قبل ثلاثة أيام، تحدثت في «ملتقى الأديان والثقافات» عن المطران جورج خضر شخصيةً وفكرًا. ولا علاقة للمطران التسعيني بالانتخابات البلدية بالطبع، لكنّ المناسبة أنه من طرابلس، وأنه يملك رأيًا قديمًا وطريفًا في الفروق بين «عوام» السنة والشيعة. قال لي عام 1998 أو 1999 بمناسبة زيارة للرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى البقاع (كان محظورًا عليه من السوريين زيارة طرابلس والشمال!) وخروج السنة جميعًا لاستقباله: إنّ عوام الشيعة يخضعون لزعمائهم دائمًا، في السابق للسياسيين، واليوم للسياسيين والدينيين. أمّا عند السنة (وفي متابعة لتاريخ طرابلس على مدى خمسين عامًا) فإنّ زعماء السنة يضطرون في النهاية إلى اتّباع عوامِّهم، فإنّ أبَوا أعرضوا عنهم احتجاجًا، فإنّ لم يعودوا تركوهم نهائيًا. ألا ترى أنهم وقفوا ضد الرئيس صائب سلام في الستينات لأنهم اعتبروا أنه عارض جمال عبد الناصر، فلمّا تعرض له العهد الشهابي بالاستبعاد، عادوا إليه؟
هذا الاستطراد الطويل، كان المقصود به التقديم لفهم ما جرى في انتخابات طرابلس البلدية من انقلاب؛ إذ لم ينجح من اللائحة التوافقية التي شاركت فيها كل القوى السياسية والاجتماعية المستقرة وعلى رأسها تيار المستقبل، غير 8 من 24. وكان الرئيس سعد الحريري قد سلك في طرابلس مسلكه في مدينتي الأكثرية السنية الأُخريين: بيروت وصيدا. فقد سعى جاهدًا لتشكيل لوائح توافقية تضم معظم قوى المدينتين السياسية والاقتصادية.
لقد تعرض الجمهور السني منذ عام 2005 تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وفي طرابلس على وجه الخصوص إلى استنزافات هائلة. فقد سلّطوا عليه علويي بعل محسن بميليشياتهم التي ما كان يدعمها النظام السوري فقط، بل و«حزب الله» أيضًا. وجمعوا القوى الميليشياوية السابقة تحت العنوان الإسلامي (مثل جبهة العمل الإسلامي، ثم سرايا المقاومة!) بداخل المدينة، للإخلال بأمن الناس، وإثارة الجبهات كلما هدأت في فترات الهُدَن القصيرة. وزاد الضغط على فقراء الناس في أحياء البؤس التقليدية والمستجدة، لأن الجيش والقوى الأمنية الأخرى كانت منتشرةً فيها بكثافة، وداخلة في الفتنة أيضًا، في حين ما انتشرت في بعل محسن مثلاً لمنع التفجير من الطرفين. وجاء إسقاط حكومة سعد الحريري وإقامة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (وهو طرابلسي ومع ستة وزراء سنة!) فازداد التفجير ضد المدينة، رغم أنّ السلطة والقرار في الحكومة كانا خالصين لـ«حزب الله» وحلفائه ومنهم وقتها ميقاتي وجنبلاط وبري ورئيس الجمهورية ميشال سليمان. وانفجرت الثورة السورية فوجد فيها شبان الأحياء الفقيرة متنفَّسًا، فتعاظمت التظاهرات المؤيِّدة للثورة، وتعاظم القبض والاعتقال والضرب والتعذيب على أولئك الذين يقعون في قبضة مخابرات الجيش والأمن العام لأدنى سببٍ أو ذريعة.
ووقتَها أيضًا، وإلى جانب ذهاب شبان إلى سوريا للقتال مع الثورة، ووقوع أكثرهم في قبضة الأجهزة اللبنانية والسورية (التي كانت ولا تزال تنسِّق فيما بينها)، وقتَها أعلن التذمر السني عن نفسه بظاهرة أحمد الأسير بصيدا. وبعد قرابة العام من التظاهرات والاعتصامات بصيدا وبيروت، والتي شارك فيها الأسير وأنصاره، وبينهم طرابلسيون وفلسطينيون من شبان المخيمات، جرى استدراج الأسير إلى معركةٍ مع الجيش (وجرى القبض عليه بعد شهور من الواقعة وهو يحاول الهرب مسافرًا متنكرًا، وهو منذ ذلك الحين في زنزانة تحت الأرض بسجن الريحانية التابع للجيش، ولا محاكمة!)، تبين بنتيجتها أنّ المقصود كان احتلال «حزب الله» لصيدا، مثلما احتلّت بيروت وأُخضعت طرابلس.
إنّ كلَّ هذه الظواهر، إلى تدفق اللاجئين السوريين بعشرات الأُلوف ثم بمئاتها على المناطق السنية في البقاع والشمال والجنوب وبيروت، دفعت الرئيس سعد الحريري إلى الدعوة لتشكيل حكومة توافقية مع «حزب الله» والآخرين، يكون رئيسها تمام سلام ابن الرئيس صائب سلام. وكان المرجو من وراء حكومة التوافق أن تستطيع التأثير في حماية الناس، وإنهاء الحرب على طرابلس وعرسال، والمجيء بوزراء فاعلين عاملين بدلاً من البقاء بالخارج. إضافة إلى إمكان التوافق على رئيس جديد للجمهورية.
أما الحوار الثنائي بين تيار المستقبل و«حزب الله» المستمر لنحو السنتين فلم ينتج شيئًا. وأما الحكومة فقد تعطلت بعد فترة ولا تزال تتكأكأ إلى الدرجة التي أعلن رئيسها نفسه قبل أيام أنها أفشل حكومةٍ عرفها في حياته (!). بالطبع أجرت الحكومة بعض التعيينات غير المكتملة، وقدمت بعض الخدمات، وجاهدت في جمع المساعدات من أجل اللاجئين السوريين. بيد أن أهمَّ ما أنجزته الخطة الأمنية التي أخمدت الاضطراب في طرابلس. وقد شكا وزير الداخلية مرارًا أنها لم تسر إلاّ في طرابلس، وعطّلها «حزب الله» في سائر المناطق. لكن ماذا جرى في طرابلس في سياق الخطة الأمنية بالفعل؟ لقد جرى القبض على مئات المسلحين (من السنة طبعًا، وليس من العلويين!)، وهدأت الأحياء الفقيرة بعد اقتحامها، وما تعرض أحد لمسلَّحي بعل محسن، في حين أعلن عن هرب زعمائهم إلى سوريا. إنما الأهم من ذلك أنّ الذين قُبض عليهم في حدثّي طرابلس وقبلها عبرا (في صيدا) لا تزال كثرةٌ منهم في السجون دون محاكمة حتى الآن، ويُضاف لذلك المئات والمئات من طرابلس والبقاع وعرسال الذين يدخلون المعتقلات كل يوم، ومعظمهم بتُهم الإرهاب. وقد صار معتقل الريحانية مثلاً في زنازينه وتعذيبه، بحيث أطلق عليه المتندرون في طرابلس اسم: غوانتانامو لبنان!
وبالطبع أيضًا وأيضًا؛ فإنّ أهمَّ ما فشلت فيه الحكومة ومجلس النواب معًا هو انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد مضى على الفراغ حتى الآن أكثر من سنتين!
بعد هذا الحديث الطويل عمّا تعرض له السنة واللبنانيون الآخرون، إنما السنة أكثر من غيرهم وفي طرابلس وعرسال بالذات، وبعد أن حاولوا التعبير عن غضبهم واحتجاجهم على سوء أوضاعهم بأساليب شتى، جاءتهم الانتخابات البلدية فرصة. أما في عرسال فقد كانت الأمور فوضى وتيار المستقبل رسميًا على الحياد، ولذلك فإنّ النتائج ظلت غامضة المنحى، وهناك من يقول إنها في عرسال وسعدنايل (وهما بلدتان سنيتان متشددتان عادةً) كانت لصالح «سرايا المقاومة» والمنادمة (!). بيد أنها في طرابلس كانت احتجاجيةً شديدة الوضوح. أشرف ريفي وزير العدل المستقيل، كان قد اختلف مع تيار المستقبل ورئيسه قبل شهور لأمور تستحق الاختلاف لا الخلاف. وقد كان الرجل يتعمد الصراع ويصعّده وعينه على الاستنزافات في طرابلس بين الشبان وفي الأحياء الفقيرة والأسواق القديمة البائسة. ما عملت حكومة ميقاتي ولا الحكومة الحالية (ومنها أشرف ريفي) شيئًا يذكر لفقراء طرابلس ومعتقليها، ولا حققت «عدالة انتقالية» للذين قُتلوا وعائلاتهم. صوَّر ريفي اللائحة التوافقية باعتبارها لائحة الوجهاء والمتنفذين، وصوَّر نفسه (مع لائحة المجتمع المدني!) على أنه نصير الفقراء والمحرومين والمعذبين. والمهمشون وتحت وطأة الغضب والاستنزاف والضياع وعدم العناية والرعاية، قاموا باقتراعٍ احتجاجي وانتقامي، وهم آمِنون نسبيًا باعتبار أنّ ريفي جزءٌ من النظام، وليس مثل أحمد الأسير!
نحن محتاجون لمراجعاتٍ كبرى وجذرية، وإلى عنايةٍ أخرى وعملٍ آخر على أنفسنا وعلى الجمهور. التراكمات والاستنزافات والمظالم هائلة، ولا يستطيع فريقٌ مهما بلغت قوته وإمكانياته رفْعها. إنما يكون علينا أن نوطّن أنفسنا على الصمود في وجه المتأيرنين، وفي وجه خصوم الدولة والوطن من الفاسدين، ودائمًا مع العامة والجمهور.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”