طُرح موضوع تأسيس مرجعية لسنة العراق، وجاءت ردود الفعل متباينة، عن المرجع المُرشح وآلية عمله، مع أن هيئات سُنية تصدرت المشهد بعد (2003)، لكنْ لم يُجمع على مرجعيتها، وحتى المرجعية الشيعية لم تبقَ واحدة، فالأحزاب الدينية اليوم لها مرجعياتها، ومقراتها بالنجف مركز المرجعية التاريخي.
ظهرت المرجعية الإمامية في القرن (4هـ)، بعد الغيبة (329هـ)، وكانت فقهية، لأن فكرة «الانتظار» حرمت طلب الحُكم، فالثَورات الشيعية، على مر التاريخ، لم تكن اثني عشرية، وإنما معظمها زيدية وإسماعيلية (انظر: مقاتل الطالبيين)، وإذا احتج أحدهم بالحسين (قُتل 61هـ)، لم يكن اثني عشرياً ولا سُنياً، كان النِّزاع بين هاشميين وأمويين، فالمسجد كان واحداً والأذان واحداً، ولا اختلاف بالمعاملات والعبادات.
غير أن ظهور المرجعية واستمرارها ظل بعيداً عن العمل المؤسساتي العام، فحسب المرجع أبي الحسن الأصفهاني (ت 1946) نظامها «في اللانظام»، أي المرجعية الحرة. بينما هناك مَن أعجبه نظام الفاتيكان بانتخاب البابا من قِبل الكرادلة، لكن ذلك قد يؤدي إلى التفرد، فحُبذ بقاء المُقلد حراً في اختيار مرجعه، لا بالتعيين ولا بالانتخاب (الحكيم، المرجعية الدينية).
لم يعرف الإسلامُ الكهنوتيةَ، مثل بقية الأديان، مع إشارة الجاحظ (ت 255هـ) إلى أن «جميع الأمم يحتاجون إلى الحكم في الدِّين، والحكم في الصناعات، وإلى كل ما أقام لهم المعاش» (كتاب الحيوان). غير أنه في العهد الأموي (41-132هـ) بدأت الحاجة إلى الفقهاء، فرجاء بن حَيوة (ت 112هـ)، وبقوة وصية الخليفة سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ)، تولى تنصيب عمر بن عبد العزيز (99-101هـ)، وهدد هشام بن عبد الملك (ت 125هـ) بقطع رأسه إذا امتنع عن البيعة (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).
ظهر في العهد العباسي أبو يوسف (ت 182هـ)، والماوردي (ت 450هـ)، واستحدث العثمانيون منصب «شيخ الإسلام»، وأشهرهم أبوالسعود (1574م)، وآخرهم الصيادي (ت 1909)، لكنَّ هؤلاء كانوا مع الحاكم يديرون الشأن الفقهي، ولم يُسمح لهم بتأسيس مرجعية مستقلة. كذلك في العهدين الفاطمي الإسماعيلي (296-567هـ) والصَّفوي الإمامي (1501-1723م) غاب دور المرجعية الدينية، وبرز في ما بعد، ثم نراه مكتوماً في ظل نظام ولاية الفقيه بإيران.
في حالة سُنَّة العراق، بعد قيام الدولة الوطنية (1921)، انتقلت دائرة «مفتي بغداد» من العثمانيين إلى الدولة العراقية، واستمر التقليد العباسي والعثماني في رسمية المذهب الحنفي، المناسب للدول المختلطة دينياً، بالمقابل للإمامية مراجعهم، وإدارة أحوالهم الشخصية والفقهية. تتفق المرجعية الإمامية مع فقهاء السنَّة في عدم الخروج على الحاكم، مع اختلاف التبرير، فقالوا: «كل راية تُرفع قبل قيام القائم (المهدي المنتظر) فصاحبها طاغوت» (الكُليني، الكافي)، ولهذا الموقف علاقة بكثرة الثورات والحروب.
لم يُشر إلى مؤسسة الإفتاء ببغداد مرجعيةً مستقلةً، والسَّبب أن فقهاء السنَّة لا يختلفون بالأُصول مع الدولة عبر التاريخ، مثل اختلاف الإمامية، واستقلال مراجعهم مالياً عن طريق «الخُمس»، فريضة بدأ فرضها العباسيون على المكاسب، في عهدهم السِّري، يُحصلها النُّقباء الاثنا عشر، وعرفت بـ «نفقات الشِّيعة»، شيعة بني العباس (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك).
أتينا على المقابلة بين مرجعية الإمامية، عمرها ألف عام، وأحوال فقهاء السنة، كي نضع أمام الداعين لمرجعية سُنيَّة، بأن المرجعيات لا تؤسس، بل يفرضها الظرف التاريخي، ولم توازِ الدولة، ويكون تدخلها عند الأزمات وبحدود، كتدخل الأزهر في حسم حكم «الإخوان»، أو هيئة كبار العلماء السُّعودية في قضية جهيمان (1979)، يقابله تدخل مرجعية النجف في فوضى (2003)، و«داعش» (2014).
أرى من الصعوبة بمكان، أن تصبح لسُنَّة العراق مرجعية، على غرار المرجعية الشيعية، وبتأثير سياسي، أما فقهياً، فيمكن أن يقوم الوقف السُّني بالمهمة، أو مؤسسة إفتاء سُنيَّة، فالتَّقليد الفقهي، الذي أنشأ المرجعية الشيعية، غير ملحوظ بين السنة، وأئمة المساجد يقومون بالمهمة، ولا يحتاج الأمر إلى مرجع تقليد، ناهيك عن عدم وجود «الخمس»، وهو القوة التي تعتمد عليها المرجعيات.
لكن متى لا يلجأ العراقيون إلى مؤسساتهم الفقهية، أو مرجعياتهم، في شأن سياسي وحياتي عام؟! ذلك عندما تتحقق دولة تتولى الإعمار وتبسط الأمن، لا تنظر لمواطنيها على أساس الدِّين أو المذهب أو القومية. لا تُهددها «داعش» باحتلال بغداد، ولا ترفع الميليشيات صور رموزها الدَّينية وسط تكريت. عندها ستُحَيد المرجعيات الدِّينية تلقائياً.
قيل: «إن الأُمور إذا دنت لزوالها/ فعلامةُ الإدبار فيها تظهرُ» (العسكري، جمهرة الأمثال)، وبحث العراقيين عن مراجع بدلاء للدولة أوضح إشارة إلى الإدبار. فالمرجعية المطلوبة، على ما يبدو، ليست للفقه، لأن أمر تبيان الحلال والحرام لم ينقص أهل السنة، لكنها مرجعية السياسة، ومَن يدري، فلعلها تماثل «ولاية الفقيه» التي صادرت الشيعة، بتقليد الفقيه في الشَّأن السِّياسي والحياتي.
لا ينفع في وضع العراق غير الدولة المدنية، حيث تستقل دوائر الإفتاء ومرجعياته، على غرار ما بينه الجاحظ: سلطة للدين، وأُخرى للصناعات، أي الاقتصاد، وقيل: «السياسة اقتصاد مكثف» لا ديانة مكثفة!
* نقلا عن “الاتحاد”