روبرت فورد: السفير الأميركي السابق لدى سوريا والجزائر والباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن
يعدّ البيان الصادر من وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في الخامس من يوليو (تموز) في شأن سوريا، هو البيان الأكثر تفصيلاً لأهداف إدارة الرئيس دونالد ترمب حيال سوريا. كثيراً ما يصعب فهم توجهات إدارة ترمب، لكن هذا البيان الأخير يأتي في أعقاب اجتماع في البيت الأبيض حول سوريا بتاريخ 30 يونيو (حزيران)، بالتالي يعكس حالة من توافق الآراء بين وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).
ذكر الوزير تيلرسون «داعش» تسع مرات في البيان، وأكد على أن الجهود الأميركية في سوريا موجهة بالأساس ضد «داعش». والمغزى الضمني بالغ الوضوح: وصف تيلرسون الحكومة السورية بمسمى «النظام الحاكم»، لكن واشنطن لا تشنّ حرباً هناك ضد الأسد، ولا ضد إيران. وبكل تأكيد، حضّ الوزير تيلرسون المعارضة السورية على تركيز جهودها في مواجهة التنظيم الإرهابي، وليس في مواجهة نظام بشار الأسد.
تذكرني سياسة تيلرسون، عند هذا المنعطف، بإدارة الرئيس الأسبق أوباما التي أصرّت في عام 2014 على أن الجيش الأميركي سيشرف على تدريب قوات المعارضة السورية التي تقاتل تنظيم داعش وتجهيزها، التي تعهدت بعدم استخدام التدريبات والمعدات العسكرية الأميركية ضد نظام الأسد. وقتذاك، تقبّل عدد قليل من مقاتلي المعارضة السورية الطلب الأميركي، ثم انتهت أحداث عام 2014 بحالة كبيرة من الحرج للإدارة الأميركية. وفي عام 2017 الحالي، رغم كل شيء، يعاني «الجيش السوري الحر» من الاستنزاف الشديد، والتقاتل الداخلي الذي لا ينتهي ولا طائل من ورائه. ومن المنتظر أن يقبل المزيد من مقاتلي المعارضة السورية في النهاية الطلب الأميركي بتوجيه الجهود لحرب «داعش» فقط. وفي واقع الأمر، هناك بالفعل فصائل شرعت في الانضمام إلى صفوف «قوات سوريا الديمقراطية» لمحاربة «داعش».
وكانت الرؤية الأميركية المبدئية تتمحور حول عنصرين بالغي الأهمية بالنسبة إلى تدمير «داعش». أولاً، حتمية استعادة الأراضي التي استولى عليها التنظيم الإرهابي. ثانياً، لا بد من تحقيق الاستقرار على الأراضي السورية. ومن دون الاستقرار يمكن لـ«داعش»، كما حذر وزير الخارجية الأميركي، الصعود من جديد.
بعد مرور ست سنوات كاملة على الحرب الدائرة في سوريا بات من العسير تصور إرساء أسس الاستقرار في ربوع البلاد، فما الذي يدور في مخيلة الوزير تيلرسون؟
يمكننا ملاحظة عدد من النقاط المحددة التي ارتأت واشنطن أنها من مفاتيح الاستقرار في الواقع السوري. حيث جاء ذكر روسيا ثماني مرات في بيان الوزير تيلرسون الرسمي، وشدّد على المسؤوليات الخاصة التي تضطلع بها موسكو في الداخل السوري. وقال: إنه يجدر بروسيا الحيلولة دون استيلاء أي من الفصائل السورية، بصورة غير شرعية، على الأراضي المستعادة من «داعش» أو سيطرة الجماعات الإرهابية الأخرى على هذه الأراضي. وهذا هو الجزء الأكثر غرابة من بيان الوزير تيلرسون. إذ إنه، وبكل وضوح، يطالب روسيا بمنع القوات الحكومية السورية من شنِّ المزيد من الهجمات على «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، التي تشكل قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي وميليشيات «وحدات الحماية الشعبية» الكردية السواد الأعظم منها، والتي تهاجم في الوقت الراهن مدينة الرقة السورية، وربما تحاول قريباً استعادة أجزاء من محافظة دير الزور في أقصى الشرق السوري.
وأسقطت وسائل الدفاع الجوي الأميركية إحدى المقاتلات الحكومية السورية يوم 18 يونيو الماضي، أثناء هجوم كانت تشنه على «قوات سوريا الديمقراطية» قرب مدينة الرقة. كما قصفت القوات الأميركية ثلاث مرات الميليشيات المدعومة من إيران وقوات الحكومة السورية أثناء تحركها في اتجاه قوات المعارضة السورية العربية جنوب شرقي البلاد. ورغم ذلك، فإن الحكومة السورية، حتى وإن كانت مكروهة على المستوى الدولي، لا تزال تحمل اعترافاً أممياً من قبل منظمة الأمم المتحدة بكونها الحكومة الشرعية الوحيدة في سوريا، وبالتالي فإن استعادة أي إقليم في الداخل السوري يعد مشروعاً من وجهة نظر القانون الدولي المعترف به.
ثم سرد الوزير تيلرسون عدداً من عناصر الاستقرار الأخرى. من شأن واشنطن، كما أشار، أن تبحث مع موسكو إقامة مناطق حظر الطيران، ومناطق «خفض التصعيد»، ونشر مراقبي وقف إطلاق النار، وسرعة توصيل المساعدات الإنسانية؛ الأمر الذي سيلقى استحسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. وأعلن الجانب الروسي في أعقاب الجولة الأخيرة من مباحثات آستانة عن إقامة أربع مناطق لـ«خفض التصعيد»، بالتالي باتت الرؤية الأميركية لتحقيق الاستقرار في سوريا أكثر وصولاً: سيجري، على المدى القصير، تقسيم سوريا بحكم الأمر الواقع إلى أربع مناطق على أدنى تقدير: أولاً، منطقة الحكومة السورية التي تضم المدن الكبرى غرب البلاد. ثانياً، منطقة في شمال شرقي سوريا يغلب عليها «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي والتي تضم مدينة الرقة. ثالثاً، محافظة إدلب في شمال غربي سوريا التي قد تشهد انتشاراً للقوات الروسية والتركية، وأخيراً، منطقة صغيرة في الجنوب الغربي من البلاد بالقرب من مرتفعات الجولان والحدود الأردنية.
لم يأت ذكر إعادة إعمار سوريا في بيان الخارجية الأميركية. بدلاً من ذلك، قال الوزير تيلرسون: إن هناك مسؤولية ملقاة على عاتق روسيا في شأن ضمان تلبية الاحتياجات الأساسية الخاصة بالشعب السوري. ورسالة الوزير تيلرسون بالغة البساطة: ألا يطلب أحد من الولايات المتحدة المساعدة في جهود إعادة الإعمار. وهذه الرسالة لن تلقى استحساناً لدى لافروف، غير أنها تتسق على نحو وثيق بما أصرّ عليه المرشح الرئاسي ترمب خلال حملته الانتخابية الرئاسية الأخيرة بأنه يتعين على الولايات المتحدة التوقف عن محاولات إصلاح الدول الأجنبية الأخرى.
ولم يعرج الوزير تيلرسون على ذكر سوريا على المدى البعيد إلا في لمحة موجزة من بيانه. إذ قال: إنه ينبغي البدء في العملية السياسية الرامية إلى تحقيق التسوية المعنية بمستقبل البلاد. كما أنه لم يشر إلى ضرورة تنحي الرئيس الأسد عن منصبه. ولم يشر إلى ضرورة مغادرة الميليشيات الأجنبية من الأراضي السورية كذلك. ولم يأت على ذكر كلمة «جنيف». بدلاً من ذلك، قال: إن روسيا – وليست أميركا – هي التي تتحمل المسؤولية الخاصة بالمساعدة في العملية السياسية، كيفما كانت ماهيتها أو ما ستتمخض عنه.
هناك قضيتان رئيسيتان مفقودتان من بيان الوزير تيلرسون الأخير. أولاً، أنه تجنب تماما ذكر «إيران»، كما لم تكن هناك قوات إيرانية عاملة على الأراضي السورية، وتؤثر فعلياً في استقرار البلاد. ومن المحتمل أن الاجتماع الوزاري المنعقد في البيت الأبيض في 30 يونيو لم تتمخض عنه نتيجة نهائية محددة في شأن ما ينبغي قوله حول إيران في سوريا. ثانياً، أدرج الوزير تيلرسون قائمة بالأمور التي ينبغي على روسيا القيام بها غير أنه تجنب أيضا إدراج قائمة بما ينبغي على الولايات المتحدة فعله مع استثناء وحيد يتعلق بحرب «داعش»، والشروع في المناقشات مع الجانب الروسي في شأن وقف التصعيد، والمساعدات الإنسانية، ومناطق حظر الطيران.
هل أبدو متهكما حين أقول إن ذلك يذكرني بإدارة الرئيس الأسبق أوباما؟
* السفير الأميركي السابق لدى سوريا
* المصدر: الشرق الأوسط