب، وعجزه عن تقديم وعود جديدة قادرة على تخدير السوريين وتضليلهم، وإقناع قطاعات مؤثرة منهم باستمرار دعمها له.
يعيش شعب سوريا منذ نيف وثلاثة وثلاثين شهرا فيما أسميه «مرحلة ما بعد النظام»، التي تتجلى بوضوح في عصيان وطني ومجتمعي شامل ينخرط القسم الأكبر من المواطنات والمواطنين فيه، ويأخذ أشكالا متنوعة من المقاومة السلمية والمسلحة، ويتجسد في الأرقام التي تنشرها منظمات دولية متخصصة، تتحدث عن قرابة 15 مليون إنسان انتزعوا من بيوتهم وبيئاتهم التقليدية، ألقي بعضهم في المهاجر، وظل بعضهم الآخر داخل البلاد، لكنه تشرد خارج أماكن عيشه وعمله، في حين يقارب عدد من قتلوا، أو جرحوا، أو اعتقلوا، أو لوحقوا، أو أخفوا قسرا، أو أعطبوا جسديا وروحيا نحو مليوني إنسان، بينما فر عشرات آلاف الضباط وصف الضباط والجنود من جيش النظام، وتركت الكتلة الأكبر من البعثيين حزبه، وانشقت عنه كتلة كبيرة من الشيوخ والعلماء، ومن كبار رجال سلطته العليا كرئيس وزرائه ونوابه ووزرائه، فضلا عن آلاف المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعة، وملايين العمال والفلاحين وصغار الكسبة.
يقول النظام إنه يحارب الأصولية؛ فهل ضباطه الذين كانوا يرددون ثلاث مرات يوميا خلال عشرات السنين شعارات تمجد الأسد وتتعهد بمنحه ولاءهم الأبدي أصوليون؟ وهل رئيس وزرائه وكثير من وزرائه ونوابه وكبار قادة حزبه أصوليون؟ وهل كل هذا الشعب الذي تعرض للقصف والقتل والتشريد أصولي؟ إذا كان كل هؤلاء أصوليين حقا، لماذا يتمسك الأسد بالسلطة ويحكم ضد إرادة شعبه؟ ألا يكون رحيله دون إبطاء الحل الوحيد للمعضلة السورية، بما أن بقاءه في الحكم يتعارض ورغبة مواطنيه والمصالح العليا لدولة ومجتمع سوريا؟
ومن علامات دخول سوريا في مرحلة ما بعد الأسد عجز نظامه عن كسر شوكة الشعب، وبلوغ قطاعات واسعة من جيشه مرحلة اليأس من انتصار لطالما وعدها بتحقيقه، وضحى بالآلاف منها كي يحرزه، إلا أنه غرق مع كل هجوم شنه في الرمال المتحركة لمقاومة وطنية عامة تغطي البلاد من أقصاها إلى أدناها، ينخرط فيها الشعب بشيبه وشبانه حتى لم يبق سوري واحد غير معني بها أو متأثر بنتائجها. يقينا، إن واقع سوريا يؤكد كم خرج الشعب من عالم النظام، وكم قاتله طلبا لمرحلة تليه تكون مفعمة بالحرية ومتعينة بها، يجسدها منذ بداية الثورة إصراره على التخلص من وضع سلطوي كائنا ما كان الثمن، ومهما غلت التضحيات، فالسوري قد يقول لك اليوم إنه تعب، لكنه لن يلبث أن يؤكد إصراره على مواصلة النضال مهما طال زمنه، يدفعه إلى ذلك اقتناع راسخ بأن للحرية ثمنا مرتفعا، وأنه سيدفعه، لأن من يطالب بالحرية كنظام مجتمع ودولة لأول مرة في تاريخه لا يحق له أن يضن عليها بشيء، ما دام تحقيقها يتطلب تضحيات غالية تقدم لمرة واحدة، يقع بعدها الانتقال إلى عالم إنساني كريم وعادل، لا سيطرة فيه للإذلال والمهانة والإفقار والإفساد والعنف.
أخيرا، من علامات دخول سوريا مرحلة ما بعد النظام تلك المواهب التي تفجرت بعد الثورة، وجعلت مواطنا شبه أمي أمضى جل حياته في قرية نائية مخترعا يجيد صنع وسائل قتالية متطورة كالصواريخ والمدافع ووسائل الاتصال والحشوات المتطورة، وسائق سيارة مغمورا يبتكر آلات تعمل بالماء تنتج الطاقة وتساعد الشعب على تخطي مشكلة انقطاعها الدائم وتنقي المياه الملوثة، لو باع براءة اختراعها في دولة متقدمة لصار من أصحاب المليارات، وطالبا ثانويا يبتكر أجهزة ذات تقنية شديدة التطور من مواد رخيصة يمكن إيجادها في أي سوق. هذا التفجر الإبداعي يرجع إلى انعتاق الشعب من نير الأسر الروحي والفكري الذي أخضعه النظام له طيلة نصف قرن، لولا تخطيه بدلالة المرحلة التالية للنظام القائم لما تمكن أحد من النزول إلى الشارع أو مواجهة آلة القتل المستوردة بآلة مقاومة محلية الصنع غالبا، صمدت أمامها وكسرتها مرات كثيرة بفضل استخدامها من أجل نيل حرية لم يعد السوريون يتصورون أن باستطاعتهم العيش من دونها.
ألا يعي أهل الحكم أن ثورة سوريا أدخلتها إلى مرحلة ما بعد نظامهم، وأنهم يخوضون معركة خاسرة، لم ولن يربحوها مهما كان الدعم الذي يتلقونه من إيران وروسيا وحزب الله؟! أعتقد أنهم لا يعون ذلك، وأن هذا من علامات دخول سوريا في الحقبة التالية لهم، أقله لأن أي سلطة تعجز عن فهم الواقع في بلادها تحكم على نفسها بالزوال!
منقول عن الشرق الاوسط