الشرق الاوسط
ليس بين من عرفتهم في حياتي رجل تفوق قدرته على تجنب قول الحقيقة ما يمتلكه الدكتور بشار الجعفري، ممثل النظام الأسدي في الأمم المتحدة، فهو يمتلك قدرة على مجافاة الحقائق لا مثيل لها.
وكنت قد تعرفت عليه ذات يوم في ندوات كانت تعقد أسبوعيا في دمشق ضمن إطار ما كان يعرف يومئذ بـ«المنتدى الحضاري»، ووجدت فيه شخصا مستقلا نسبيا وصاحب تفكير نقدي إلى حد ما، كان يقر خلال نقاشاتنا بعيوب النظام وأخطائه. وقد أهداني أطروحة الدكتوراه التي كان قد أعدها حول العلاقات الأميركية السورية. ذات مساء، سألته إن كان بعثيا فانهال على البعث نقدا وتجريحا، لذلك اعتقدت أنه سوري يعمل في خدمة الدولة وليس أجيرا لدى النظام. واليوم، أعتقد جازما أن من كان يرسله إلينا هو جهاز الأمن، وأن قدومه إلى الندوات كان للتجسس علينا وتمكين النظام من اصطيادنا، نحن المعارضين الذين كنا نحضر تلك الأمسيات.
والآن، وأنا أستمع مكرها إلى بشار الجعفري، لا يسعني إلا أن أستغرب سماكة جلده وموت أي إحساس إنساني في قلبه، ونشفان روحه، وجلافته واحتقاره لحياة السوريين، وقدرته على عزو جرائم نظامه إلى المدافعين عن الشعب، وتجاهله وقائع قاهرة يستحيل لمن كانت لديه ذرة ضمير إنكارها أو القفز عنها.
في إحدى خطبه التي دافع فيها عن النظام في الأمم المتحدة، أورد أبياتا للشاعر نزار قباني يتغنى فيها بياسمين دمشق. استفظعت الأمر حتى أنني أغلقت التلفاز وعاهدت نفسي إن أنا رأيت الجعفري أن أذكره أن الشاعر كتب قصيدته خارج سوريا، لأنه كان ممنوعا من العودة إليها طيلة ربع قرن، وأنها كتبت لإدانة نظام الأسد الذي اتهمه بقتل زوجته بلقيس، التي يشبهها بالياسمين الدمشقي. كما كنت سأذكره بما حدث عندما توفى الله الشاعر وجيء بجثمانه إلى دمشق، وكيف استولى الأمن على نعشه كي لا يأخذه الدمشقيون في مشوار تودعه خلاله المدينة التي عشقها وأخلص لها، وتنقلب جنازته إلى مظاهرة شعبية ضد النظام، بعد أن انضم إليها مئات آلاف المشيعين الذين تقاطروا من جميع أنحاء البلد، وغنوا وهزجوا للمرجة وطالبوا بتزيينها كما كان يحدث في الأعراس قبل حكم البعث.
هذا النهج في استخدام استغلال الخصوم وتحويلهم إلى عكس ما كانوا عليه، للإيحاء بأن السوريين لا يمكن أن يكونوا غير أتباع للنظام، استعملته النازية والفاشية قبل الجعفري، الذي وصل في تشويه الحقائق إلى تفوق جلي على أسلافه النازيين والفاشيين، وها هو يقدم النظام القاتل كضحية لمؤامرة عربية وكونية، ويحول قتلته المحترفين إلى ضحايا مجرمين محترفين، يعتدون على جنود دراويش كل ذنبهم أنهم يتنزهون بدباباتهم في الشوارع ويطلقون النار يمينا وشمالا، ويثيرون نعرات طائفية أطفأها النظام طيلة نصف قرن، بجعل معظم جيشه وأمنه من طائفة واحدة، ويقتلون المدنيين، الذين تحميهم السلطة، لكنها قتلت منهم بالصدفة قرابة مائتي ألف، وشردت وهجرت داخل سوريا وخارجها سبعة ملايين منهم، وعذبت ولاحقت واغتالت مئات آلاف الشابات والشبان، لحمايتهم من الموت بيد الأصوليين الأشرار!
وقد شاء سوء طالعي أن أستمع إلى آخر كلمة ألقاها الجعفري أمام الجمعية العامة، فلم أجد من هو أكثر منه مجافاة للحقيقة غير مندوب روسيا، الذي عزف مثله على وتر الإرهاب، من دون أن يقول، مثله، كلمة واحدة عن مجازر وقعت في بانياس ارتكبها بالأمس القريب مرتزقة أتراك جندهم نظام يرى في قتل شعبه ضربا من الرأفة به. أليس موت الإنسان أفضل من أن يعارض حكومته أو يطالبها بحريته وكرامته؟
يبرع النظام الأسدي في فن خاص، يقوم على «نرفزة» من يستمعون إلى قادته. والحق أن خطبة الجعفري لم تكن تنرفز السوريين وحدهم، بل كانت تستفز العالم، عندما ساوت بين بشار الأسد وما سمته «سيادتنا الوطنية». بالأمس القريب، كان الكذب هو الحقيقة الوحيدة التي تقدم للسوريات والسوريين.
واليوم، لم يعد أحد يصدق تخريف الجعفري أو يستمع إليه. ويقول السوريون بحق عن خطابات هؤلاء: «مجنون يحكي وعاقل يفهم». أليس من الجنون المطبق أن يتحدث مندوب نظام قتل وشرد نصف شعبه عن أن هدف سادته الوحيد هو حريته، وأن يدعو ممثليه إلى الحوار مع جلاديه القتلة بشروطهم؟