بشكل عام، من الصعب الاختلاف مع السيّد الأخضر الإبراهيمي الذي كان حتّى نهاية أيّار ـ مايو الماضي الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لجامعة الدول العربية في سورية. ففي تقويمه للوضع السوري نتيجة الجهود التي بذلها طوال عامين بحثا عن حلّ سياسي، رأى وزير الخارجية الجزائري السابق أن «الصراع لن يبقى داخل سورية… وثمّة خطر جدّي من أن تنفجر المنطقة بأسرها».
لا يمكن إلّا التوقف عند كلّ كلمة تصدر عن الرجل، الذي اقترب من الثمانين، نظرا إلى خبرته الطويلة والعميقة في كل ما له علاقة بالديبلوماسية والسياسة.
قبل كلّ شيء، إن الأخضر ليس ابن البارحة في السياسة وفي التعاطي مع الأزمات، خصوصا أنّه سبق له أن عمل مع الأمين العام للأمم المتحدة في شأن ملفات كثيرة، بينها أفغانستان والعراق واليمن… وحتى هايتي، كما كان مكلّفا، عربيا، ايجاد تسوية في لبنان في مرحلة الإعداد لمؤتمر الطائف وفي مرحلة ما بعد توقيع اتفاق الطائف واصرار ميشال عون، قائد الجيش وقتذاك، على التمرّد والبقاء في قصر بعبدا بصفة كونه رئيسا لحكومة موقتة مهمتها محصورة بالإعداد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
يعتبر الإبراهيمي من المعتادين على كيفية التعاطي مع شخصيات ضيّقة الأفق مثل ميشال عون أو غيره أو ما شابهه. لكنّ ذلك لا يمنعه من قول كلام صريح، بل صريح جدا في بعض الأحيان. الدليل اشارته في حديثه إلى مجلة «در شبيغل» الألمانية الى أنّ «دولا عدّة اساءت تقدير الأزمة السياسية إذ توقّعت انهيار حكم الرئيس السوري بشار الأسد كما حصل مع بعض الزعماء العرب الآخرين وهو خطأ تسبّبت (هذه الدول) في تفاقمه بدعم جهود الحرب بدل جهود السلام». هنا يحاول المبعوث السابق للأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لجامعة الدول العربية توزيع اللوم في استمرار المأساة السورية وليس حصره في النظام وفي اصراره على الانتصار على شعبه.
اراد باختصار الظهور في مظهر الديبلوماسي المحايد الذي لا يتجاهل أنّ هناك من يدعم الثوّار، أي الشعب السوري، على غرار دعم ايران وروسيا النظام في عملية ذبح ثورة شعبية حقيقية، ما كانت لتستمرّ لو لم تكن كذلك.
قد يكون كلام الإبراهيمي دقيقا كما قد لا يكون. لكنّ ثمة نقطة مهمّة، بل محورية في الحديث، يفترض التوقّف عندها. تتعلّق هذه النقطة بالتخوّف من أن تصبح سورية «دولة فاشلة» يديرها زعماء ميليشيات على غرار الصومال، ما يشكّل خطرا جسيما على مستقبل الشرق الأوسط.
متى كانت سورية دولة ناجحة، حتى تصبح «دولة فاشلة»؟
كي تصبح سورية دولة فاشلة، لابدّ من أن تكون المقارنة مع نجاح ما في مرحلة ما. الكلام هنا لا يتناول الشعب السوري الذي خرج منه مئات آلاف الناجحين من اطباء ومهندسين وعلماء ورجال الأعمال منتشرين في كلّ انحاد العالم، بما في ذلك لبنان. في لبنان، بعض أفضل المصرفيين والتجار ووكلاء الشركات الكبيرة والصناعيين أو متعهدي اقامة مشاريع بناء، مواطنون سوريون أو من أصول سورية.
كان الفشل رديفا للكيان السوري منذ الاستقلال. كان الشعب السوري باستمرار الضحية. لم يتغيّر شيء في سورية كي يصبح في الإمكان الحديث عن دولة فاشلة والوصول إلى مقارنة بين الوضعين السوري والصومالي حيث لم يعد وجود لا لدولة ولا لنظام منذ اطاحة محمّد سياد برّي في العام 1991.
هل صدفة أنّ الانقلاب العسكري الأوّل في دولة عربية مستقلّة كان في سورية؟ كان الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم في العام 1949 فاتحة عهد الانقلابات العسكرية التي أدّت لاحقا إلى كوارث في مصر والعراق وليبيا والسودان والجزائر…وصولا إلى موريتانيا والصومال.
ليس طبيعيا الكلام عن الخوف من أن تتحوّل سورية إلى دولة فاشلة. حيث حصل انقلاب عسكري، صارت هناك دولة فاشلة تتاجر في معظم الأحيان بفلسطين والفلسطينيين والقضية الفسطينية. ما نشهده اليوم في سورية هو تتويج للفشل، أو على الأصحّ لتراكم الفشل الذي كان على كلّ المستويات. سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. هل من فشل أكبر من هرب الحكم في سورية إلى الوحدة مع مصر في العام 1958؟ ما مقوّمات تلك الوحدة باستثناء حكم سورية عن طريق نظام أمني سعى إلى مدّ تجربته الخرقاء إلى لبنان…
ليس الفشل وليد اليوم في سورية. من أمّم الشركات الصناعية والتجارة كان يزرع بذور الفشل في سورية. من أمّم الأراضي الزراعية بدل العمل على تطويرها وتطوير العلاقات بين المزارعين واصحاب الأرض، إنّما كان يعمل من أجل افقار سورية ونشر البؤس فيها.
هذا غيض من فيض ما فعلته الأنظمة المتلاحقة في سورية منذ الاستقلال وصولا إلى الحكم الطائفي الذي صار في أيّام بشار الأسد حكم العائلة الواحدة المرتبطة بعلاقات عضوية مع ايران ومع ميليشيات مذهبية في لبنان والعراق تحت شعارات «المقاومة».
لا شكّ أن الأخضر الإبراهيمي حاول توجيه رسائل عدّة في اتجاهات مختلفة تأكيدا لدوره كوسيط نزيه يتمتّع بالكفاءات التي يفترض أن يتحلّى بها ممثل للأمين العام للأمم المتحدة. ولذلك، كان تركيزه الدائم على عدم تجاهل ايران أو روسيا لدى البحث عن حلّ. وهذا أمر طبيعي عندما يكون الوسيط الدولي سياسيا محترفا. كذلك، كان في غاية الدقة عندما لاحظ أنّ النظام السوري ما كان ليرسل وفدا الى مؤتمر جنيف الأخير لولا أنّه كان يريد استرضاء موسكو.
عرض الأخضر الإبراهيمي خلاصة تجربته السورية، علما أنّها ليست المرّة الأولى التي يتعاطى فيها مع النظام الذي يعرف اللبنانيون كم هو فاشل منذ حاول حكم الوطن الصغير والحاقه به عن طريق التخويف وإرهاب المواطنين، خصوصا المسيحيين منهم، مستخدما المسلّحين الفلسطينيين.
كان عرضه من خلال «در شبيغل» أكثر من مفيد، على الرغم أن من الظلم المساواة بين الدورين السعودي والإيراني في سورية. فالسعودية، على الرغم من بعض المآخذ، تحاول مساعدة الشعب السوري، فيما ايران تريد مساعدة نظام على استعداد لتحويل سورية مجرّد دولة مُستعمرة واقليما ايرانيا يؤمن بأنّ لا مستقبل له من دون وجود شيء اسمه حلف الأقلّيات.
لا خوف اطلاقا على سورية من أن تصبح «دولة فاشلة». الخوف كلّ الخوف من تراكم الفشل المستمر منذ ما يزيد على ستة عقود، وهو فشل يأخذ حاليا شكلا جديدا عبر انبعاث الغرائز المذهبية التي تراهن عليها ايران من أجل انجاح مشروعها الإقليمي القائم على امتلاك كلّ ما تقع عليه يدها من أوراق للتفاوض مع اميركا واسرائيل من موقع قوّة…
نقلاً عن “الراي”
www.alraimedia.com/Articles.aspx