ليس هناك مثل مأساة سوريا، عرَّت الوجوه المختبئة خلف الأقنعة المزيفة على خشبة المسرح السياسي العربي. هناك، على أرضها، أيضًا قُتل سمير قنطار، هوى نجم آخر من نجوم حزب الله، أيضًا لم يهتم به أحد، رغم أن حزب الله منحه لقب الشهادة، وأقام له سرادق العزاء، وقبلها كان قد علق على صدره وسام البطولة لأن إسرائيل سجنته. الذين احتفوا بـ«شهيدهم» موظفو أعضاء الحزب من المكلفين بإصدار بيانات القتلى، التي لم يعد أحد يريد إعادة طباعتها أو نشرها. قال البيان: قنطار قتله الإسرائيليون، رواية غير مقنعة لأنه لا يوجد لديهم حافز لقتل من يحارب عنهم وبعيدًا عن حدودهم، في ريف دمشق. وهناك من قال: قنطار راح ضحية قصف خاطئ من قبل الطيران الروسي. وجنح البعض إلى القول: لقد طعن من الخلف، من قبل حزب الله. ويبقى الادعاء الوحيد المعقول ما قالته المعارضة السورية إنها: هي من دفنته تحت ركام المبنى ذي الستة أدوار الذي قصفته. والحقيقة لم يبالِ أحد كثيرًا بمن قتل قنطار، لأنه مات يحارب دفاعًا عن إيران ونظام الأسد وحزب الله.
وقد توقظ اللامبالاة، التي رافقت نبأ مقتل قنطار، حزب الله والمنظمات الأخرى المماثلة، أنه حان الوقت لإنهاء هذه المسرحية الكوميدية السوداء، المقاومة ضد إسرائيل والدفاع عن الأراضي اللبنانية السورية الفلسطينية المحتلة، لا أحد أصبح يصدقها. انتهت صورة حزب الله التي رسمها لنفسه، وصدقها غالبية العرب واللبنانيين، ربما باستثناء أهالي قرى الجنوب لأنهم كانوا يدفعون الثمن غاليًا، هم أقرب إلى الحقيقة على الأرض.
الذي فعلته مأساة سوريا وبشاعة النظام في ملايين العرب، عدا أنها هزت وجدانهم، صدمتهم في تاريخهم، رموزه ومقدساته. يتساءل الناس، هل الأبطال حقًا كانوا أبطالاً؟ أم كانوا تجارًا، أو وكلاء لمشاريع خارجية؟ وهل ما كان يقال لهم، لعشرات السنين، فيه شيء من الحقيقة أم كله كان أكوامًا من الخرافات؟
هل يستحق قنطار البطولة لأنه قتل عائلة إسرائيلية من ثلاثة أفراد، بينهم طفلة، أم أنه مجرم لأنه أيضًا شارك في قتل ثلاثمائة ألف إنسان سوري؟ سوريا هزت الضمائر والقناعات وتجبروا على إعادة قراءة الماضي من وحي اليوم.
لهذا، ليسمح الذين يقولون لنا إن اليوم غير الأمس، بتجميل الماضي والإصرار على أنه كان زمن السلاح والكفاح والقضية والأخلاق، والتبرؤ من فعل الحاضر، أن يعيدوا النظر. التفتوا إلى الخلف للسنوات الماضية.. للعشر، والعشرين، والثلاثين الماضية، ستجدونها مجرد فصول في كتاب واحد، سوريا خاتمته. المقاومة هي عنوان رواية بوليسية، نقرأ في النص عن طمس الأدلة وتزوير الحقائق، فمصطلح مواجهة العدوان كان يراد به الاستيلاء على الدولة اللبنانية، وابتدعت عبارة المقاومة من أجل إلغاء المقاومة، وأسست جبهة الممانعة كتحالف مع طهران للسيطرة على المنطقة.
نحن نقرأ الأخبار منفصلة عن بعضها، ولو قرأناها قصة واحدة، لفهمنا أن الذي قتل ثلث مليون سوري اليوم هو نفسه الذي اغتال عشرات اللبنانيين قبل عشر سنين. قتلهم ضمن برنامجه إلغاء الخصوم، من رفيق الحريري وجبران تويني وجورج حاوي وغيرهم. وقبلها حاول رجاله تنفيذ عملية اغتيال أمير الكويت الراحل، واستهداف شركات طيران وسياحة خليجية وعربية. وهكذا نستطيع أن نفهم الرواية عندما نعيد قراءتها من بداية تسلسلها، في الثمانينات قررت إيران، مع سوريا، الانخراط في حكاية مواجهة عدوان إسرائيل، وذلك ذريعة للبقاء في لبنان، لحمل السلاح، وخطف الأجانب، بعد أن تم التخلص من منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت أيضًا تزاحم النظامين الإيراني والسوري. إسرائيل غزت لبنان وأبعدت منظمة التحرير مع أن الذي نفذ محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، حجة للغزو، كان فصيلاً تابعًا لنظام الأسد. الأسد وإيران كانا المستفيدين الأكبر، وقاما بتبني مشروع المقاومة، وبه تم ترسيخ احتلال لبنان، وتعطيل مؤسساته وتهديد العالم من خلال منظمات تدار من قبلهم.
باسم فلسطين، تمت لهم الهيمنة على البلاد من المطار إلى الحدود، وفتحوا المعسكرات لتدريب العرب الآخرين لمقاتلة مواطنيهم في العراق والخليج واليمن وسوريا. كان ذلك بدايات مشروع إيران الإقليمي، ولنتذكر أن من شن كل الحروب كانت إسرائيل، وليست إيران أو سوريا أو الحزب، وأكثر رايات «المقاومة» التي رفعت غرست فوق البيوت المهدمة.
اليوم لم يعد ممكنًا الاستمرار في بيع تلك الرواية، مقاومة إسرائيل. ولا أدري إن كانت إيران وحزب الله والنظام في دمشق يعون كيف أن سوريا، المذبحة الأبشع في تاريخ المنطقة، قد بدأت تاريخًا جديدًا، لن يكون سهلاً تجاوزه ونسيانه. انتهت حكاية المقاومة والممانعة، التي لم تكن حقيقية في أي يوم من كل السنوات الماضية. وانتهى استغلالهم المأساة الفلسطينية.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”