اعتادت المجتمعات العربية على التهرب من مواجهة الحقيقة والواقع .. إما بالقبول وإما بتجميله .. وإما بالتغطية عليه في ذات الوقت الذي لا تتوقف فيه عن الدعاء للحلول والحلم بظهور قائد جديد يمحو مشاكلها وينقلها بسحره لما تتطلع له من حلول لمشاكلها .. العجز وفقدان الإرادة والبصيرة هما وللأسف السمة والصفة المتوارثة للمجتمعات العربية ؟؟؟ الموضوع الذي سأطرحة اليوم جزء من واقع مجتمعاتنا ولا يمكن غض النظر عنه . لأنه يمس الضمير الأخلاقي لنا كبشر ؟؟
أثبتت الإحصائيات في السنوات الماضية عن وجود عدد لا ُيستهان به من مجهولي النسب يعيشون بيننا محرومون من دفء العلاقات الأسرية . وحيدون في مجتمع قاس ولا يرحم تجذرت مفاهيمه على رفضهم مجتمعيا لأنهم أبناء حرام ؟؟؟ ثم أضافت الحكومات العربية الرشيدة إلى معاناتهم بقوانين تزيد من عزلتهم ولا تمت للعقل ولا للضميرالإنساني .. برغم توقيعها على إتفاقات ومعاهدات دولية للحفاظ على حقوق الأطفال .. وحقوق الإنسان . إلا أن تحفظاتها على مواد متصله بهذا الموضوع في تواقيعها ُينقص من شان توقيعها ولا ُيلزمها قانونيا .. ..
إحصاءات ماضيه قبل 2-3 سنوات تؤكد وجودهم ..
فحسب تقرير “بي بي سي ” في إبريل عام 2014 هناك مليوني طفل في مصر – ووفقا لإحصائية وزارة الشئون الإجتماعية السعودية هناك ما يزيد عن 4000 – وهم أيضا موجودون في الأردن والجزائر والسودان وبالتأكيد في باقي كل الدول العربية .. وأجزم بأن عددهم الآن أكثر من هذا بكثير .. وتتوحد قوانين الدول العربية كلها في كيفية التعامل مع هذه الفئة المعروفة بمجهولي النسب وإن تجمّلت باللغة وبغموض اللغة في موادها .. ولكنها تتوحد في إعتبارهم ناقصي الأهلية . لا ُيؤخذ بشهادتهم في المحكمة . وُمحرّم عليها الإلتحاق بالقضاء أو دراسة القانون او الإلتحاق بالخدمة العسكرية ؟؟؟؟
في آخر زيارة لي لمصر الحبيبة .. أخذتني صديقتي لأحد الملاجىء الذي يأوي ما يقرب من 25 طفل من مجهولي النسب .. لا أدري فيما إذا كانت هذه الدار تتلقى شيئا من الدولة سوى زيادة عدد القادمين من مجهولي النسب المتروكون على حافة الطرقات او على مدخل الجامع أو في سلة القمامة ؟؟؟؟؟؟ .. ولكن ومن تواضع الحال يبدو أنها تعتمد في معيشتها على ما يتقدم به ميسوري الحال ..
أكّد لي المشرف على تلقيهم للعناية والمحبة في الدار .. وبأنهم يعيشون حياة طبيعية ما بين المدرسة والدار كأي أطفال آخرين .. وربما يصيب أحدهم الحظ بمن يتكفل بنفقات تعليمة الجامعي .. ولكن وفي كل الأحوال فإنهم يخرجون من الدار بعد إنتهاء دراستهم المدرسية ..ليواجهوا جحيم الشارع وقسوة المجتمع .. أضف إلى ذلك أنهم وفي الأردن ُيعطون رقما وطنيا خاصة يدل على انهم بلا نسب .. وُيعطون إسما عائليا غير معروف ليسهُل التعرف عليهم .. وُحرم عليهم إنتقاء إسم عائلة أخرى بعد وصولهم سن الرشد والخروج من الدار – الملجأ ؟؟
صديقتي التي أخذتني لم ُتنجب وأنا واثقة من أنها أحد ممولي هذه الدار .. ولكن التراث الثقافي المصري ونار المجتمع الذي يبحث دائما في الماضي والذهنية المجتمعية التي تتناقل الأمثال الشعبية البالية مثل “”يامربي في غير ولدك . يا باني في غير ُملكك “” ترفضهم على أنهم أبناء زنا لأهمية النسب ومنع التبني .. مجموعها ما حرم كلاهما , صديقتي التي تموت شوقا للأمومة .. وطفل يحتاج إلى حضن يحمية …
المشكلة ليست في إعاشتهم المادية .. المشكلة الكبرى التي تواجههم حين يخرجوا إلى الفضاء العام .. وحين تتواطأ الدولة في زيادة وحدتهم النفسية في حرمانهم من النمو الطبيعي للإنسان .. بحرمانهم من حمل إسم عائلة يختارونة بأنفسهم ليعطيهم شيء من الأمان النفسي .. وُتضيف إلى ذلك بإعطائهم أرقاما وطنية ُتبين أنهم ُلقطاء ولا نسب لهم .. محرومون من كل الحقوق حتى حرية الرأي ؟؟؟
المجتمع لن يتغير بدون زلزال من القوانين تعمل إنقلابا في المفاهيم الخاطئة وتهز من ضميره الجمعي .. خوف المسؤولين من تغييرات إيجابية لصالح المجتمع ولصالح هذه الفئة منه, أصبحت وفي القرن الحادي والعشرين ضرورة لأنسنة مجتمعاتنا , ولإكتساب إحترام العالم لنا كبشر.
تعديل قانون العقوبات الذي يمنع المرأة من الإجهاض خاصة في حالات ممارسة الجنس خارج إطار الزواج في علاقات لا ذنب لها فيها كسفاح القربي والإغتصاب .. متلازما مع الإعتراف العلني بأن لا ذنب لهذا المولود .. وفتح باب التبني الحقيقي وإعطاء الإسم للمتبنى هي الطريق الصحيح لصحوة ضميرنا الجمعي ..
أعلم أن النسب ُيعتبر من أهم مقاصد الشريعة .. خوفا من إختلاط الأنساب … ولكني أؤمن أيضا بأن الدين لا يريد للإنسان والمجتمع من حوله سوى الخير ومن المستحيل أن يكون ظالما للإنسان.. وأعرف أيضا أن من مقاصد الشريعة الرحمة والعدل والمساواة .. وأعرف أيضا أن هنا الفحص الطبي “دي ان ايه” الموثوق فيه للتأكد من صلة القرابة .. والأهم أنه ليس هناك من تحريم صريح لنسب الشخص لغير الأب البيولوجي مما يفتح الباب لتغيير نظرتنا وقوانينا عن التبني لأجل مستقبل أفضل للأبرياء..
أنا لا أدافع عن العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج .. لأني أعتبرها شأن خاص لأصحاب العلاقة. ولكني أدافع عن حق الإنسان الذي لا ذنب له في الولادة .. وحقه في الحياة كأي إنسان طبيعي .. فمن المستحيل أن نستمر في السير بعكس القيم الدولية التي تحمي كرامة الإنسان مهما كان وأينما كان ..
حتى اللحظة لا زلت اذكر مسلسل الفنان القدير يحيى الفخراني “” للعدالة وجوه كثيرة “” سنة 2001 للكاتب مجدي صابر .. والذي تطرّق إلى مشكلة مجهولي النسب وقسوة المجتمع عليهم , التي أجبرت جابر مأمون نصار ( يحيى الفخراني ) المجهول النسب على الكذب وإنتحال إسم عائلة معروفة في قرية بعيدة ساعد أهلها وبنى فيها بعد نجاحه كرجل أعمال بسمعته الطيبه وصدق معاملاته .. إلا أن سوء حظه ان تحدث جريمة قتل تستدعي التحقيق معه بحيث تكشف كل ماضية.
المصدر ايلاف