شغلت مذبحة باريس 7 يناير 2015 العالم بأسره، حتى ذكرت بـ11 سبتمبر 2001، فحينها فُسرت على أنها اقتحام لعِقر دار «الإمبريالية» أو «الشَّيطان الأكبر»، مِن دون الأخذ بنظر الاعتبار ما تعكسه على المسلمين أنفسهم، وقد جرت تلك «النزوة» إلى حرب أفغانستان والعراق، وتعقد الوضع بالشرق الأوسط، وإذا كان قد خُطط لغزوة سبتمبر مِن جبال أفغانستان حيث كان يُقيم بن لادن (قُتل 2011) فقد أصدر خليفته الظواهري أمر «غزوة يناير».
طالعتنا كتابات عديدة لمقيمين بالعواصم الأوروبية، ينعمون بامتيازات الأوروبي من السكن إلى العناية الصحية وجواز السفر والحق الانتخابي، أعطوا فيها حقاً لقتلة صحفيي «شارلي إبيدو»، على أنهم أخذوا ثأر المليون شهيد، حسب شهرة الرقم! وبالثأر من غزو الأميركان للعراق. مثلما جعلوا الحادي من سبتمبر غزوة ثأرية لفلسطين!
هكذا جرى تفسير عمل إرهابي، مع أن الإرهابي والكُتاب المدافعين عنه بذلوا المستحيل كي يصلوا إلى «ديار الشَّر»، ويتنعموا بقوانينها، فأغنى الجمعيات الدينية الإسلامية «الخيرية»، المرتبطة بالإسلام السياسي، تأسست بالعواصم الأوروبية، وليقولوا: أين تأسس «اتحاد علماء المسلمين»؟ أليس بلندن عام 2004 أم في مكان آخر؟
إذا كانت الأعمال الإرهابية تفسر بالثأر لقضايا كبرى، كالاستعمار الفرنسي أو البريطاني أو الغزو الأميركي، فما هو حجم الانفلات في الأوهام! وفي المقابل قد يُعطي الحق للاستعمار الفرنسي أو البريطاني بأنه جاء ثأراً للغزو العثماني الذي اجتاح أوروبا حتى جدران فيينا؟ فما المانع من هذا التفسير؟ إذا كانت الأفكار ساذجة إلى هذا الحد؟ ستفسر كل مواجهات التاريخ بين الشرق والغرب بالغزو والفتح! ومن ربط تبريره لمذبحة باريس بغزو العراق يتجاهل أن فرنسا لم تشارك بل كانت رافضة إلى آخر يوم، ويؤخذ على رئيسها الأسبق بأنه كان قريباً من بغداد أكثر من غيرها، وأن آية الله الخميني الذي أبهر هؤلاء الثوريين في حينها قد وصل محفوفاً بالتبجيل من قلب باريس! وما يتعلق بفلسطين ففرنسا اعترفت بدولتها.
كأن ليست هناك أحزاب وجماعات من الفرنسيين قد وقفت ضد حرب الجزائر، وقد أخبرني شاهد عيان، من الطلبة العراقيين بباريس آنذاك، وعلى معرفة بالمستشرق لويس ماسينيون (ت 1962)، أن الأخير قد ضُرب من قبل متظاهرين فرنسيين ضد الحرب بالجزائر، لأنه كان مع فرنسية الجزائر. هل فكر هؤلاء بأن أحد المقتولين كان مع حق الجزائر في الاستقلال؟
أقول: هل كان نجيب محفوط (ت 2006)، حينها تخطى التسعين، محتلاً أو غازياً لبلاد المسلمين كي تصدر فيه فتوى «جهادية»؟ أم كان فرج فودة (قُتل 1992) مخططاً لغزو العراق أم أفغانستان كي تنفذ فيه فتوى القتل، أو أن حسين مروة (قتل 1987) كان محارباً مع الجيش الإسرائيلي كي يُقتل في شيخوخته مِن قبل إرهابي، قيل لقى حتفه بالأسلوب نفسه؟
إذا كانت المذابح الإرهابية تبرر بهذا المنطق، فليس هناك إرهابي أو منظمة إرهابية، كلهم طُلاب «حق»؟ وهذا هو ما يريد التعبير عنه أصحاب الأقلام التي تبرر الدَّم بعذر الثارات. لا أجد هؤلاء يختلفون قيد أنملة عمَّن يرفع شعار الثأر في المواجهات الطائفية، فالفكرة واحدة، أن يربط أي عمل إرهابي ينفذ في كاتب أو رسام أو صحافي على أنه عمل مشروع، يفسر بحملة نابليون على مصر أو احتلال بلجيكي أو هولندي أو غزو أميركي، أو حرب على غزة، أو غزو أفغانستان.
أجد في اعتبار الإرهابي «بطلاً» أخذ ثأر الأمة، وبما يقوم به تسترجع الأمة حقوقها من الاستعمار، وبقتله لصحفيين فرنسيين أو ذبح أميركي ستعود فلسطين، خطاباً ضيق الأفق، فيه ورطة تمجيد للإرهاب وتبريره. فمن المعلوم أن الإرهاب الديني لا تعنيه الجزائر ولا غزو العراق، ألم يصطف هؤلاء مع الغرب وأميركا عند الحرب بأفغانستان؟ وماذا نقول عن موقف الغرب الإيجابي مِن البوسنة والهرسك مثلاً.
لقد أرادت الجماعات الإرهابية، ممثلة بالزرقاوي (قُتل 2006) وصحبه أن تكون هي البديل عن الأميركان. فمن حيرة الألباب أن يتحول الإرهاب إلى مقاومة، هكذا يظن المطبلون للجريمة. مثلما نقرأ في التَّاريخ صحائف من شهادات الزور ستتحول كتابات هؤلاء إلى شهادات زور في المستقبل، على جريمة لا تتعدى أسبابها قضية بسيطة الحساب، وهي أن «القاعدة» أرادت رفع زخمها بعد تقدم «داعش» بجذبها للإعلام لا أكثر. فهنيئاً لهؤلاء الكُتاب إذا قبلوا بهذا «النَّصر» وبهذه «القيادة»، أعني الظَّواهري والبغدادي!
الاتحاد الاماراتية