حسن خليل غريب
في محنة التكفير والتكفير المضاد بين المذاهب الإسلامية، التي يكتوي بنارها المجمتع العربي، كان لا بد من رفع الأصوات ولو قليلاً للكشف عن أصولها عبر التاريخ العربي الإسلامي. ومن أجل هذا كنت قد نشرت مجموعة من الأبحاث الأكاديمية، منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاماً تعالج هذه المشكلة، ومنها البحث المعنون: (بين الغرب “المسيحي” والشرق “الإسلامي” مسافة عبور محنة الرِدَّة)، وغيره من الأبحاث الأخرى، وقد جمعتها في كتاب (نحو طاولة للحوار بين التيارين القومي والإسلامي).
وهنا سأعيد نشر البحث أعلاه، وحذفت منه الهوامش لكي تسهل قراءته. آملاً أن يشكل رافداً من روافد المعرفة التي تكشف عن بعض أمراضنا الخطيرة التي يعمل الغرب الاستعماري والشرق الذي يزعم أنه يتبع خطى (الإسلام الصحيح)، على استغلالها والاستفادة من جهلنا.
شرق أوسط جديد، يطير على أجنحة ما نسميه (الربيع العربي)، هذا الربيع الذي ينخر بعظام الأمة العربية، ويمص دماءها. كل هذا يجري ونحن نلعق دماءنا متوهمين بأن تكفير الآخرين واتهامهم بالردة عن الإسلام بأنها خشبة الخلاص القادمة، وما كنا لندري بأن ما يجري لا علاقة له بالإسلام. فالإسلام دعا إلى ما جاء في القرآن الكريم:] اِدْعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل 16: 125.] وقل الحق من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف 18: 29. ] ولو شاء ربُّك لآمن من في الأرض جميعاً، أفأنت تُكْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين[ يونس 99: 10.
وهذا نص البحث:
(بين الغرب “المسيحي” والشرق “الإسلامي” مسافة عبور محنة الرِدَّة)
يقول ديورانت في كتابه قصة الحضارة: “إننا مدِينون في الغرب لفلاسفة القرن الثامن عشر، وربما للفلاسفة الأكثر عمقاً في القرن السابع عشر، بالحرية النسبية التي ننعم بها في الفكر والكلام والعقائد…وبسببهم استطاعت ديانتنا [المسيحية] أن تتحرَّر أكثر فأكثر من الخرافة البليدة الكئيبة، واللاهوت الذي يبتهج للتعذيب… وبسبب هؤلاء فإننا هنا الآن [في الغرب] نستطيع أن نكتب دون خوف ولا وجل، ولو مع شيءٍ من اللوم”.
وجاء في بيان لمجموعة من الكُتَّاب والمثقفين والفنانين العرب، في العام 1989: “تواصل قوى الظلام جهادها ضد العقل والمدافعين عنه، فتحرق الكتب، وتعدم كل من كتب كتاباً لا يعجبها، تبيح دم كل مثقف عرف المسؤولية، تاركةً الجهل يأخذ مداه… وها هي تتحرك طليقة في الشوارع والمدن والقرى مستقوية بأعداء العقل والإنسان الذين يريدون لشعوبنا أن تظلَّ غارقة في ظلمات الجهل والخرافة”.
ثلاثة قرون ونيِّف، سبَقَنا فيها الغرب المسيحي على طريق حرية العقل، وهو الذي أخذ عنا، ونقل عن تراثنا عصارة ما أنتجه الفلاسفة العرب والمسلمون، بينما نحن ما زلنا نتخبَّط فيما يشبه أتون العصور المظلمة التي عانت منها أوروبا، والتي حاول فلاسفتنا وعلماؤنا، منذ مئات السنين، أن يرتقوا بأمتنا فوق مستواها الذي تحتله اليوم، ويشقوا طريقاً للحضارة يلعب فيه العقل دوره الطبيعي.
كيف اجتاز الغرب المسيحي محنة تلك المحاكم، فدبَّت في أوصاله حرارة الحضارة، فاستفاد منها مُنْتِجاً حتى الثمالة، وجمدنا نحن في موقع المُسْتَهلِك لإنتاجه: علماً وفكراً وحضارة تكنولوجية؟
ولماذا قبعنا نحن، وما زلنا نقيم لمحاكم التفتيش قصوراً وأكواخاً تسلَّط سيف الإرهاب على رقابنا نحن، ونحن فقط؟
فهناك حضارة متقدِّمة بدون محاكم تفتيش، وهنا تقبع محاكم التفتيش من دون حضارة، بل مع التخلف والجهل والأمية.
فعلى قاعدة ترابط الظواهر: هل نستطيع ربط إشكالية التخلف والجهل مع وجود ظاهرة تلك المحاكم؟ ونحن هنا لا نقصد المحاكم فقط في ظواهرها المادية فحسب، بل بكل ما تعنيه من طرائق في الثقافة والفكر أيضاً.
لهذا السبب، سوف نعمل -في بحثنا هذا- على قاعدة تَتَبُّع مسألة الصراع بين العقل والنقل في زوايا التاريخ، مُتَّكِئين على قاعدة المنهج الاجتماعي في البحث، والتي تستند إلى ملاحقة الظاهرة في واقعها التاريخي و واقعها الراهن.
ولأن ظاهرة هذا الصراع سادت، عبر التاريخ، في الغرب المسيحي والشرق الإسلامي على حد سواء، فسوف نَتَتَبَّعُها في الوسطين معاً، ثم نقوم بمقارنة النتائج.
I – الرِدَّة في النص
بداية، لا بُدَّ من التذكير أن القوانين في اليونان – قبل المسيحية – كانت ترى المروق عن الدين [أي الامتناع عن عبادة الآلهة اليونانية] جريمة كبرى يُعاقَب عليها بالإعدام. وهذا هو القانون الذي حُكِم به على سقراط بالموت. وهكذا كانت روما القديمة تحكم على المارقين عن الدين.
وردت في كتب الأديان السماوية نصوص تُحَذِّر المنتسبين إليها من العقاب، كما أنها تأمر بقتل الدعاة إلى غيرها من الأديان.
1- فعلى الصعيد المسيحي، وإذا عدنا إلى سفر تثنية التشريع في العهد القديم – الفصل الثالث عشر- لوجدنا الآيات التالية : 1-2-3-5-6-8-9-10، تُحدِّد الموقف الديني من المسيحيين الذين يدعون إلى إلهٍ آخر، وهذه هي نصوصها:
-[إذا قام بينكم مُتَنَبِّئٌ أو رائي حلم، فأعطاكم آية أو معجزة] [ولو تمت الآية أو المعجزة، التي كلَّمك عنها، وقال لك تعال بنا إلى آلهة غريبة، لم تعرفها، فنعبدها] [فلا تسمع كلام هذا المتنبئ أو رائي الحلم، فإن الرب إلهكم ممتحنكم ليعلم هل أنتم تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ونفوسكم] [وذلك المتنبئ أو رائي الحلم يُقتَل، لأنه تكلَّم لِيُزيغكُم عن الرب إلهكم … ويغويكم عن الطريق التي أمركم الرب إلهكم بأن تسيروا فيها، فاقلعوا الشر من بينكم] [وإن أغراك في الخفاء أخوك ابن أمك، أو ابنك، أو امرأتك التي في حجرك، أو صديقك الذي هو كنفسك، قائلاً تعال نعبد آلهة أُخَر لم تعرفها أنت وآباؤك] [فلا ترض بذلك، ولا تسمع له، ولا تشفق عليه عينك، و لا تصفح ولا تستر عليه] [إقتله قتلاً، يدك تكون عليه أولاً لقتله، ثم أيدي سائر الشعب أخيراً] [ترجمه بالحجارة حتى يموت، لأنه حاول أن يغويك عن الرب إلهك…].
فسواء كان الغاوي عن الدين من الأقربين أو من الأبعدين فحكمه القتل. إذ اعتقد جميع مسيحيي القرون الوسطى، منذ طفولتهم، بأن الكتاب المقدَّس من وحي الله بكل نقطة فيه. وإن الإيمان بغير المسيحية يُعَدُّ كبيرة في حق الله. فاعتقدوا أن إزهاق روح هرطيق إنما يُنقِذون الهدى الكامن فيه. وكان الضال (الهرطيق) في أعين الحكام الدينييِّن شراً من المسلم أو اليهودي؛ فهذين إما أنهما يعيشان خارج العالم المسيحي، أو يخضعان لقانون صارم؛ أما الضال فهو خائن في داخل البلاد.
بشكل عام، تعتمد الكنيسة على وسائل الإرهاب الروحي، وتُصدِر قرارات بالحرمان، وهي على نوعين:
– الحرمان الأصغر: وهو حق لكل رجل دين، ويعني العذاب الدائم في النار إذا مات الآثم قبل العفو عنه.
– الحرمان الأكبر: فلا يُصدِرُه إلا مجلس ديني، وهو حرمان المسيحي من كل اتصال قانوني أو روحي بالمجتمع المسيحي. ففي هذه الحالة، لا يستطيع أن يُقاضي أو يرث، أو يعقد عقداً صحيحاً من الوجهة القانونية. ويجوز لغيره أن يقاضيه. ويُحَرَّم على كل مسيحي أن يُؤاكِلَه أو يُكلِّمَه، وإلا حُقَّ عليه الحرمان الأصغر.
في أسبانيا شجَّعت محكمة التفتيش الذين يُبَلِّغون عن أي هرطيق بأن تحافظ على سريتهم. ولكل من يشعر بأنه اقترف هرطقةً فله في خلال “مهلة الصفح” أن يأتي إلى المحكمة ويعترف بها، فيُحْكَم عليه بغرامة، أو تُفْرَض عليه كفَّارة، ويُصْفَح عنه بشرط أن يكشف عن كل ما يعرفه عن هراطقة آخرين. وإذا اقتنعت المحكمة بإدانة شخص، فإنها تأمر بالقبض عليه، وتسجنه مُقَيَّداً بالسلاسل، وتمنع عنه أية زيارة. وتُلقي على المقبوض عليه عبء إثبات براءته. وإذا أبى الاعتراف سُمِح له باختيار محامين للدفاع عنه. وفي كثير من الأحوال كان يُعَذَّب لِيُكْرَه على الاعتراف. وكانت العقوبة القصوى هي الإحراق في المحرقة على الهرطقة الكبيرة والتي لا توبة عليها.
2-أما على صعيد الإسلام، فقد وردت نصوص في القرآن والسُنَّة حول مسألة الارتداد عن الإسلام.
أ- ففي المرحلة المكيَّة، ومدتها ثلاث عشرة سنة، وكان أسلوبها الواضح: الدعوة بالحوار والموعظة الحسنة. وإنما عُرِفَت بذلك – كما نحسب – لأنه لم يحصل فيها أي قتال بين المسلمين و المشركين من جهة، ولأن آيات القرآن التي دعت للإسلام لم تتضمَّن إلا الدعوة للحوار من جهة أخرى. وهذه بعض الآيات:
]اِدْعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل 16: 125.
]وقل الحق من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر] الكهف 18: 29.
]ولو شاء ربُّك لآمن من في الأرض جميعاً، أفأنت تُكْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين] يونس 99: 10.
ب- أما في المرحلة المدنيـة، ومدتها عشر سنوات، فكان أسلوب الدعوة فيها يستند، بشكل أساسي، إلى الجهاد والقتال واستخدام القوة، ولكن بشروط. وأُنزِلَت -في هذه المرحلة – آيات كانت لا تزال تحضُّ على الدعوة بالحوار ومنع الإكراه. وهذه بعض الشواهد من خلال النصوص:
– أُنْزِلَت أول آية تأذِن بالقتال في السنة الأولى للهجرة، وهي تُحِلُّ القتال للمسلمين]لأنهم ظُلِموا، وأن الله على نصرهم لقدير [ ]الذين أُخْرِجوا من ديارهم بغير حق [ الحج 22: 39و40.
– للدفاع عن الإسلام وقتال الظالمين]وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين [البقرة 2: 199.
– أو قتال أهل البغي] وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [الحجرات 49: 10.
– أو للدفاع عن النفس :] وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [ البقرة 2: 190.
– أو قتال أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزية:] وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالكتاب… من الذين أُوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية وهم صاغرون [ التوبة 3: 29.
وعلى الرغم من أن الدعوة إلى القتال في المرحلة المدنية كانت بشروط محددة في النص، فقد أُنزِلَت آيات كانت لا تزال تدعو إلى منع الإكراه:
– ]لا إكراه في الدين… [ البقرة 2: 256. وهي مدنية.
]يا أيها الذين آمنوا عليكم بأنفسكم،لا يضُرُّكُم من ضلَّ إذا اهتديتم[ المائدة 5: 105. وهي مدنية.
إلى هذا الحد ليس هناك ما يدل على أن قتال غير المسلمين كان مأذوناً به بغير حدود. وإنما الدعوة إلى الحوار والموعظة الحسنة، ومنع الإكراه في الدين، هي القاعدة الثابتة. لذلك فهي أصل، وما عداها ليس إلا فرعاً، على الرغم من أن الفقهاء المسلمين قد أوَّلوا النص على قاعدة أن الإذن بالقتال قد نسخ أسلوب الدعوة بالحوار. وهذا ما يُضعِفُه أن آية (لا إكراه في الدين)، وغيرها من الآيات،تؤيِّد هذا المضمون أُنْزِلَت في المرحلة المدنية.
أما بالنسبة إلى الحكم على المرتد عن الإسلام، وعلى الرغم من النهي الإلهي عن استخدام الإكراه في الدعوة إلى الدين، فقد جاء على مستويين:
– مستوى النص القرآني: الذي حدد عقوبة أخروية على المرتدين عن الإسلام، كمثل ما جاء في أول آية أُنْزِلَت حول المرتدين:] ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة 2: 217. وهي مدنية. وهناك آيات أخرى لم يأت فيها النص القرآني على ذكر أية عقوبة دنيوية على المرتد عن الإسلام.
فالآية الأولى، ذات العلاقة بالردة،أُنْزِلَت لما سيطرت الخشية على الرسول من أن تقع فتنة في داخل صفوف المسلمين بين مؤيِّدٍ لعبد الله بن جحش وأصحابه وبين لائم له.
– مستوى النص السُنِّي: جاء في الموطأ: حدَّثنا يحيي عن مالك، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله قال: “مَنْ غَيَّرَ دينه فاضربوا عنقه”. يقول مالك بن أنس: ومعنى قول النبي فيما نُرى والله أعلم، أنه من خرج من الإسلام إلى غيره.
تعدَّدت التعريفات حول من هو المرتد عن الإسلام بتعدُّد الاجتهادات الفقهية. فمنهم من أكثر من تعداد الأعمال التي تُجيز الاتهام بالردة، ومنهم من أقل منها. وتضاربت وجهات النظر بين الفقهاء المسلمين حول هذه المسألة. إلا أنه – مثل كل الاختلافات التي حصلت بين مختلف الفِرَق والمذاهب – لم يوجد، طوال التاريخ الإسلامي، مرجعية واحدة يعود إليها المسلمون في حل خلافاتهم. وهذا نموذج حول هذه المسألة:
-يقول السيد سابق: “لو قتله مسلم من المسلمين لا يُعْتَبَر مرتكِباً جريمة القتل، ولكن يُعَزَّر [تُخَفَّف عقوبته] لافتياته على الحاكم”.
– جاء عند الإمام جعفر الصادق: “على الإمام أن يقتله ولا يستتبه”.
– وجاء عند الهرري، عبد الله: “ويجب [على كل مُكَلَّف] أمر من رآه تاركاً شيئاً [من الواجبات الدينية] أو يأتي بها على غير وجهها، بالإتيان بها على وجهها، ويجب عليه قهره على ذلك إن قَدِرَ عليه”.
وفي مناقشة غير مباشرة للحديث النبوي الآمر بقتل المرتد، ننقل عدداً من التفسيرات، التي جاءت حول الآية:] من يُطِع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولَّى فما أرسلناك عليهم حفيظا [النساء 4: 80. وهي مدنية.
– يقول أحمد مغنية: “أما من أعرض ولم يُصْغِ فالله خصمه، و هو الذي يُحاسِبُه ويُعاقِبُه، إنا أرسلناك أيها النبي لتكون بشيراً ونذيراً، ولم نُرْسِلُك لتكون حافظاً لهم من التمرد، ومسؤولاً عنهم حتى في حالة العصيان”.
– وجاء عند ابن كثير: “من تولَّى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء”.
– وعند محمد جواد مغنية: ” إن وظيفة الرسول تحددها كلمة الرسول نفسها، كما تحدد كلمة الشمس معناها. أما الحساب والعقاب فإلى الله لا إلى الرسول] إن إلينا أيابهم، ثم إن علينا حسابهم [الغاشية: 25 – 26.
– وعند الطبري: “ومن تولَّى عن طاعتك يا محمد فاعرض عنه، فإنا لم نُرسِلك عليهم حفيظاً، يعني حافظاً لما يعملون محاسبا”.
وغنيٌ عن البيان بعد مقارنة سريعة بين ما جاء في نص الحديث النبوي وما جاء في القرآن-نصاً وتفسيراً-أن نقف إلى جانب ترجيح القول بأن (لا إكراه في الدين) هي القاعدة الثابتة؛ أما غيرها مما جاء مُخالِفاً لها فيقع في دائرة المتغير المرحلي، الذي اقتضته طبيعة الظروف المحيطة بالدعوة.
فالردة في الإسلام، كما في المسيحية، أسقطت مئات الألوف من الضحايا، الذين حُكِمَ عليهم بالموت أو بالسجن، أو أُخضِعوا للتعذيب، ومُنِعَت كتبٌ كثيرة وأُحرِق غيرها أكثر.
II – الرِدَّة في التطبيق
1- في التراث المسيحي: منذ نشأتها، قبل القرن 12م، كانت الكنيسة في واقع الأمر دولة أوروبية فوق الدول جميعها، تضطلع بشؤون العبادات والأخلاق… والحروب العامة والحروب الصليبية… وتشترك اشتراكاً فعلياً في تصريف الشؤون الزمنية.
نشأ القانون الكنسي، شيئاً فشيئاً، من العادات القديمة ومن فقرات في الكتاب المقدَّس، وآراء آباء الكنيسة، وقوانين روما… وقرارات مجالس الكنيسة، وقرارات الباباوات وآرائهم. فكان الميدان الذي يَشغلَه القانون الكنسي أوسع من الميدان الذي يَشغلُه أي قانون معاصر؛ فهو يتناول شؤون الدين والدنيا.
كانت الكنيسة ترى أنه من الواجب المفروض على المسيحيين جميعاً أن يخضعوا له، وأن من حقها أن تُوْقِع، على كل من يخرج على أي شيء منها، مختلف العقوبات البدنية أو الروحية باستثناء عقوبة الإعدام. وكان من أهم العقوبات: الحرمان الأصغر والحرمان الأكبر. فكَثُرَت قرارات الحرمان والتحريم حتى أصبحت ضعيفة الأثر في القرن 11م. فبلغت، مثلاً، قرارات الحرمان بالجملة – للغش في أموال الزكاة التي كانت الكنيسة تتقاضاها من الأهلين – من الكثرة أن أضحت أقسام كثيرة من المجتمع المسيحي محرومة كلها في وقت واحد.
ففي القرنين 11م و12م ظهرت شِيَعٌ من المسيحيين تُنْكِرُ كثيراً من المعتقدات المسيحية، فأُحْرِق بعض المنتسبين إليها. وأُحْصِيَ من هذه الشِيَع مائة وخمسين شيعة في القرن 13م.
لم يستطع الأساقفة المُكَلَّفون، قبل القرن 13م، القضاء على الضالين لاعتبارات كثيرة؛ بل ازداد عددهم على الرغم من المحاكمات الشعبية والحكومية والأسقفية.
ففي العصر الوسيط أُسِّسَت محكمة التفتيش للبحث عن الهراطقة ومحاكمتهم. وقد وضع مجمع فيرونا، في العام 1183م، الأُسُس التي بُنِيَت عليها هذه المحكمة. وفي العام 1231م، اتَّفقت الدولة والكنيسة على أن الضالين، الذين لا يتوبون عن ضلالاتهم، خونة يجب أن يُعاقَبوا بالإعدام. وبهذا أُنشِئت محكمة التحقيق (التفتيش) رسمياً تحت سلطة الباباوات. فكان الضال في أعين الحكام الدينيين شراً من المسلم أو اليهودي.
لعبت الغوغاء دوراً في عقاب الضالين قبل أن تشرع الكنيسة في اضطهادهم بزمن طويل. وكان الأهالي، في بعض الأحيان، يختطفون المنشقين من أيدي القساوسة الذين يحمونهم. واشتركت الدولة، أيضاً، في اضطهاد الضالين لأنها كانت تخشى أًلاَّ تستطيع الحكم بغير مساعدة الكنيسة، إضافة إلى خوفها من أن يكون الضلال الديني يخفي وراءه التطرف السياسي.
بعد أن تأسَّست محاكم التفتيش، في أواخر القرن 12م، امتدَّ تأثيرها إلى سائر البلاد المسيحية الأوروبية؛ لكن هذا التأثير أخذ يَضْعُف فيها مع الزمن سوى في أسبانيا لأنها كانت تخضع لحكم الملك. لهذا السبب، وفي العام 1452م، أعاد البابا بولس الثالث تفعيل دورها، ووضعها تحت رقابته في إيطاليا بواسطة اللجنة المقدَّسة.
تتألَّف هذه اللجنة من ستة كرادلة يرأسهم البابا نفسه. ومهمتها السهر في جميع البلاد الكاثوليكية على الدين. وكان باستطاعة المفتِّشين العامين أن يجوبوا مختلف البلاد. وقامت هذه المحكمة في عملها بكل شدَّةٍ وصرامة، ولم تكتفِ بمحاربة الإصلاح بالنار فحسب، بل أرادت أن تخنق الحرية العلمية والفلسفية، أيضاً. وأسَّست، في العام 1559م، لجنة التَثَبُّت ووظيفتها أن تُنظِّم قائمة بأسماء الكتب التي تُحَرِّمُ قراءتها. وأحرقت كميات كبيرة من الكتب. وبذلك تحوَّل الإصلاح الديني الكاثوليكي إلى محاربة النهضة.
حازت اللجنة على رضا الطبقات الحاكمة لأنها كانت وسيلة للدفاع، ليس ضد الهراطقة فحسب، بل ضدَّ النظريات الاجتماعية الانقلابية أيضاً.
ومن الأمثلة على الفظائع التي كانت ترتكبها محاكم التفتيش في أوروبا، يقول ديورانت: ” إذا وازنَّا بين اضطهاد المسيحيين للضالين في أوروبا، من العام 1227م إلى العام 1492م، وبين اضطهاد الرومان في الثلاثة قرون الأولى بعد المسيح، لحكمنا من فورنا بأن هذا أخفَّ وطأة وأكثر رحمة من ذاك”؛ ويتابع قائلاً: ” ولا بَدَّ لنا أن نضع محاكم التحقيق في مستوى حروب هذه الأيام واضطهاداتها، ونحكم عليها جميعاً بأنها أشنع الوصمات في تاريخ البشرية كلها؛ وبأنها تكشف عن وحشية لا نعرف نظيراً لها عند أي وحش من الوحوش”.
في أسبانيا، مثلاً، اعتقد جميع مسيحيي القرون الوسطى – منذ طفولتهم – بأن الكتاب المقدَّس من وحي الله بكل نقطة فيه. وإن الإيمان بغير المسيحية يُعَدُّ كبيرة في حق الله. وكان تشريع محكمة التفتيش يشمل جميع المسيحيين في أسبانيا، ولم تمس اليهود. وكانت العقوبة القصوى هي الإحراق في المحرقة على الهرطقة الكبيرة أو التي لا توبة عليها. وكانت أول محرقة حصلت في أسبانيا، في العام 1481م، وطالت مايتين وثمانية وتسعين، وسُجِن مدى الحياة تسعة وسبعون شخصاً.
لقد أيَّدت جماهير الشعب الإسباني المحارق؛ وبلغ عدد ضحاياها، بين العامين 1480م و1488م، 8800 شخصاً أُحرِقوا، ونال العقاب 96490 شخصاً. أما بين العامين 1480م و1508م فقد أُحْرِق 31912 شخصاً، وعُوقِب 291484 شخصاً. ولقد كانت هذه العملية تُشكِّل ضغطاً عقلياً لا نظير له في التاريخ.
أما في إنجلترا، وبعد أن ساد المذهب الأنجليكاني – ويقع في الوسط بين المذهب الكاثوليكي والبروتستنانتي – في خلال القرن 16م، فقاد حملة شرسة ضد الكاثوليك. وعندها أصدر البابا بيوس الخامس، في العام 1570م، مرسوماً يَحْرِم فيه أليزابيت – ملكة إنجلترا – من الكنيسة؛ وأحلَّ رعاياها من الولاء لها، فسنَّ البرلمان الإنجليزي قوانين أشد صرامة ضد الكاثوليك تصل إلى حدود الإعدام. وكان المرتدُّ إلى الكاثوليكية، حسب قانون البرلمان الإنجليزي في العام 1581م، يُعاقَب بتهمة الخيانة العظمى. وكل من يمتنع عن حضور الصلوات الأنجليكانية يُعاقَب بدفع عشرين جنيهاً في الشهر.
بالإضافة إلى ملاحقة الهراطقة المرتدِّين عن الكاثوليكية – من وجهة نظر كنيسة روما – والمرتدِّين إلى الكاثوليكية، من وجهة نظر المذاهب المسيحية الأخرى، كانت محارق التفتيش تُلاحِق كل مفكر أو فيلسوف أو أديب يَتَّجِه إلى اعتناق غير أفكار المسيحية. وقد أُخْضِع كثيرون من العلماء لمحنة التهمة بالهرطقة. ومُنِعَت كتبهم من التداول أو أُحْرِقَت؛ كما حُوكِم كثيرون وأُخْضِعوا للملاحقة والسجن والتحقيق والضغط في سبيل إرغامهم على التراجع عن أفكارهم بالهرطقة؛ ويكفي أن نُذَكِّر بالبعض منهم:
– توما الأكويني (1225-1274م): وهو رجل الدين المسيحي، الذي حاول التوفيق بين الدين والفلسفة، وقد عُدَّت 219 قضية عنده خروجاً على الدين.
– جيوردانو برونو (1548-1600م): وقد شُدَّ على خازوق، وأُحْرِق حيَّاً.
– سبينوزا (1632-1677م): وهو يهودي. غضب عليه اليهود والمسيحيون. أُصْدِرَت بحقه عقوبات دينية. وجرت محاولة لقتله.
– غاليليه (1558-1648م): أُحيل إلى محكمة التفتيش في العام 1631م؛ وأُدين بالهرطقة والعصيان.
– رينيه ديكارت (1596-1650): عُدَّت بعض أفكاره هرطقة خطيرة.
2- في الإسلام :
استناداً إلى نص الحديث النبوي: “لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس”؛ لا بَدَّ إلا وأن نتوقَّف قليلاً أمام المذابح التي حصلت في صفوف السلمين على أيدي المسلمين أنفسهم؛ وذلك لكي نتساءل عن السبب الذي من أجله أُهْرِقَت تلك الدماء المسلمة بغزارة لم تهدأ طوال مراحل الحكم الإسلامي، ولأكثر من ألف سنة. ويصبح واضحاً أكثر فيما لو عُدنا – مثلاً – إلى تاريخ الطبري، أو ابن كثير… وقلَّبنا تلك المصادر سنة فسنة.
فعلى العكس من المسيحية، التي ظلَّت مُوَحَّدَة لعدة قرون قبل أن تسيل دماء المسيحيين على أيدي محاكم التفتيش المسيحية، لم ينتظر المسلمون جيلين من الزمن إلا وأخذت دماء المسلمين تسيل في حالة من الصراعات-الفتن، التي لم تجد من يقف في وجهها والالتفات إلى الحالات التي حدَّدها النص في استحلال دم المسلم.
فهذا الخليفة عثمان بن عفان (23-35هـ/644-657م) يُقتَل بأيدي المسلمين من دون أن يجد من يدافع عنه، أو من يدفع عنه الجموع التي حاصرته. فبين فريق يتَّهِم فريقاً، غسل الجميع أيديهم من دمه، وغرق المسلمون في بحر من الدماء.
إستمرَّ الغرق متواصلاً في سلسلة من الحروب، دامت من العام 35هـ/656م حتى العام 105هـ/723م، وانتهت –نسبياً – حين تمَّت السيطرة على الخوارج. لكن الأمر قد تجدَّد في أقل من عشرين سنة بعد أن استفحل أمر العباسيين والعَلويين الذين أسقطوا الدولة الأموية في العام 132هـ/656م.
لا بَدَّ، في خلال الفترة التي امتدَّت لسبعين سنة متواصلة من الصراعات، من أن نُعَدِّد الحروب التي حصلت، ونؤشِّر على أهم أسبابها الدينية. لكن هذا لا يعني أنها كانت الوحيدة التي حصلت، وإنما أسَّست لكل الصراعات السياسية والمذهبية التي جاءت بعدها. وكان من أهمها ما حصل في العصر العباسي، الذي استمرَّ حوالي الخمسة قرون ونيِّف، أي منذ (132- 656هـ/750-1258م):
– فتنة حرب الجمل (36هـ/657م): حصلت بين فريقين من صحابة الرسول. وبلغ عدد القتلى فيها عشرة آلاف: نصفهم من أصحاب علي بن أبي طالب، ونصفهم الآخر من أصحاب عائشة. وفي رواية أخرى: عشرة آلاف قتيل من البصرة (فريق عائشة)؛ وخمسة آلاف قتيل من أهل الكوفة (فريق علي).
– فتنة حرب صفين (37 هـ/658م): وحصلت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. وقُتِل فيها سبعون ألفاً: خمسة وأربعون ألفاً من أهل الشام (فريق معاوية)، وخمسة وعشرون ألفاً من أهل العراق (فريق علي). وسقط من الصحابة خمسة وعشرون صحابياً، وكان قد شارك منهم إلى جانب علي ألفان و ثمانماية رجلاً.
– فتنة حرب الخوارج (39هـ/660م): حصلت بعد انتهاء التحكيم بين علي ومعاوية. وقُتِل فيها تسعة من أصحاب علي، ولم يفلت من الخوارج سوى عشرة من أصل أربعة آلاف.
تباينت آراء المسلمين – بفرقهم كافة – حول الحكم على هذه الحروب-الفِتَن. وكان أطرف حكم، حول هذه المسألة، قد جاء على لسان ابن حزم الأندلسي (384-456هـ/994-1066م)، وجاء فيه: “إن من لَزِمَه حقٌ واجب، وامتنع عن أدائه، وقاتل دونه، فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان مُتَأَوِّلاً؛ وليس بمؤثِّر في عدالته وفضله، ولا يُوجِب له فسقاً؛ بل هو مأجور لاجتهاده ونيَّته في طلب الخير. فبهذا قطعنا على صواب علي (ر) وصحة إمامته، وإنه صاحب الحق، وإن له أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة. وقطعنا أن معاوية ومن معه مُخطِئون مأجورون أجراً واحداً”.
أما ابن تيمية، (661-728هـ/1272-1339م)، فيتَّهم علياً بأنه “كان مخذولاً، إنه قاتَلَ للرئاسة والديانة”؛ أما معاوية فارتكب ما فعله عن اجتهاد، وهو اجتهاد مأجور. ومنه يستغرب الهرري (فقيه سُنِّي شافعي/معاصر) قائلاً: “إن معاوية خرج عن طاعة أمير المؤمنين. وأُريقَت بهذا القتال دماء ألوف مؤلَّفَة من المسلمين، منهم جماعة من خيار الصحابة والتابعين، فكيف يجتمع الأجر والمعصية؟”.
وتجري الأحكام على هذا المنوال؛ لكن يبقى السؤال، الذي لم يأتِ المسلمون، بشتى فِرَقِهِم، على طرق بابه: على أية مسافة تقع هذه الحروب/الفِتَن من حديث رسول الله، الذي حدَّد فيه الحالات التي يُهدَرُ فيها دم المسلم. لم يتَّهم أحدٌ الضحايا، التي سقطت، بالزنى، ولا بقتل نفس من غير وجه حق، فهل يبقى سوى الاحتمال الثالث صحيحاً؟ وعليه يتَّهِم كل فريق الفريق الآخر – حتى لو لم يُعْلِن ذلك – بأنه كَفَرَ بعد إيمان؟
من هنا كان سيف الرِدَّة هو السلاح الذي شهره كل فريق في وجه الفريق الآخر. ولم يكن أي فريق واضحاً في اتِّهام الفريق الآخر بالكفر، باستثناء فريق الخوارج، الذين كانوا أوضح من غيرهم، فأعلنوا تكفير كل المتحاربين في وقعة الجمل، وفي حرب صِفِّين، وحاربوا تحت راية ذلك المبدأ. لقد كفَّر الخوارج علياً وعثمان وعائشة وابن عباس وطلحة والزبير، وسائر من تَبِع علياً بعد التحكيم. ولهذا السبب أَكْفَرَ كل من السُـنَّة والشيعة أهل الخوارج، لأنه – كما يحسبون : “من أَكْفَرَ المسلمين، وأَكْفَرَ أخيار الصحابة فهو الكافر منهم”.
واستمرَّت الصراعات – الفِتَن في خلال العصر الأُموي بين الأُمويين من جهة، وكل من الشيعة والخوارج والزُبَيريِّين من جهة أخرى. وبين الخوارج والزبيريِّين. وبين الزُبَيرِيِّين والشيعة. ولم تكن أسلحة الرد العقائدي قد نَضَجت عند المتقاتلين بعد.
لم يمضِ على العصر العباسي وقت طويل، إلا وكانت المذاهب الفقهية-المذهبية الإسلامية قد استفادت من الفكر الفلسفي الوافد من اليونان، بشكل خاص، ومن شتى الحضارات الأخرى، بشكل عام، لتدعم نصَّها الديني بالبرهان والقياس، فتتفرَّع عندها الدعوة الإسلامية إلى عشرات الفِرَق المذهبية. وكانت كل فرقة تتفرَّع إلى عشرات الفِرَق الأخرى، فتظهر إلى العلن مصطلحات التبديع والتفسيق والتضليل والتكفير، ثم ينتشر حديث الفرقة الوحيدة الناجية من النار من أصل ثلاث وسبعين فرقة قال النبي محمد إن الإسلام سوف يرسو عليها. فتتكاثر الاتهامات المتبادَلة بين الفِرَق بالتكفير، فتطال هذه التهمة شتى الفرق الإسلامية، وتحسب كل فرقة أنها الناجية وحدها من النار في نظر نفسها، أما الفرق الأخرى غيرها، والتي لا تؤمن بعقائدها، فسوف تذهب إلى النار.
تردَّدت، في العصر العباسي الأول، كلمة “زندقة” على الألسنة؛ وكثُرَ اتهام الناس بها حقاً وباطلاً، و “تنبَّه الرأي العام إلى هذا المعنى تنبُّهاً دقيقاً، فهم يسمعون الشاعر فسرعان ما يلتفتون إلى شيء فيتَّهمونه من أجله بالزندقة، أو يرون فعلاً صدر من إنسان أو كلمة قالها – جَدَّاً أو هزلاً – أو إشارة أشار بها، فيرمونه بالزندقة”.
وبعد أن تشرذم الإسلام إلى أكثر من ماية وخمسين فرقة مذهبية، يُطِلُّ الفكر الفلسفي الوافد من الخارج ليساعد على الخروج عن حرفية النص الديني، مُتأُوِّلاً فيه الباطن – أحياناً – ليُوَفِّق بين العقل والدين. وينهل أصحاب الفرق المذهبية من مُعين البرهان والقياس مُكْرَهين أحياناً. فتختلط الأمور كثيراً، وتلتبس في أذهان النصوصيين من أصحاب الفرق. وتتَّسِع دائرة التكفير لتطال الصوفيين والفلاسفة والكلاميين بالاتهام بالزندقة والخروج على الدين. فالزندقة ” في بعض معانيها – وهو الشك والإلحاد – إنما تقترن عادة بالبحث العلمي [مثل] مذاهب الكلام، والجدال الديني حول المسائل الأساسية في الأديان، والبحث الفلسفي…”.
لهذا، وبعد أن كان أولو الأمر يتَّهمون بالردة أفراداً، ويعملون على استِتابتهم، انتقل الاتهام من الفرد إلى الجماعة، وخضع المسلمون – بشتى فِرَقِهِم – إلى الاتهام الجماعي والعقاب الجماعي. ولعل أول محنة جماعية حصلت، فإنها قد حصلت في عهد المأمون الذي حاول أن يُفْسِح للعقل دوراً إلا أنه أوقع بالعقل في منزلق تكفير الآخرين، فأغلقه على التعصب المذهبية بدلاً من أن ينطلق به، بمساعدة المعتزلة، إلى رحاب الحرية في التفكير والاعتقاد. وللبحث عن أسباب ذلك يتطلَّب بحثاً آخر.
كان السياسيون، تارة، يُصدِرون أحكام الرِدَّة والتكفير. ويقوم فقهاء المذاهب، تارة أخرى، بهذا الدور. وعادة ما كان العامة يلعبون دوراً في التحريض والتنفيذ.
فمن مظاهر الاتهام بالردة/التكفير في التاريخ الإسلامي، ومن نتائجه وتأثيراته، سنقوم باستذكار التاريخ لنُقَدِّم عدداً من النماذج:
*غيلان الدمشقي، المعتزلي: وقد قُطِعَت يداه ورجلاه، ثم قُطِع لسانه. وحصل ذلك على عهد هشام بن عبد الملك (106-126هـ/724 -743م).
*أحمد ابن حنبل (164-241هـ/780-855م): عُذِّب وسُجِن على عهد المأمون بسبب محنة خلق القرآن.
*الحسين بن منصور الحلاَّج (244-309هـ/852-929): إتُّهِم بالردة، وجُلِد، وقُطِعَت أطرافه، وقُتِل، ثم أُحرِق بالنار.
*السُرْخُسي (ت في العام 197هـ/899م): قُتِل بأمر من المعتضد – الخليفة العباسي – بسبب من شكوكه.
*أبو بكر الرازي (250-313هـ/864-925م): وُصِم بالمروق والإلحاد.
*كان الحنابلة، في أوائل القرن 4 هـ/10م، يستظهرون بالعامة للتخريب على أخصامهم. فبنوا في بغداد مسجداً، وجعلوه طريقاً للمشاغبة على الشيعة والشافعية. فكان العميان في المسجد يضربون أي شافعي حتى يكاد يموت.
*لما خرجت المغرب من أيدي الفاطميين، في العام (440 هـ/1046م)، لم يقتصر البلاء على المذهب الشيعي فقط، بل شمل مذهب الأحناف السُنِّيين أيضاً.
*ولن ننسى دور الحشاشين الإسماعيلية، (تأسست في العام 487هـ/1094م)، في ملاحقة خصومها، واغتيالهم، من الخلفاء العباسيين وغيرهم.
*القرار القادري، الذي أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، في العام 408هـ/1014م، وينص على إلزام كل الفرق الإسلامية، والمتكلمين، والفلاسفة، باتِّباع قراره تحت طائلة الاتهام بالردة.
*تيار الباحثين عن الفرقة الناجية من النار، من أهل السُنَّة والجماعة، وأشهرهم: عبد القاهر البغدادي (ت في العام 420هـ/1037م)؛ وابن حزم الأندلسي (ت في العام 456هـ/1073م)؛ والشهرستاني (ت في العام 548هـ/1098م)؛ وهم الذين وزَّعوا التهم على الفرق الإسلامية بالتبديع والتضليل والتكفير. ولم ينج عندهم سوى أهل السُنَّة والجماعة.
*وجاء الغزالي (450-505هـ/1058-1111م) ليعمل على إثبات أن أهل الكلام والفلسفة هم من أهل البِدَع.
*وأخيراً وليس آخراً، يأتي دور ابن رشد (520-595هـ/1126-1198م)، الذي تمَّ تكفيره، وأُحْرِقَت كتبه، ونُفِيَ إلى خارج مدينته.
ومنذ أواخر القرن ال6هـ/12م، أُصيب الشرق الإسلامي بالجمود بعد أن انتصر الأشاعرة، فالغزالي، فالنصوصيون/أتباع أحمد بن حنبل.
يروي ابن الجوزي، الحنبلي، (ت في العام 597هـ/1200م)، عن الشافعي أنه قال:”لئن يُبْتَلى العبد بكل ما نهى الله عنه عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام”. وعن أحمد ابن حنبل: “لن يَصْلُح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة”.
في مرحلة انتصار النقل على العقل الفلسفي في الشرق الإسلامي، كان الغرب المسيحي ينقل عن الفلسفة الإسلامية-العربية، فيبدأ رحلته بالانفتاح على العقل.
III – ما هي المسافة التي تفصل بين الشرق (الإسلامي) والغرب (المسيحي).
1-الشرق (الإسلامي) يُصاب بالجمود في داخل دائرة الرِدَّة.
ما إن اتَّسعت دائرة الدولة الإسلامية إلى خارج بيئة الجزيرة العربية حتى وُضِعَت، وجهاً لوجه، أمام معضلات جديدة؛ فكان من الواجب على العقيدة الإسلامية أن تجد حلولاً لها؛ فانقسم المسلمون حول ذلك إلى فريقين: أهل الحديث، الذين حسبوا أن في الكتاب والسُنَّة من الحلول للمشاكل ما يكفي حاجة المسلمين، وليس هناك أي شيء غامض فيهما. أما أهل الرأي فحسبوا خلاف ذلك. فوقع الصراع بين الفريقين.
برزت الحاجة إلى علم الكلام بعد أن لاحظ المسلمون – ومنهم الفقهاء والمُحَدِّثون الأوائل، والذين مع تمسكهم الصريح بحرفية النص – المفارقات المنطقية الواضحة ما بين النص وإشكاليات التفسير والتنسيق، التي اضطُرُّوا إلى إثارتها. فاشتدَّت الخصومة وعَنُفَت بين المتحدثين والمتكلمين، فنحا المتكلمون منحىً عقلياً، ونحا المتحدِّثون منحىً نقلياً. ثم أخذ كل فريق يُعيب على الآخر، فتعادوا وأكفر بعضهم بعضاً.
اشتدَّت الحاجة إلى الرأي كلما تكاثرت متطلبات العصر، ومنها على الخصوص المجابهة مع الوثنية والمسيحية في دمشق وبغداد من جهة، والمسائل الأخلاقية والشرعية التي أثارتها السلطة الإلهية المطلقة على العالم كما ارتسمت في القرآن، وصلتها بالمسؤولية المترتبة على الأعمال الإنسانية من جهة أخرى. وكانت محاولة التوفيق بين ما هو متعارض من نصوص القرآن من جهة ثالثة. فشكَّلت هذه الأسباب الباعث الأساس لنشوء علم الكلام في الإسلام.
واقتضت الحاجة اللجوء إلى ضروب من التفسير المجازي، مما دعا إلى المزيد من التبحُّر، فشكَّل دافعاً إلى نقل الفلسفة اليونانية. ومن هنا نشأ صراع آخر بين الذين سعوا لإخضاع نصوص الوحي إلى تدقيق النظر الفلسفي، وبين الذين عزلوا أنفسهم عزلاً تاماً عن الفلسفة.
لم يَرُقْ تدخُّل الفلسفة، في شأن العقائد الدينية، للفقهاء والنصوصيين، إلى درجة أن الذين حاولوا التوفيق بين العقل والنقل – بين الفلسفة والإسلام – تعرَّضوا إلى الاتهام بالكفر والزندقة والسفسطة. فحصل صراع آخر بين أهل الشريعة وأهل الفلسفة، السبب الذي دفع بالكندي وابن رشد – مثلاً – للهجوم على من أطلقوا عليهم أعداء الفلسفة والأغبياء وتجار الدين.
تعرّضت الفلسفة إلى الهجوم من التيارات النصوصية والسلفية، ومن الأشعرية من جهة، و الغزالي من جهة أخرى، اللذين حسبا أنه لن يقف على فساد الفلسفة إلا من يتبحَّر فيها. فردَّت الأشعرية، من موقع مؤسِّسها السابق في صفوف المعتزلة واكتسابه مهاراتهم في علم الكلام. وردَّ الغزالي – من موقع الفيلسوف، كما يحسب – أغاليط الفلاسفة؛ فأوجب تكفيرهم ومقاضاتهم بالحدود الشرعية، التي تنص على معاقبة المرتدِّين عن الإسلام.
تقريباً، في أواخر القرن 6هـ/12م، أخذ الانحطاط يدبُّ في جسد الأمة؛ وقد ساعدت على ذلك العوامل الذاتية، التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية: كالأمية والفقر والاضطهاد المادي والمعنوي (الاتهامات المُتَبَادَلة بالردة عن الدين بين شتى الفرق الإسلامية، وملاحقة المتكلمين والفلاسفة بمثل تلك الاتهامات…). ولعبت العوامل الثقافية الدينية القائمة على التسليم والتقليد دوراً مماثلاً. ولا يخفى، أيضاً، دور العوامل السلطوية السياسية… والاستقواء بالعامة في حسم الصراعات المذهبية…
وهكذا يُؤرَّخ، منذ القرن 6هـ/12م، لبدء نهاية الحضارة العربية-الإسلامية. وتُعَدُّ نقطة تحوِّلٍ تاريخية؛ فقد حُسِم الصراع لصالح التيار المحافظ الخائف من الاشتغال بعلوم الأقدمين… ولم يعد الاشتغال بالعلوم مسموحاً به به، باستثناء الطب والحساب. فتابع التيار الديني طريقه من خلال الفقه والتصوف.
يقول محمد أركون إنه يُؤرَّخ لتاريخ الجمود بموت ابن رشد: “لكن ليس ابن رشد هو وحده الخاسر الأكبر في هذه المعركة [بين الفكر الفلسفي والنقل الأصولي] وإنما المجتمعات العربية والإسلامية بأسرها، فهي لا تزال تدفع ثمن هزيمة الفكر حتى هذه اللحظة”.
2-الغرب (المسيحي) يعبر محنة الرِدَّة مستفيداً من إنتاج العقل العربي – الإسلامي.
ملَكَت الكنيسة وحدها العلم في أوروبا في خلال ثمانية قرون. وكان اللاهوت هو المسيطر على مدى كل العصور الوسطى. قال أنسلم – أحد اللاهوتيين –(1033-1109م/423-501 هـ): إن الفلسفة صادمة للاهوت، بمعنى أن العقل يجب أن يُسَخَّر للدفاع عن الإيمان. وقد دافع أنسلم دفاعاً مجيداً عن الكنيسة؛ فكان لا يرغب في شيء سوى التفكير والصلاة. وكان الإيمان عنده هو الحياة، وكان يقول – كما يقول سلفه أوغسطين: “لست أسعى للفهم كي أعتقد، بل إنني أعتقد لكي أفهم”. لذا باءت بالفشل كل المحاولات في الغرب لإقامة فلسفة مستقلة عن الدين.
لقد كان من المحتَّم أن تثير نهضة الفلسفة، في القرن 11م/5هـ، معارضة النُسَّاك الذين يرون أن الحياة المسيحية المُؤسَّسة على الإيمان تقتضي جهداً مستمراً نحو الكمال. وإن تبرير العقيدة بحجج العقل إنما هو إسراف غير مفيد لوقت ثمين. ولذا فمن الأفضل أن يُبْحَث، عند تأمل الكتاب المقدَّس، عن غذاء أخلاقي معنوي يغذِّي الروح.
لكن موجة الشك الفلسفي كانت تتنامى. فهذا وليم الكوشي (1080-1154م/471-547هـ) يهاجم الذين يقاومون العلم والفلسفة قائلاً: “هم لا يُطيقون أن يبحث غيرهم شيئاً ما؛ ويريدون منا أن نؤمن كما يؤمن السُذَّج والهمج من غير أن نسأل عن السبب، لكي يكون لهم رفاق في الجهالة…”.
جاءت الكتب المتتابعة – العربية واليونانية – في القرنين 12-13م/6-7هـ، بما تتضمنه من فلسفة تحمل أفكاراً جديدة لتحمل تحدِّياً للأفكار المسيحية، وهي تختلف عنها. فأصبح اللاهوت المسيحي مُهَدَّداً إذا لم تُنْشئ المسيحية فلسفة مناهضة لها.
وعلى الرغم من الموقفين المتناقضين بين اللاهوتيين والفلاسفة، كان لا بُدَّ للفلسفة من أن تُسْتَخْدَمَ سلاحاً لتدعيم اللاهوت؛ وكأننا بتوما الأكويني (1225-1274م/620-670هـ) يُقلِّد الغزالي باستخدام سلاح الفلسفة للردِّ على الفلاسفة. فتعرَّض الأكويني إلى هجمات زملائه الرهبان، الذين لم يثِقوا بالعقل، ويرفضون قوله إنه يمكن التوفيق بين أرسطو والمسيحية.
لم يُفلِح الأكويني في التوفيق بين الدين والفلسفة، لكنه: “وهو يحاول هذا التوفيق كسب للعقل نصراً مؤزَّراً سيدوم على مدى الأيام. فقد قاد العقل أسيراً إلى قلعة الدين، ولكنه قضى بانتصاره على عصر الإيمان”.
يُعَدُّ القرن 13م/7هـ قرن تأسيس الجامعات في شتى مدن أوروبا. ورافق هذا التأسيس حركة ترجمةٍ واسعة إلى اللاتينية، وكانت معظمها تَتِمُّ من اللغة العربية. وأصبحت الترجمة مُنْتَظَمَة تتناول شتى حقول المعرفة. فعرف الغرب ابن سينا وابن الهيثم والكندي والفارابي والغزالي… أما الترجمات، التي ستلعب الدور الأهم، فهي ترجمة شروحات ابن رشد لكتب أرسطو. فشكَّلت التفسيرات الطبيعية للظواهر صدمة لكل التراث الفكري الحضاري الذي بناه الغرب في خلال ثمانية قرون، كانت الكنيسة فيها تملك وحدها العلم. ومن تلك اللحظة خُلِق في الغرب صراع بين نصٍّ مُقَدَّس وعلم وثني، بين علم مُكَرَّس بأكمله لدفاع عن اللاهوت وعلم لا يأخذ بعين الاعتبار إلا نور العقل.
أحدث هذا التطور هزَّةً في داخل العقل الغربي؛ ومع أن الكنيسة الكاثوليكية كانت تحمل أسباب الهجوم عليها من قِبَلِ اللاهوتيين والفلاسفة على حدٍّ سواء، بسبب من أخطائها الكثيرة، ولهذا بحث آخر، فقد اتَّخذت وسائل دفاعية عن نفسها، وكان من أهمها: تفعيل دور محاكم التفتيش، والاتجاه نحو الإصلاح الديني.
فأما تفعيل دور محاكم التفتيش فقد كان سيفاً ذا حدَّين، لأن المذاهب المسيحية استخدمته ضد بعضها البعض، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً.
أما الاتجاه نحو الاصلاح الديني فقد شقَّ الكنيسة الكاثوليكية في داخل أوروبا ذاتها، بعد أن كانت قد انقسمت على نفسها، سابقاً، بين شرقية وغربية.
كان من أهم اللاهوتيين، الذين أحدثوا شرخاً في الكنيسة، هو مارتن لوثر (1483-1546م/855-950هـ). فوجئ لوثر بالأخلاق المنحلَّة لرجال الكهنوت الكبار عندما قصد روما، في العام 1510م، فعزا، في العام 1515م، ما أصاب العالم من فساد إلى رجال الكهنوت، ووجَّه اللوم إلى المبشِّرين بصكوك الغفران لاستغلال سذاجة الفقراء. ولهذا قال في العام 1520م: “إذا كنا نقضي على اللصوص بالمشانق، ونُلقي الهراطقة في النار، فلماذا لا نهاجم أيضاً بالأسلحة أساتذة الدمار، أعني هؤلاء الكرادلة وهؤلاء الباباوات، ونغسل أيدينا في دمائهم”.
وكما وجد لوثر مؤيِّدين لآرائه، فقد وجد محاربين ضدَّها. فاتُّهِم بالخروج على النظام، وبالهرطقة. وطُلِب منه أن يسحب أقواله وأراءه إلا انه رفض ذلك.
كان لوثر، في الواقع، محافظاً ورجعياً في السياسة والدين، بمعنى أنه كان يريد أن يعود بالناس إلى المعتقدات والرسائل الأولى في القرون الوسطى. فهو، في العام 1530م، ينصح – في تفسيره للمزمور الثاني والثمانين – الحكومات بإعدام كل الهراطقة الذين ينادون في عظاتهم بإثارة الشغب ومناهضة المُلْكِيَّة الخاصة، وقال: “إن هؤلاء يعارضون في تعاليم مادة واضحة في العقيدة”؛ ولذا وُصِف لوثر بأنه أصبح بابا آخر.
تضافرت جهود الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستنتية، وأحياناً بمساعدة من الدولة والعامَّة من الشعب، وفظائع محاكم التفتيش، في الانتصار على العلم والفلسفة.
في واقع الأمر لم يستسلم العلم والفلسفة لكل الضغوطات، فلم يتجاوز التاريخ حدود القرن 18م/12هـ، إلا وقد حصل تطوران: إنهيار النظام الاقطاعي القديم، والانهيار الوشيك للدين المسيحي، الذي أضفى على ذلك النظام سنده الروحي والاجتماعي. فقد كانت الدولة والجين مُرْتَبِطَين برباط المعونة المُتًبادَلَة، وبدا أن سقوط الواحد يجُرُّ الآخر إلى مأساة مًشْتَرَكَة.
سجَّلت إنجلترا الفصل الأول في تاريخ التغيير. فهي قد سبقت فرنسا بماية وسبعة وأربعين عاماً في خلع أرستقراطية إقطاعية. أما في مجال الدين، فقد سبق نقد الربوبيين (الذين تحدُّوا كل شيء في المسيحية إلا الإيمان بالله) للمسيحية حملة فولتير (1694-1778م/1103-1189هـ) في فرنسا بنصف قرن. ولهذا قال فولتير: “في فرنسا ينظر الناس إليَّ على أنني مُقِلٌ في الدين، وفي إنجلترا على أنني مُسْرِفٌ فيه”.
لقد تضافرت عوامل عديدة على تقويض صرح العقيدة المسيحية في إنجلترا، ومنها: صعود الأحزاب السياسية – إزدياد الثروة – دولية الأفكار بفضل التجارة والسفر – الإلمام المتزايد بالأديان والشعوب غير المسيحية – تكاثر الملل المسيحية وتبادل النقد فيما بينها – تطور العلم – الدراسة التاريخية والنقدية للكتاب المُقَدَّس – كفُّ الدولة عن رقابة المطبوعات – مكانة العقل الصاعدة – المحاولات الجديدة للفلسفة في تفسير العالم والإنسان تفسيرات طبيعية – حملة الربوبيين لاختزال المسيحية إلى مجرد الإيمان بالله والخلود….
ومن أمثلة الهجوم الذي تعرَّض له اللاهوت المسيحي ما قاله الفيلسوف الإنجليزي ماتيو تاندال، في العام 1730م: “لِمَ أعطى الله وحيه لشعب صغير واحد هم اليهود، وجعله حِكْراً عليهم أربعة آلاف سنة؟ ثم أرسل إليهم ابنه بوحي آخر ما زال بعد ألف وأربعماية سنة مقتصراً على أقلية من الجنس البشري… وأي إله رهيب هذا الذي عاقب آدم وحواء على طلب المعرفة، ثم عاقب كل ذراريهم لمجرد أنهم وُلِدوا؟… و لِمَ استخدم الكهنة وسطاء له بدلاً من أن يتحدَّث مباشرة إلى نفس كل إنسان؟ و لِمَ سمح بأن يصبح دينه الموحى به لشعب بعينه أداة اضطهاد وإرهاب؟…”؛ ويستطرد ماثيو قائلاً: ” إن الوحي الحقيقي موجود في الطبيعة ذاتها، وفي عقل الإنسان الممنوح من الله…”.
أما في فرنسا، فقد التبس – في النصف الأول من القرن 18م/12هـ-تعريف الفلسفة كمفهوم مُعادٍ للمسيحية، لآن كثيرين من فلاسفة فرنسا كانوا مُعادين للمسيحية كما عرفوها.
إلا أنه ينبغي أن نأخذ بعين الحسبان حقيقة أن الفيلسوف قد يعارض الديانات القائمة من حوله. ومع ذلك – كما كان فولتير – يتمسَّك إلى النهاية بالإيمان بالله.
لم يكن الجدل مجرد صراع بين الدين والفلسفة، بل كان في فرنسا – بالدرجة الأولى – بين الفلاسفة والمذهب الكاثوليكي المسيحي، كما عُرِفَ في فرنسا آنذاك. إنه الغيظ المكظوم في قلوب الفرنسيين لقرون طويلة من جرَّاء ما لطَّخت به الديانة سِجِلَّها من الوقوف في وجه التقدُّم والمعرفة والاضطهادات والمذابح….
– كيف كانت الكنيسة الفرنسية في خلال القرن الثامن عشر؟
كانت الكنيسة تملك نصيباً كبيراً من الثروة الوطنية، فهي كانت: لا تدفع الضرائب – تسترقُّ آلاف الفلاحين –واستنكرت، على أنه هرطقة، كل تعليم يتعارض مع تعليمها – بذلت غاية الجهد في خنق التنمية الفكرية – إرتكبت الحملات الوحشية والمذابح – وفوق هذا كلِّه حملت الملايين، من ذوي العقول الساذجة، على الاعتقاد أنها فوق العقل والريبة والمساءلة، وأنها ورثت وحياً إلهياً. وأنها ممثل الله، على الأرض، المُلْهم المعصوم عن الخطأ. وإن جرائمها كانت بإرادة الله مثل حسناتها.
فالفكر الفرنسي المُتَحَرِّر تخطى الإصلاح الديني، وقفز طفرة واحدة من عصر النهضة الأوروبية إلى عصر الاستنارة… فالذهن الفرنسي لم ينعطف، بثورته، إلى البروتستانت، بل انعطف مباشرة إلى ديكارت….
أصبح في مقدور الإنسان – منذ النصف الثاني من القرن 18م – أن يُحَرِّر نفسه من معتقدات العصور الوسطى. كما أصبح في مقدوره أن يهِزَّ كتفيه استخفافاً باللاهوت المُرْبِك المُرْعِب… حرَّاً في أن يشك، وفي أن يحقق ويُدَقِّق، حرَّاً في أن يفكِّر ويجمع ألوان المعرفة وينشرها. حرَّاً في أن يقيم دنيا جديدة حول مذبح العقل لخدمة البشر….
قال ديدرو، في العام 1747م: “إن الناس يرهبون القوانين الحالية [للكنيسة] أكثر مما يخشون نار جهنَّم الأصلية، والإله الذي لا يرونه”؛ لكنه استطرد قائلاً: “بأن الإيمان بوجود الله سيبقى”.
وهذا فولتير، الذي حصلت في عصره حوادث قتل كثيرة لغير الكاثوليك، يقول غاضباً: “إسحقوا العار”. ودعا أصدقاءَ ه قائلاً: ” وحِّدوا أنفسكم واقهروا التعصب والأوغاد، واقضوا على الخُطَب المُضَلِّلة والسفسطة المُخْزِيَة والتاريخ الكاذب… لا تتركوا الجهل يُخْضِع العلم،؛ سيُدين لنا الجيل الجديد بعقله وحريته”. ويستطرد قائلاً: ” إن الإنسان الذي يقول لي آمن كما أؤمن أنا، وإلا فإن الله سيعاقبك، سيقول لي آمن الآن كما أؤمن وإلا سأغتالك”.
ولما كانت أوروبا المتعلِّمة تتطلع إلى فرنسا لمعرفة آخر النظريات والآراء، وصلت مؤلفات الفلاسفة الفرنسيين إلى إنجلترا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وألمانيا وروسيا….
وانتصر العقل في أوروبا، منذ القرن 18م، في الوقت الذي كان فيه العقل العربي – الإسلامي، بعد هزيمته منذ القرن 12م/6هـ، غائباً عن مسرح الصراع السياسي والفكري والأيديولوجي، مستسلماً لواقع الحكم العثماني، أكثر العصور الإسلامية ظلاماً وظلماً… وكان قد أفسح المجال أمام هيمنة السلفية – الدينية، حيث كان الفكر السلفي مسيطراً بكل ثقله ومتاعبه على الساحة الدينية الإسلامية مُتحَمِّلاً وزر التبرير لما كان يحصل من ظلم سياسي واضطهاد اجتماعي…
هذه أوروبا، والغرب عامة، تشهد الآن أكثر العصور التاريخية للإنسانية تقدماً وحضارة تكنولوجية، وهي أكثر المناطق إنتاجاً للفكر في شتى وجوهه الفلسفية والسياسية والاجتماعية… وسواء كنا نرفضه أو نتقبَّله، فإنه يكفيه شهادة – وبدون أية مكابرة تعصبية منا – أنه يُنتِج فكراً وعلماً من دون أية عوائق من التكفير والتفسيق و التبديع…
فسواءٌ التقينا مع هذا الفكر أم رفضنا بعضه أم كله، فله من الجميل علينا أنه بنى للعقل – نعمة الله على البشر –صرحاً ثابتاً… أما نحن؟ فعلى أية مسافة نقف من الغرب؟ وعلى أية مسافة نقف من الاعتراف بحرية العقل؟
إجتاز الغرب مسافة الردة عن الدين، وها هو اليوم ينعم بعطايا الله سبحانه وتعالى. أما نحن، فما زلنا نعيش ونحيا في زمن الردة وعقوباتها، ولا نحظى من نِعَمِ الله بما يحظى به الغرب؛ لكننا ننكبُّ – متدينين وغير متدينين، قابلين بحضارة الغرب أو رافضين لها كليَّاً أو جزئياً – على استهلاك إنتاجه بشراهة لا مثيل لها.
IV – هل هناك علاقـة بين حريـة العقل والتقدم؟
من منطلق الفكر الفلسفي، نُحيل معالجة هذه الإشكالية إلى عقل النظريين من أصحاب الفلسفة، كي يأخذوا دورهم الجاد والجدِّي في الإضاءة على ملابساتها. وإننا لا نظن، أبداً، أن الساحة الفكرية العربية، والساحة الفكرية الإسلامية، هما صحراء قاحلة جدباء، بل فيهما من الغيث الشيء الكثير… وفيهما ما يوحي بمساحات خضراء مملوءة بالأمل والترقُّب… لكن على الغيث والأمل – كجوهرين موجودَين بالقوة – أن يصبحا موجودَين بالفعل…
إننا لن نلجأ إلى اختيار نماذج من هذه المساحات، كما فعلنا في أثناء بحثنا عن تاريخ الفكر في الغرب، وإنما كل ما نستطيع أن نقوله في هذه العجالة – من منطلق البحث عن الجذور المعرفية الفكرية الفلسفية، وبمنهجية البحث الاجتماعي عن الظاهرة في وضعيتها الراهنة وفي جذورها التاريخية، هو أن هناك ظاهرتان تاريخيتان بارزتان، وهما:
– ظاهرة الغرب “المسيحي”، الذي – بعد أن اجتاز مسافة الردة عن المسيحية – شقَّ طريق العقل المستنير، فمهَّد الطريق لثورة حضارية تكنولوجية، وثورة فكرية في السياسة والاجتماع والاقتصاد… على أنقاض نظام قروسطي كان قد أخذ على عاتقه مهمة إصلاح الدين والدنيا، فشوَّه الدين ولم يكسب الدنيا…
-ظاهرة الشرق “الإسلامي”، الذي لم يَعْبُرْ- بعد – مسافة الردة عن الدين، بل لا تزال الردة سيفاً مُسَلَّطاً على رقاب العقل… فهو حتى الآن لم يحقق للأخلاق قاعدة تكون صالحة للعبور إلى حياة أخروية سعيدة، وفي الوقت ذاته لم يبنِ للدنيا ما يحقِّق لها حضارة تؤمِّن لها الرفاه والسعادة حتى بحدهما الأدنى…
فبين الظاهرتين نلمح أن انقلاب العقل على مُسَلَّمات اللاهوت المسيحي في الغرب لم يؤدِّ إلى عقوبات إلهية للمجتمع الغربي. وبين تمسُّك الأصوليين الإسلاميين، بعد أن انتصر النقل على العقل منذ ثمانية قرون، لم يؤدَّ إلى مكافآت إلهية للمجتمع الشرقي.
فإذا كان العقل في الغرب قد سجَّل انتصاراً على مسيحية القرون الوسطى، فإن الدين المسيحي لم يُسجِّل هزيمة لأن هزيمة الدين لم تكن مطلوبة على الإطلاق. وإن ما كان مطلوباً هزيمته هي حالة الظلام في عدد من المفاهيم الدينية وليست حالة الضوء فيها.
يقول خليل أحمد خليل: “بصراحة نحن لا نقول بشراكة ممكنة بين عقلين ديني وعلمي، كما شاء التوفيقيون، بل نقول إن لكل منهما حقله وبذاره وعُدَّة عمله ونتاجه…”.