رنا قباني: القدس
كان محمود قد أعطي فيزا لمدة 24 ساعة فقط لدخول واشنطن من نيويورك، حيث حضر جلسة من جلسات الأمم المتحدة بشأن فلسطين. كانت الفيزا التي تدخل حاملها الى منطقة مبنى جامعة الأمم، ليست لها علاقة بيروقراطية بالفيزا الأمريكية العادية، التي تدخل الى باقي أمريكا، التي كانت لها شروطها شبه التعجيزية لأي شيوعي قديم. وسبب حاجة هذا الشاعر للنوع الثاني من الفيزا لدخول العاصمة الأمريكية واشنطن، كانت الدعوة التي وجهتها له جامعة جورجتاون العريقة، لكي يقرأ شعره هناك.
أبلغتني صديقة مصرية عن موعد القراءة ومكانها، وطلبت مني أن اصطحبها الى هناك، لانها كانت تحب طالبا من يافا، وكانت متأكدة أنها ستراه لو حضرنا. لم أعرف ماذا أفعل: لم أرد خذلان صديقتي الهائمة بالغرام، ولكن، في الوقت نفسه، لم أرد ان أتأخر عن درس الرواية الفيكتورية التي كانت جزءا من دوامي. فاتفقت معها أن أوصلها الى المكان، وأجلس في الصف الأخير لعدة دقائق، ثم انسحب بسرعة وصمت.
هكذا فعلنا. ولكن هجم القدر وأخذ شكل يد سمينة تذرب من العرق، هي يد كلوفيس مقصود الذي تمنطق بذراعي وشدني بعنف الى المقعد الأمامي مواجه محمود درويش. كنت حينها بوهيمية الهوى، أنتعل صندلا مخمليا بكعب عال، بلون البنفسج، وأظافر أصابع قدمي مطلية باللون الأسود. ربما كان ذلك رد فعل على تقاليد تلك الجامعة «الجيزويت» المسيحية التقليدية جدا، حيث كان المدرسون والدارسون فيها يحاولون الاختفاء وراء لباس رسمي باهت لا يدل على أي حرية شخصية.
في اللحظة التي جلست أثناءها، كانت عينا محمود تحدقان بالأسود الطاغي المتنافر مع بياض جلدي. كان ينظر بفضول واستغراب، وحين رفع عينيه، وجد انني أمسكته متلبسا بالنظر إلى ساقي، فضحكت. حينها، بدأ هو الآخر بالضحك اللا ارادي، ثم التثاؤب من دون توقف، محاولا ضبط نفسه لأنه كان على وشك إلقاء الشعر.
بدأ بقراءة «قصيدة الارض»:
« في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض
أسرارها الدموية. في شهر آذار مرت أمام
البنفسج والبندقية خمس بنات. وقفن على باب
مدرسة ابتدائية، واشتعلت مع الورود والزعتر البلدي.
افتتحت نشيد التراب. دخلن العناق النهائي – آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض يأتي، ومن رقصة الفتيات –
البنفسج مال قليلا
ليعبر صوت البنات. العصافير مدت مناقيرها
في اتجاه النشيد وقلبي»
كان وقع هذه الأسطر انفجارا حسيا لأعصابي. لم يكن محمود درويش معروفا آنذاك في العالم الأنكلوسكسوني، ولم تكن له ترجمات إلى اللغة الانكليزية. فالقاعة كانت شبه فارغة، والحضور تألف من بعض الطلاب العرب، الذين، مثلي أنا، حفظوا «سجل أنا عربي» في صفوفهم الاعدادية في أوطانهم الأصلية، وبعض الأصدقاء والسفراء العرب.
حين انتهى من القراءة، طلب منه شاب مغربي أن يقرأ قصيدة «سجل» قال له محمود الذي كان دوماً يصر على إجبار جمهوره أن يلحقوا به كلما تغير وتطور شعريا، بقليل من العصابية: «سجل أنت؛ فأنا سجلت!».
حينها، قمت لأذهب الى ما تبقى من محاضرتي، فوجدت حاتم حسيني، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، يناديني باسمي لأعود، لأن محمود كان قد نزل عن المنصة ماشيا باتجاهي، تاركا وراءه المعجبين الذين أرادوا توقيعه على كتبه.
«أنا مضطر لمغادرة واشنطن في الصباح الباكر لأعود إلى بيروت، فهل تريدين مني أن آتي بأي شيء لعمك نزار؟».
شكرته وابتسمت وقلت: «نعم، أوصيك بإيصال هاتين القبلتين لخدي عمي الحبيب» ثم قبلت محمود بعفوية على وجنتيه. فاحمر وجهه خجلا. سألني هل يمكنك مرافقتنا إلى العشاء؟ فقلت: «لا، لأن أهلي بانتظاري في البيت».
فرد: «اسمحي لي بسؤالك على انفراد للحظة». ابتعدنا عن الجمع لمدة خمس دقائق، فقال مباشرة: «هل تقبلين الزواج مني؟» أجبت بنعم، أقبل الزواج منك، فقال: «علينا اذا أن نتزوج فورا، لنذهب إلى باريس، وننتظر فتح مطار مدينة بيروت حيث أسكن».
أخرج من سترته ورقة بيضاء وبقلمه «الباركر» قسمها نصفين، ووضع اسمينا في أعلى كل قسم، وقال لي اكتبي ما تحبين في الحياة تحت اسمك، وأنا سأكتب في خانتي ما أحب. طلبت منه أن يبدأ. فكتب ما يلي: «عصا الراعي، غروب الشمس في الجليل، القطط، الحذاء الايطالي الناعم الملمس، الأزعر موتزارت، الغتيار الإسباني، قصص تشيكوف، قيلولة بعد الغداء، صدف البحر، سمك السلطان ابراهيم المقلي».
ثم أعطاني الورقة، فكتبت: «الفل المطبق، الورد الشامي الجوري، رائحة زهر الياسمين عند المساء، صوت الآذان في حي الشاغور، الأوركيد البري، المحيط الهندي والبراكين التي تحيط به، شجر الموز والمطر الاستوائي، القطط، ثم القطط، ثم القطط».
حينها، ذهبنا إلى جامع واشنطن وكان قد وصل إليه بعض الأصدقاء وأهلي، فسألني محمود: «ما هو مهرك؟».
قلت «مهري هو الحرية، فلا أريد منك سوى عصمتي بيدي».
لا أظن أنه فهم ما معنى العصمة، فقبل مباشرة، وزوجنا الشيخ، وبدأنا رحلتنا الأولى معا، التي دامت تسعة أشهر.
بعد ساعات كنا على طائرة فرنسية، متوجهين إلى باريس، حيث كنا نعرف أن عز دين قلق كان بانتظارنا في المطار.
حينها كنت في الثامنة عشرة من عمري.
رنا قباني