صحيح أن مصطلح “الفوضى الخلاقة” أطلقته للمرة الأولى وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في عهد الرئيس جورج بوش الابن في محاولة لإعادة تشكيل المنطقة العربية وبناء ما يسمى بـ”الشرق الأوسط الكبير”، إلا أن المخطط ذهب أدراج الرياح بخروج إدارة الرئيس بوش من البيت الأبيض مع حاشيته من المحافظين الجدد. وعندما وصل الرئيس أوباما إلى الحكم ذهب في اتجاه معاكس لاتجاه الإدارة السابقة، ففتح صفحة جديدة مع الدول العربية والإسلامية. وكلنا يتذكر خطابه الشهير للعرب من جامعة القاهرة، ناهيك عن أنه بدأ يصحح الكثير من السياسات الخارجية الأمريكية حيال الشرق الأوسط، فسحب جيشه من العراق، وبدأ يتبع سياسات أكثر نعومة مع الدول العربية. وقد لاحظنا أن المساعدة الأمريكية للقضاء على نظام القذافي البائد جاءت تنفيذاً لقرار دولي وبدعم عربي كبير، ودون أي تدخل عسكري بري، بحيث اقتصرت مساعدة حلف الناتو لليبيين على القوة الجوية. ولعلنا نلاحظ الآن أن أمريكا تحاول أن تبقى بعيدة عن الأزمة السورية رغم المناشدات العربية والإسلامية لها للتدخل ومساعدة الثوار السوريين. ولو قارنا التدخل الأمريكي في سوريا بالتدخل الإيراني والروسي لوجدنا الأخيرين أكثر تخريباً وضرراً وتدميراً ونشراً للفوضى، لأنهما يدمران وطناً وشعباً من أجل حماية نظام، لكن مع ذلك، مازال بعض أيتام الديكتاتوريات الساقطة والمتساقطة يصور الربيع العربي على أنه تطبيق حرفي لمشروع “الفوضى الخلاقة” الأمريكي القديم.
يتحجج القومجيون العرب الذين تبين أنهم أكبر حلفاء الطواغيت في المنطقة بأن الثورات العربية في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا لم تجلب للمنطقة سوى “الفوضى” التي وعدت بها رايس. ويستشهدون بالأوضاع التي نتجت عن الثورات في بلدان الربيع العربي. فهم يرون أن الثورة الليبية لم تنتج سوى التطاحن الداخلي والتشظي، وكأنهم بذلك يترحمون على نظام القذافي الذي لم يشهد التاريخ نظاماً برداءته وتخلفه. ما العيب في أن يتصارع الليبيون بعد الثورة لإنتاج نظام جديد؟ أليس الصراع السياسي هو لب الديمقراطية وأساسها؟ ألا تبدو ليبيا خلية نحل سياسية عظيمة لحيويتها ونشاطها وتصارعها الإيجابي؟ هل يريد المترحمون على أنظمة الطغيان الساقطة والمتساقطة أن يعود القذافي ليعين الحكومة ورئيس وزرائها بمكالمة هاتفية من خيمته السخيفة في غياهب الصحراء؟ ألم يكن النظام في ليبيا مجرد مزرعة لعائلة القذافي ومن حوله من مرتزقة ومأجورين؟ أليس هو مؤشر رائع أن تستغرق عملية انتخاب الحكومة الليبية الجديدة أشهراً بسبب التصارع الصحي بين القوى الديمقراطية الصاعدة؟ ألا يعني هذا أن الحكومة الليبية من الآن فصاعداً ستعمل فعلاً من أجل الشعب لا من أجل من كان يعينها في السابق من خيمته؟ ألا يجعل الصراع الذي رافق عملية تشكيل الحكومة الليبية كل وزير فيها يعد للعشرة قبل أن يخطئ لاحقاً بحق الشعب الذي اختار الحكومة والمجلس الوطني العام الذي أشرف على تشكيلها؟
صحيح أن بعض الجماعات المسلحة حاولت إفساد المشهد بعد الثورة في ليبيا ببعض الأفعال الطائشة، لكن حتى تلك الأفعال هي نتيجة طبيعية، فلا يمكن أن تستقر الأمور في أي بلد بمجرد أن تضع الثورة أوزارها، فمن الطبيعي أن يلجأ أي شعب خارج من تحت ربقة الطغيان والاستبداد المزمن إلى بعض التصرفات المنفلتة بحجة أنه أصبح حراً. لاشك أنه تفكير غير سليم، لكن الديمقراطية عملية تدرجية، ولاشك أن الجميع سيتعلم اللعبة لاحقاً حتى لو حصلت بعض الأخطاء الصغيرة والكبيرة. فلا ننسى أن القذافي لم يورث الليبيين أجهزة أمن أو جيشاً وطنياً يحمي البلاد من الفوضى والانقسام، فقد كان جيشه عبارة عن ميليشيا خاصة وكذلك أجهزته الأمنية العائلية. لهذا تعاني ليبيا بعد الثورة من بعض مظاهر الفوضى، لكن مع بناء جيش وأجهزة أمن جديدة لاحقاً ستختفي الفوضى، ولن يعد بمقدور أحد أن يطالب بالانفصال. ولا ننسى أيضاً أن النظام البائد كان يحكم البلاد على أساس قبلي وجهوي متخلف على مبدأ “فرق تسد”، مما جعل الشعب يتشظى قليلاً ويتصارع بعد الثورة على أسس بدائية. وما أحداث منطقة بني الوليد إلا مثال صارخ على الإرث الفاسد الذي ورثه القذافي للشعب الليبي.
أضحكني كثيراً أحد “المتفذلكين” من أعداء الربيع العربي عندما قال:”انظروا كيف خربت تونس بعد سقوط نظام ابن علي”، وكأنه يترحم على عهد الفساد والإفساد والظلم. هل يعقل أن يريد بعض القومجيين والمتضررين من الثورات أن يعود عهد ابن علي والقذافي ومبارك وعلي عبد الله صالح لمجرد حدوث بعض الفوضى البسيطة والطبيعية بعد الربيع العربي؟ ما المشكلة في أن يتصارع العلمانيون والإسلاميون والسلفيون في تونس؟ من الطبيعي حتى أن تظهر جماعات متطرفة في العهد الديمقراطي لأن الساحة أصبحت مفتوحة للجميع كي يتنافسوا على السلطة بعد أن كانت حكراً على الطواغيت وأذنابهم.
قد ينتقد البعض الوضع في تونس لأنه أفرز جماعات سلفية متطرفة، لكن ما العيب في أن تظهر مثل تلك الجماعات حتى لو اختلف الكثيرون معها؟ أليست صناديق الاقتراع هي الحكم الأول والأخير، وليتصارع الجميع والشعب هو الذي يختار من يريد؟ أليس ما يحصل في تونس من تصارع مسألة طبيعية وصحية جداً؟ أليس ما نشهده هي فوضى خلاقة حميدة إذا كان هناك فوضى فعلاً؟ ألم يتطاحن الغربيون لمئات السنين قبل أن يبنوا أنظمتهم الديمقراطية العظيمة؟ ألا تتصارع القوى السياسية في البلدان الديمقراطية التي تحترم نفسها على المبدأ القرآني العظيم: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” لماذا يريد بعض القومجيين لبلادنا أن تبقى كالبحيرات الساكنة المليئة بالمياه الآسنة بحجة حفظ الأمن والاستقرار؟ متى يدرك هؤلاء الكذابون والأفاقون أن الاستقرار الدائم شعار يصلح فقط لأبواب المقابر كما يقول أخونا عزت سيد أحمد في كتاب بهذا العنوان؟ لماذا لا نقول إن المشاكل التي تعاني منها بلدان الربيع العربي بعد الثورات ليست من نتاج الثورات، بل من نتاج الأنظمة الساقطة التي قلبتها الثورات؟ والأمر مسألة وقت، وستقوم الأنظمة الجديدة بتصحيح الأوضاع ومعالجة الفوضى غير الحميدة التي ظهرت بعد الربيع الثورات، أيها القومجيون، لا تدمر الأوطان، بل تحييها، أما الذين يدمرون الأوطان فهم أسيادكم الذين يريدون أن يبقوا في الحكم حتى على حطام وأشلاء الأوطان.
ألم تخط مصر المتحررة من الطغيان خطوات عظيمة بعد الثورة خلال فترة وجيزة؟ هل يعقل أن نرجم الربيع العربي بأكمله، ونستخدم ضده أقذع الأوصاف، ونصفه بالفوضى الهلاكة، وبالمؤامرة الكونية السخيفة فقط للحفاظ على النظام السوري من السقوط، وتبرير سحق ثورة الشعب السوري العظيمة بالحديد والنار؟ أليس كل الذين يعادون الربيع العربي هم من مرتزقة النظام السوري وبقايا “القومجيين والعلمانجيين” المزعومين الذين سترميهم الثورات في مزبلة التاريخ غير مأسوف عليهم مهما طال الزمن؟