الشرق الاوسط
الدولة التي أعنيها هي دولة الثورة وليست دولة بيت الأسد، التي لم تكن دولة في أي يوم من أيام حكمها الأسود لسوريا. أعني دولة الثورة، الغائبة إلى الآن، مع أن غيابها يعني افتقار الشعب السوري إلى مؤسسات سيادية، ووجود نقص جوهري في كيانيته الخاصة والوطنية: الخاصة باعتباره حامل الدولة ومجسد شرعيتها، والوطنية بما هي تعبير شرعي عن واقع يكون الشعب مصدر السيادة فيه، وصاحب إرادة جامعة لا تقوم دولة من دونها، والبرهان ما نراه من لا دولة بيت الأسد، التي قامت بإلغاء الشعب وأية إرادة وطنية جامعة، وأحلت محلهما سيادة وإرادة عصابة مركزية عليا تفرعت إلى عصابات دنيا نشرتها في كل مكان، جسد وجودها حجم اختراق العصابة العليا للمجتمع، والمدى الذي بلغه تحكمها بمقدراته، وقدرتها على منعه من إقامة دولة شرعية هي دولته، التي لن تنجح ثورة في غيابها. والآن، والثورة تقضم منذ نيف وعامين عصابات الأسدية الدنيا وتلغي وجودها في منطقة بعد أخرى، وتقوض سلطة وقدرات العصابة العليا، يغدو قيام الدولة السورية أمرا حتميا يرتبط بإنجازه سقوط نظام العصابات.
ما الذي يجعل قيام الدولة ضروريا على صعيد تعبيراتها السياسية؟ ثمة ظواهر عديدة تفرض قيامها تتظاهر اليوم في حالين بارزتين:
– تمزق المعارضة وعجزها عن قيادة الحراك الثوري بإرادة موحدة تضبطه وتوجهه بفاعلية ونجاح نحو هدفه الرئيس: الحرية، مع ما يترتب على ذلك من خلافات مستشرية لا تني تتفاقم وتنتقل من فوق إلى تحت: من أحزاب وتشكيلات المعارضة الحزبية إلى الشارع الثائر، الذي تتحول خلافات وتناقضات المعارضة إلى خلافات وتناقضات خاصة به تعطل انتصاره، لكونها تحول دون توحيد إرادته ونضاله من أجل الحرية. يعني تمزق المعارضة بالضرورة عجزها عن تأدية دور إيجابي، متماسك وواضح، لصالح الشعب، وغيابها عن ساحة العمل الثوري العام، مع ما يترتب على ذلك من فراغ تقوم السلطة بملئه حسبما تريد، وبالإفادة منه كي تستعيد حضورها لدى فئات اجتماعية وقطاعات وطنية عارضتها عند بدء الثورة، لكن تمزق وضعف المعارضة أديا إلى زعزعة موقفها وجعلها حائرة حيال المآل النهائي للحراك الثوري، رغم أن خيارها كان الحرية ورغبتها في الديمقراطية كانت واضحة عند معظم من ينتمون إليها.
– بروز قوى معادية لفكرة الدولة ذاتها، ترفض مبدأ الحرية وتنشر قدرا من الفوضى يأخذ سوريا إلى خراب شامل هو نقيض ما يريده شعبها ويناضل من أجله. هذه القوى نشرت قدرا من الإرهاب في المناطق التي تنشط فيها أو تسيطر عليها دمر حياة سكانها، وكيف لا يدمرها إن كان بعضها قد قام بقطع أصابع شبان شوهدوا يدخنون السجائر، بذريعة أن التدخين حرام ومن الكبائر. وللعلم، فإن جهد هذه القوى ينصرف إلى مقاتلة الجيش الحر واغتيال ضباطه وعناصره، ووضع يدها على الممتلكات العامة، ونهب الثروات الوطنية، فهي تلاقي اللادولة الأسدية بلا دولة فوضوية، وهي تخدم النظام الذي درب قسما كبيرا من قياداتها وساعدها بالمال والسلاح، كي تقاتل من يقاتلونه وتنشر قدرا من الإرهاب يساوي ما ينشره النظام أو يتفوق عليه، أما الهدف في الحالتين فيبقى واحدا: إنه الشعب، حامل الثورة والدولة الشرعية ومادتها.
– بالتمزق والفراغ من جهة، وبالامتلاء المخابراتي الرسمي والقاعدي من جهة مقابلة، يصير من الحتمي البدء في بناء الدولة الوطنية السورية، انطلاقا من هيئة تنفيذية تعمل لوضع حد لتمزق الصف المعارض ولفوضى اللادولة: أسدية كانت أم قاعدية، وتخرج سوريا من مأزق عصيب ينحدر بها إلى مهاوٍ تفتيتية يدفع شعبها ثمنها الفادح، بينما ينمو بالتكامل مع السرطان الأسدي السلطوي سرطان أسدي قاعدي بدأت تنشئته قبل الثورة، وتسارع نموه معها، وشرع يؤتي ثماره بعدها، مثلما نشاهد اليوم في الاغتيالات التي تستهدف الجيش الحر والقوى الديمقراطية، وفي اعتماد مبدأ التكفير لإلغاء أي حقوق أو مشتركات وطنية أو إنسانية.
ثمة في سوريا خطان رئيسان: واحد يقوده النظام، بين مساراته الجهد القاعدي لقتلة محترفين يمكنون النظام من وضع العالم أمام أحد خيارين: هو كنظام علماني مزعوم، أو هم كقاعدة نظام جهادي يعادي العالم. وآخر تجسده دولة تعبر عن الشعب، تبدأ من هيئة تنفيذية أو مجلس مفوضين يعبر عنها ويحلها محل اللادولة الأسدية ولا دولة الفوضى القاعدية، فلا يبقى أمام العالم من خيار غير أن يفاضل بينها وبين إرهاب اللادولة الأسدي – القاعدي المتكامل. هذه المهمة يتوقف على إنجازها وجود سوريا كوطن لشعب حر ودولة سيدة ومستقلة، فلا مفر إذن من وضع أسسها وتحقيق مرتكزاتها بأقصى قدر من التفاني والجدية، وإلا أكلتنا الفوضى وقتلنا الإرهاب، واختنقت ثورتنا تحت وطأتهما، كما نلاحظ في أكثر من مكان!