الياس حرفوش: الحياة اللندنية
عند نقاش ابعاد زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي الى دمشق، ونتائجها السياسية على علاقات الطوائف في سورية ولبنان، وتبعاً لذلك في منطقة المشرق ككل، لا بد من الفصل بين مسألتين، كي يستقيم هذا النقاش ويأخذ سبيله السويّ.
والمسألتان هما: الجانب الرعوي لهذه الزيارة، وتوقيتها المرتبط بمناسبتين دينيتين، الى جانب وجود عدد لا بأس به من رعايا الكنيسة المارونية في سورية، سواء من السوريين او ممن يقيمون فيها.
والمسألة الثانية هي حقيقة ان الراعي لا يقوم بزيارته الى بلد «عادي» وفي وضع «طبيعي». انه يقوم بزيارة الى بلد تعصف فيه حرب بين نظام هذا البلد ومعظم ابناء شعبه منذ ما يقارب العامين، ويختلط العنصر الطائفي والمذهبي في هذه الحرب اختلاطاً كبيراً بالعوامل السياسية، حتى يكاد يطغى عليها.
واذ لا نناقش هنا سوى هذا الجانب السياسي، فلأننا لا نسمح لنفسنا بمناقشة الجانب الديني والرعوي، انطلاقاً من القناعة اننا لسنا اهل اختصاص لمناقشة موضوع كهذا، فضلاً عن ان هذا المكان ليس مكان هذا النقاش.
في الموضوع السياسي اذاً، انقسمت الآراء في لبنان وفي المنطقة بين مؤيد لزيارة الراعي الى سورية ومنتقد لها. وجاء هذا الانقسام تبعاً للمواقف التي اتخذها البطريرك الماروني من النزاع في هذا البلد، والذي كانت بداياته مع تولي الراعي قيادة الكنيسة المارونية. ومع ان البطريرك حاول في اكثر من مناسبة «تصحيح» هذه المواقف، التي فُهم منها دعمه لموقف النظام السوري في مواجهة معارضيه، الا ان الانطباع السائد ظل على حاله، وعززته طبيعة العلاقات التي اقامتها بكركي (مقر البطريرك) مع الاطراف اللبنانيين، بحسب قربهم من النظام السوري او خصومتهم له.
واذ اتت زيارة دمشق في هذا الجو، بات صعباً نزع الطابع السياسي عنها، وخصوصاً ان اسلاف الراعي امتنعوا عن زيارة سورية منذ انفصال البلدين، بسبب تحفظاتهم الدائمة على تدخلات سورية في شؤون جارها الصغير.
وما كان للتصريحات التي اطلقها الراعي في سورية ان تخفف من هذا الانطباع، الذي عكسته تغطية الزيارة في الاعلام المحلي اللبناني الموالي لسورية او في الاعلام الرسمي السوري. فقد اعتبرت الجهتان ان الزيارة تمثل اعترافاً بالنظام وبحقه في الدفاع عن نفسه في وجه «الارهابيين القتلة». كما وجد الطرفان فيها اعترافاً بأن هذا النظام هو الوحيد الذي يمكن ائتمانه على حماية الاقليات في سورية.
وبالتأكيد كان بامكان البطريرك، لو اراد، ان يتجنب هذه التفسيرات، وان يكون اكثر وضوحاً في حديثه عن المسؤول عن القتل الجاري في سورية وعن تهجير المواطنين الآمنين الابرياء، كما سمّاهم. أما ان يبقي هذه المسؤولية في علم المجهول، كما فعل، داعياً الى وقف الحرب والعنف «من اية جهة اتى»، في الوقت الذي كان موقعه يسمح له ان يشهد للحق، وان يقول كلاماً اكثر صراحة ووضوحاً ومن دون خوف، فلا يفهم منه سوى أنه محاولة لتبرئة النظام من المسؤولية، او للمساواة في المسؤولية بين الطرفين.
اما في حديثه عن الحل السياسي والاصلاح، فقد بدا الراعي متبنياً لوجهة نظر النظام بالكامل، عندما قال ان الاصلاحات لا تفرض فرضاً من الخارج، بل تنبع من الداخل حسب حاجات كل بلد، وتتم بالحوار والتعاون والتفاهم.
ومن البديهي ان كلاماً كهذا يغفل الطبيعة القمعية للنظام السوري، ولجوءه الى القوة لحماية هويته المذهبية، وهو ما فعله عندما واجه المتظاهرين الذين دعوا الى الاصلاح «من الداخل»، منذ اليوم الاول لانفجار الازمة. وهنا ايضاً كان بامكان الراعي ان يفيد النظام والشعب السوري اكثر مما فعل، لو انه كان صريحاً في وصف الداء والعلاج اللازم لسورية.
يقول البطريرك الراعي ان همّه من زيارة دمشق كان العمل على وقف سقوط الدماء البريئة، والمحافظة على الوجود المسيحي في سورية كما في سواها من دول المنطقة. وسيبقى للتاريخ ان يحكم اذا كان قيامه بهذه الزيارة، تحت راية النظام السوري وبرعايته، سيخفف من سفك الدماء، او اذا كان الانطباع الذي تركته زيارته عن دعمه للنظام، هو السبيل الافضل لحماية مسيحيي سورية فيما هم يواجهون التطرف والتعصب من كل صوب.