شهدت المغرب حالة من الجدل الإعلامى على مدار الأيام الماضية، بعد مشاركة الدكتور زغلول النجار، عضو مؤسس للهيئة العالمية للإعجاز العلمى فى القرآن والسنة النبوية، فى المؤتمر العالمى الرابع للباحثين فى القرآن الكريم وعلومه الذى نظمته مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) بشراكة مع الرابطة المحمدية للعلماء، فى الفترة بين 13 و15 أبريل الجارى.
وألقى «النجار»، محاضرتين خارج إطار المؤتمر، الأولى فى كلية العلوم والتقنيات بجامعة سيدى محمد بن عبدالله بفاس، والثانية بقصر المؤتمرات فى مدينة مكناس.
ورفض مثقفون مغاربة حضور «النجار»، مشيرين إلى أنه «حين يحل بكلية للعلوم والتقنيات شيخ يزعم أن أبوال البعير تعالج أمراض السرطان، ويعتبر ذلك من إعجاز الإسلام وبراهين صدقه، فاقرأ على جامعاتنا وعلى البحث العلمى وعلى الوعى والثقافة بهذا البلد ألف سلام وسلام»، وفق ما ذكره رئيس مركز الميزان للوساطة والدراسات والإعلام، محمد عبد الوهاب رفيقى.
ما تقرؤه هنا كلمات تدخل إلى مساحة هذا الرجل برفق، تروى قصته منذ ظهوره فى القرن الماضى، وتعرج على آرائه ومشروعه.
1_ البداية من «نور على نور».. وصفحة أسبوعية بـ«الأهرام»
استجاب فى البداية لمذيع القناة الثالثة وقتها عاصم بكرى، ظهر معه فى عدة حلقات، لم يلتفت له خلالها أحد، ربما بسبب المذيع الذى كان يتحدث أكثر من ضيوفه، وربما بسبب الضيف الذى لم يكن تدرب بعد على مواجهة الكاميرات.
الفرصة الكبرى جاءت إلى زغلول النجار تسعى، عندما استضافه الإعلامى الكبير الراحل أحمد فراج فى برنامجه الشهير «نور على نور».
بعد شهور من هذه اللقاءات، قابلت فراج فى بيته بالجيزة، كنت قد وصفته بأنه «صانع الأساطير» فقد كان هو نفسه، وفى نفس البرنامج من أطلق الشرارة الأولى للشيخ الشعراوى، حيث استضافه فى نهاية السبعينات فى حلقتين، لفت انتباه الجميع خلالهما، لينطلق بعد ذلك فى رحلة تفسيره للقرآن، وظل اسم أحمد فراج المذيع الشهير يتردد فى كل مرة يأتى فيها الحديث عن بدايات الشيخ الشعراوى.
كان فراج قد استضاف زغلول النجار فى حلقتين، ومنحه مساحة كبيرة للحديث، أعاد تقديمه للناس، وكانت المفاجأة أن نجمه علا ربما بما لم يتخيله فى يوم من الأيام، وكان طبيعيا أن ينتقل من شاشة التليفزيون إلى كل مكان فى مصر، طاف المحافظات جميعها، لم يترك جامعة إلا وعقد فيها ندوة، دخل كل النوادى، استضافه الأثرياء فى ندوات خاصة فى قصورهم وأجزلوا له العطاء.
قلت لأحمد فراج: يعتقد الناس أنك أعدت تجربة الشيخ الشعراوى مرة أخرى من خلال زغلول النجار، فهل يمكن أن تتكرر التجربة؟.
بهدوء شديد كان معروفا عن المذيع الكبير، قال: مستحيل بالطبع، ليس لأن التجارب لا تتكرر، ولكن لأن الدكتور زغلول لا يملك ما كان يملكه الشيخ الشعراوى، هو عالم لديه تفسير للآيات الكونية، سيفرغ مما لديه سريعا، وبعد ذلك لن تكون لديه بضاعة يقدمها للناس.
لم يدع زغلول النجار مطلقا أنه جاء ليحل محل الشيخ الشعراوى، بل على العكس فى واحد من أحاديثه الصحفية قال: أنا فين والشيخ الشعراوى فين، لقد كان الرجل صاحب عطاء واسع وعلم غزير، وفيما يتصل بتفسير القرآن، وهو حجة فى اللغة، وفيما يتعلق بالتفسير العلمى للقرآن، فأنا أرى أنه يبرز من بين مسلمى كل عصر نفر من علمائه يقومون بتفسير كلام الله، يحيطون علما باللغة وأصولها ونواصيها وبالناسخ والمنسوخ وبالمأثورات من أحاديث الرسول الكريم، ولا أرى حرجا فى توظيف الآيات الكونية فى مجال التفسير العلمى بمنطق النظرية والفرض، بحيث إذا أصاب العالم فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد».
لم يقل زغلول إنه سيخلف الشعراوى فى شىء إذا، لكنه فى النهاية لم يغادر حديثه حتى قال إنه مختار لمهمة بعينها، وترك للناس تفسير هذه المهمة، فهو من جاء لينقل تفسير القرآن نقلة علمية هائلة.
كان أحمد فراج يتحدث بمرارة عن زغلول النجار، حاولت أن أعرف منه ماذا جرى؟، لكنه كان عف اللسان، رفض أن يخوض فى حديث يمكن أن يفسر على غير ما يقصد، فاحترمت رغبته.
كانت جريدة «الأهرام» قد خصصت صفحة أسبوعية يكتب فيها زغلول النجار ما أطلق عليه الإعجاز العلمى للقرآن، وهى الصفحة التى جرت عليه وعلى «الأهرام» مشاكل كثيرة، حيث أخذ منها منبرا ومنصة صواريخ ضد الأقباط، حيث طعن فى دينهم وكتبهم وسخر من كتابهم عندما وصفه بأنه «المكدس».. وليس المقدس، وتعاقدت معه عدة دور نشر، لإصدار أجزاء من تفسيره.. وبعد أقل من عامين، كان قد تبدد كل شىء.
2_ فلسفة صاحب «وهم الإعجاز العلمى» فى التعامل مع القرآن
مثل زغلول النجار فى مساحة القرآن الكريم ليس أكثر من موضة أو تقليعة، تأخذ وقتها ثم سرعان ما تنتهى.
لن أصادر على ما فعله بالطبع، من حقه أن يشرحه لنا، يقول لنا ماذا كان يريد بالتفصيل.
من جملة أحاديثه التليفزيونية والصحفية ومقالاته وتفسيراته، يمكن أن نسجل الآتى:
أولا: مصطلح الإعجاز العلمى للقرآن ليس جديدا، فقد تحدث علماء التفسير منذ القدم، ولكن المعرفة بالكون ومكوناته لها طبيعة تراكمية، بمعنى أنه كلما زادت ملاحظات الإنسان فى الكون، وزادت تجاربه واستنتاجاته، زاد معرفة بهذا الكون.
ثانيا: لم تكن المادة العلمية المتوفرة لعلماء التفسير فى القرون الماضية كافية لإعطاء الإعجاز العلمى للقرآن حقه كأحد أشكال تفسير القرآن الكريم، لكن الآن تعيش البشرية عصر العلم، عصرًا تتضاعف فيه المعرفة العلمية مرة كل 4 أو 5 سنوات، وتتضاعف تقنياتها مرة كل 3 سنوات، وأصبح لدى العلماء معرفة بالكون ومكوناته تسمح بأن يقدموا خدمة لكتاب الله لم تتوفر لعلماء التفسير من قبل.
ثالثا: هناك فرق بين التفسير والإعجاز العلمى، ففى مجال التفسير، يتم التعامل مع القرآن من خلال توظيف اللغة وتوظيف أسباب النزول، وتوظيف المأثور من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فى تفسير الآيات لاستجلاء ما قالته فى القضايا الأساسية فى الدين وهى قضايا العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات.. وهى القضايا التى تمثل صلب الدين.
أما الإعجاز، فينصرف إلى قضايا العلم فى القرآن، أو إلى الآيات الكونية، التى جاءت بألفاظ محدودة ومحددة، يفهم منها أهل كل عصر معنى معينا، وتظل هذه المعانى تتسع فى تكامل لا يعرف التضاد، وإذا حدث ووقع خطأ يظهر شيئا من التناقض، فهو خطأ المفسر.
رابعا: يمكن بلورة الأمر بشكل أكثر دقة، فالمقصود بالتفسير العلمى هو محاولة فهم دلالة الآيات الكونية فى كتاب الله فى إطار المعرفة العلمية المتاحة للعصر، ولا حرج أن يوظف فى هذه الحقائق القطعية الثابتة، كما يوظف الفروض والنظريات، لأن التفسير يبقى محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآيات القرآنية، بشرط أن يكون الإنسان لديه الشروط اللازمة للتعرض للتفسير، وهى فهم اللغة العربية وأسرارها وقواعدها وضوابطها، وفهم أسباب النزول، وفهم الناسخ والمنسوخ، وفهم المأثور من أحاديث الرسول، وفهم لجهود المفسرين السابقين، تم قدرته على توظيف المعارف المتاحة فى زمانه لإضافة بعد جديد للقرآن الكريم.
خامسا: يحدث الخلط أحيانا، لأن بعض الذين تعرضوا للتفسير العلمى ليست لديهم خلفية علمية، وحقيقة الإعجاز العلمى أننا نريد أن نثبت للناس – مسلمين وغير مسلمين – أن هذا القرآن الذى نزل على نبى أمى قبل 1400 سنة، فى أمة غالبيتها الساحقة من الأميين، يحكى من الحقائق بهذا الكون، ما لم يتوصل الإنسان إلى إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين.
سادسا: هناك من يسعى إلى تهييج عواطف الناس من خلال الحديث عن آيات الإعجاز فى القرآن، وهذا خطأ كبير، لأن القرآن لا يحتاج إلى التكلف أبدا.
3_ التحرش بالمسيحيين ومحاولة إشعال فتنة طائفية
كان الدكتور زغلول النجار صادقا فيما قاله، لكن فيما يبدو أن الرجل لم يكن مؤهلا بما يكفى للتصدى إلى هذه المهمة، ولذلك كان عمره قصيرا جدا، قال ما عنده، ولما فرغ منه، تفرغ للحديث فى عموميات، جرت عليه المشاكل، استغل أن اسمه أصبح علامة مسجلة، فخاض فى قضايا عامة، وكانت النتيجة دخوله فى معارك كثيرة، وتحديدا مع المسيحيين، فهو بالنسبة لهم الآن واحد ممن تحرشوا بهم، وحاولوا إشعال الفتنة الطائفية.
4_ السير على طريق عبدالله شحاتة
الشاهد فيما جرى أن زغلول النجار لم يأت بشىء جديد، فهناك آخرون كانوا أوسع منه علما وأرسخ قدما، وإذا طالعت فقط كتاب «آيات الله فى الكون» للدكتور عبدالله شحاتة فستعرف الكثير.
لقد اتجه بعض المفسرين اتجاها علميا متخصصا فى تفسير بعض الآيات العلمية والكونية، ومنهم الفخر الرازى فى تفسيره الكبير، فهو يتحدث طويلا عن خلق السماء والأرض ونظام الأفلاك وعلم الهيئة، على نحو ما كان معروفا فى عصره بمناسبة كلمة مفردة تتحدث عن السماء والأرض.
وفى العصر الحديث سار فى هذا الاتجاه الأستاذ الشيخ طنطاوى جوهرى فى تفسيره «الجواهر»، الذى حشد فيه معلومات واسعة عن علوم الكون والحياة وطبقات الأرض، وزين كلامه بصورة متعددة لما يكتب عنه.
وفى مقابل هذا تجد من العلماء من يحذر من هذا المنهج، ويعيب الاتجاه العلمى فى التفسير، ويرى أن القرآن الكريم كتاب هداية يبشر المؤمنين وينذر الكافرين، وقد أنزله الله هدى ونورا ورحمة للعالمين، ومن هؤلاء الإمام الشاطبى فى «الموافقات»، حيث ذهب إلى أن القرآن يجب أن يفهم على نحو ما أنزله الله للعرب المخاطبين به أول مرة.
وهناك اتجاه وسط يرى أن القرآن الكريم كتاب هداية بالدرجة الأولى، ولكنه مع ذلك حوى عددا من الأدلة العلمية والمعجزات الكونية، وقد أمرنا الله أن نخاطب الناس بلسانهم، وباللغة التى يفهمونها، ومن هذا البيان شرح بعض الآيات وبيان ما تشير إليه أو ما اشتملت عليه من إعجاز علمى أو كونى.
هل نصل إلى الشيخ محمد مصطفى المراغى، شيخ الأزهر، الذى يعد واحدا من التنويريين الكبار فى تاريخنا الفكرى، كان يقول إنه لا يجب ألا نجر الآية إلى العلوم كى نفسرها، ولا العلوم إلى الآية، ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسرناها بها.
طلب منه أحدهم أن يكتب مقدمة لكتابه «الإسلام والطب الحديث».. فلم يرفض، مدح المؤلف وأثنى على جهده، وأثبت فى الوقت نفسه أنه لم يوافق على مسلكه فى تفسير آيات القرآن وتحميلها ما لا تحتمل.
كان من بين ما قاله: «لست أريد من هذا – يعنى ثناءه على الكتاب ومؤلفه – أن أقول إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلا بالأسلوب التعليمى المعروف، وإنما أريد أن أقول إنه أتى بأصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به، ليبلغ درجة الكمال جسدا وروحا، وترك الباب مفتوحا لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة، ليبينوا للناس جزئياتها، بقدر ما أوتوا منها فى الزمان الذى هم عائشون فيه». بهذا المسلك المعتدل استطاع الشيخ المراغى أن يوفق بين القرآن الكريم والعلم الحديث فى تفسيره لبعض سور القرآن الكريم تفسيرا دينيا توجيهيا يحمل أصول التوجيه والإصلاح لنظم الحياة وإدارتها، فكان يخاطب بتفسيره الملوك والحكام ويدعوهم إلى العدل والشورى والمساواة ويحثهم على مكارم الأخلاق والعمل النافع.
5_ الكتابة عن القرآن بـ«تعال مبالغ فيه»
الفارق بين الدكتور عبدالله شحاتة والدكتور زغلول النجار، أن الأول كتب عن القرآن بتواضع شديد، أما الثانى فكنت تشعر فيه بتعال مبالغ فيه، لم يكن إلا ناقلا من الغرب وعنه ما توصل إليه من إنجازات واكتشافات، لكنه كان يتحدث وكأنه من توصل إلى هذه الاكتشافات، وعندما يدلل من القرآن بآيات تشير إلى أنه سبق الغرب فيما توصلوا إليه، يشير إلى ذلك وكأن القرآن آياته الخاصة، ومن صنعه هو، وربما كان هذا سببا من أسباب نفور الناس منه وانصرافهم عنه.
لقد لخص عبدالله شحاتة فلسفته فيما يتعلق بتفسير الآيات الكونية.
قال: «إذا تأملت كلمات القرآن وأجلت بصرك بين سطوره، وجدت أنه يشتمل على بيان كثير من آيات الله تعالى، فى جميع أنواع المخلوقات، من الجماد والنبات والحيوان والإنسان، ويصف خلق السماوات وشمسها وقمرها ونجومها، والأرض والهواء والسحاب والماء، من بحار وأنهار وعيون وينابيع، وفيه تفصيل لكثير من أخبار الأمم، وبيان لطريق التشريع السوى الأمثل، ثم عجزت هذه القرون التى ارتقت فيها جميع العلوم والفنون أن تنقض بناء آية أو تبطل حكما من أحكامه أو تكذب خبرا من أخباره، وهى التى جعلت فلسفة اليونان دكا، ونسخت شرائع الأمم نسخا، وتركت سائر علوم الأوائل قاعا صفصفا، ووضعت لأخبار التاريخ قواعد فلسفية، ورجعت فى تحقيقها إلى ما عثر عليه المنقبون من الآثار العادية، وحكمت أصول العمران وسنن الاجتماع، بحيث لم يتبق للعلماء الأوائل غير كتاب غير منقوض، وظلت أخبار القرآن وتشريعاته وعلومه وفنونه خالدة باقية، وذلك سر أسرار الإعجاز فى القرآن، فإن الله تكفل بحفظه وخلوده».
6_ جناية زغلول النجار فى حق «كتاب الله»
لم يكن للمفسرين العلميين على اختلاف هوياتهم ومسالكهم ورغباتهم هدف إذا إلا التأكيد على أن القرآن الكريم معجزة كاملة تتجاوز المكان والزمان، لكنهم دون أن يدروا وقعوا فيما يمكن تسميته جناية كاملة على العلم، فقد سخروا منه، وسخروا ممن عملوا، تعاملوا مع كل صاحب إنجاز على أنه لم يقدم للبشرية شيئا، فما توصل إليه موجود فى القرآن الكريم.
المفارقة أن من يفعلون ذلك يفتخرون بأنفسهم، ويتعاملون على أنهم مميزون، رغم أن المميز الوحيد هو القرآن، الذى لم يكن لأمثال هؤلاء فضل لا فى كتابته ولا فى حفظه.
هل تريدون الحق؟
إن كل من حاول التقريب بين القرآن والعلم، ليثبت أن القرآن حق ومعجز وسابق وسباق، ليس إلا متطفلا على كتاب الله، أخذ منه طريقا ليبنى مجده هو، كان يمكن أن نفتخر بعالم أو مفسر لو أنه خرج بالنظرية من القرآن أولا، ثم صدرها للعالم بعد ذلك، لكن أن ينتظر الآخرين ليعملوا وينجزوا، ثم يخرج ليعايرهم بما لم يفعل، فهؤلاء هم المتنطعون حقا.