رغم الامال و الالام الكثيرة اعتقد ان كل ما يجري هذه الأيام من تطورات سياسية و عسكرية لن تستطيع خلق اسس للسلام لان هذه الاشكالية تتعلق بكل الشرق الأوسط و لا يمكن اختزالها لبعض الارتباطات هنا و هناك اي في حلب او الموصل او غيرهما…الا ان الترتيبات التي تجري الان تؤشر الى انتقال مرحلي و ربما نوعي في مستوى الصراعات و ادارتها …. الامر الذي اشرت اليه ايضا في مقالات سابقة …
في خضم الصراع المتصاعد في الشرق الأوسط منذ احداث ما سُميت بالثورات العربية تغير الكثير في طبيعة دور الدولة و القوى المجتمعية و برزت عناصر عديدة و تهاوت تحالفات و ظهرت ملامح مختلفة للتطور السياسي الاجتماعي و لعل اهم مظاهر هذا التحول هو انتقال الصراع من النمط السياسي و حرب الخنادق الى صراع وجودي يتلمسه الفرد في حياته اليوميه أينما وجد نفسه … في الريف و الجبال و الصحارى و الغابات … او في أفضل المدن تنظيما و أكثرها رفاهية….
ملاحظة مهمة يجب ان نؤكدها قبل الدخول في الثيمة الاساسية و هي ان هذا التحول الخطير في مستوى ادارة الصراع لا يمكن اعتباره ظاهرة شرق-اوسطية رغم تراكم تراث الكبت و إلانا الاجتماعية و شيطنة الاخر المنتشرة في البنية الثقافية لمجتمعات الشرق الأوسط جنبا الى جنب مع قيم حضارية و إنسانية رائعة… لكن هذه الظاهرة هي عالمية بهذه الدرجة او تلك و هي منتج مؤثر للتطور الاجتماعي السياسي في العالم و يتعلق بلورتها بهذا الشكل الرهيب بآليات العولمة التي فتحت الطريق امام بروز كل المتناقضات التاريخية وتفاقمها في ظل عجز المؤسسات الدولية عن وقف نزيف الفقر و البطالة و الإحساس بالدونية و تعاظم المطالَب و ألانانية الفردية و المجتمعية …
و لعل ظهور ظاهرة داعش و هيمنتها الفكرية و المنهجية تعتبر احد اهم مظاهر هذا التحول التاريخي في مفهوم الصراع و ادارته… (شخصيا كتبت مقالات عديدة عن هذا الموضوع يمكن مراجعتها )…
في هذه المقالة سأركز على المشروع الكوردي لاني اعتقد ان هناك جهات دولية و قوى إقليمية و محلية تدفع باتجاه عولمة القضية الكوردية كما تم عولمة المشروع الاسلامي خلال العقود الثلاث الماضية ….
و ان كان التفكيك هو احد اهم اليات العولمة في خلق التناحر و الصراع الوجودي فان مرحلة “ما بعد حلب” قد تعيد تفكيك ما تم ربط أواصره عند الكورد عبر نضال طويل الامد … و هذا قد يكون له تاثير بالغ ليس على الكورد ومشروعهم التاريخي … و إنما ايضا على طبيعة تطور المشروع مستقبلا و بالتالي العلاقات السياسية و الاقتصادية بين مجتمعات الشرق الأوسط و قواها المختلفة…
في الشهر السابع من السنة الماضية (2015) كتبت مقالة تحت عنوان… هل يدفع الكورد الثمن مرة اخرى..؟؟.. و اعتقد ان مرحلة ما بعد حلب… تحمل كثيرا من الصور التي توقعتها في تلك المقالة… أهمها مؤشرات انضمام تركيا للتحالف الروسي الإيراني … و الذي يستهدف المشروع الكوردي بشكل مباشر و ليس على شكل تاثير عرضي للإهتمامات الاخرى و الاولويات المتعددة للقوى المتحالفة و المتصارعة على حد سواء …
لا شك ان تجربة كوباني قبل اكثر من سنتين قد شكلت نقطة التقاء ليس فقط بين اواصر العلاقات الكوردية -الكوردية … سياسياً و احتماعياً…. إنما ايضا العلاقات الكوردية – الدولية …و هذا يحصل لأول مرة منذ نشوء الدولة القومية و بشكل علني حيث توضحت صورة تجاوز المشكلة الكوردية الحدود المحلية داخل إطار الدول الأربع و وصولها لتحتل مركزا على جدول اعمال القوى الدولية الكبرى خاصة فيما يتعلق بسيناريوهات اعادة البنية السياسة الدولية او النظام الدولي..
و خلال السنتين الاخيرتين مرت تهيئة الارضيّة لعولمة القضية الكوردية بمراحل مختلفة ظهرت في أجلى صورها و كأن الكورد الذين رفضهم الجميع سابقا أصبحوا محل اهتمام كل القوى الدولية رغم تناقضاتها و صراعاتها العديدة …. لكن مع الترتيبات الجديدة للعلاقة الايرانية الروسية التركية يبدو اننا ندخل مرحلة خطيرة اهم ملامحها اعادة القضية الى الإطار المحلي (الوطني) و تفكيك الاجماع الذي وصل ذروته في منعطف كوباني كمان ذكرنا …
هنا تبدو المخاطر اكبر بكثير من المحصلة العامة للصدامات و الدماء و الدمار على مدى المائة عام من الكبت و الحصار منذ إنشاء الدولة القومية التي استبعد منها الكورد… و الذي ممكن ان نسميه “قرن كبت المشروع الكوردي”…
مع الانتشار الواسع لثقافة الحرب و التمدد الرهيب لفكرة الميليشياوية و عسكرة المجتمع من جهة … و من جهة اخرى تدني قدرة الدولة على التجاوب مع التطور الاجتماعي و السياسي على المستوى العالمي و في الشرق الأوسط ذاته فان محاولة اعادة القضية الكوردية الى المربع الاول يحمل معه استراتيجية دموية طويلة الامد …
هذه الاستراتيجية تنبىء مؤشراتها عن نوعين من الحروب المتداخلة و هي حروب كوردية- كوردية و اخرى كوردية ضد قوى إقليمية و دولية …. لكن رغم ان هذا النوعين قد جريا ايضا خلال “قرن كبت المشروع الكوردي “… بشكل او باخر لكن التحول الحقيقي الذي سيحصل ان استراتيجية الصراع تتحول من صراع سياسي لتحقيق الحلم الكوري الى صراع وجود ضد كل البنى الاجتماعية و الثقافية المحيطة و المتداخلة و المتقاطعة مع المشروع التاريخي الكوردي….
هناك عامل مهم سيساهم بشكل كبير في تفاقم حرب الوجود و هو تزايد التداخل الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي بين الكورد و غيرهم من الشعوب المحيطة عبر العقود الماضية على أمل إيجاد مجتمع متعدد الاثنيات و المذاهب الدينية و الاجتماعية و السياسية … الخ… لكن تجربة السنوات الاخيرة قد عملت على عادة فرز اجتماعي عقيم كان اغلب ضحاياه هم من الأقليات التي حاولت الاندماج لكن الأغلبيات لفظتها في لحظة بؤس اخلاقي تمثلت في عمليات رهيبة اساسها الهوية مثل القتل الجماعي و التهجير و الاغتصاب و غيرها من الانتهاكات التي للأسف كان نصيب الكورد منها كبيراً…
لكن في حين ان كثير من الأقليات لا تمتلك مقومات بلورة منظومة عسكريتارية محاربة فان الكورد يمتلكون كثيرا من تلك المقومات أهمها التعداد السكاني العالي و التمدد الديمغرافي وتجارب سنوات طويلة من الإعداد و التسليح و التدريب و التنظيم على أسس تفوق كثيرا مقومات كثير من الدول في الشرق الأوسط ..
و رغم ان الكورد عموما هم من المجموعات البشرية الساعية لديمومة قيمها الحضارية الممتدة الى آلاف السنوات الا ان من العوامل التي قد تشكل بؤرة الانفجار في العنف الاجتماعي الواسع و في المحيطين الداخلي و الخارجي عاملين مهمين اذكرهما هنا على عجالة:
أولاً… عجز حكومة اقليم كوردستان العراق بكل اطرافها (السلطة و المعارضة) في الحفاظ على نموذجية التجربة التي شهدت ازدهارا في العقد الأخير و مثلت للكثيرين “واحة سلام و أمان” … فلقد برزت ظاهرتان خطيرتان و هما شل النظام البيروقراطي و التعليمي بسبب امتناع الحكومة عن دفع رواتب الموظفين مما أعاد انتشار الفقر و البؤس بين الطبقات الشعبية و الفقيرة و توقف المشاريع و بالتالي انحدار سوق العمل و إغلاق المدارس و غيرهما… فيما تفاقمت الظاهرة الاخرى المتمثّلة باستقبال الإقليم لاكثر من مليون من العرب من كل أنحاء العراق و خاصة من مناطق الغرب التي شهدت ظهور المقاومة ضد الدولة العراقية ما بعد الاحتلال الامريكي و بالتالي هيمنة فكر و تجربة تنظيمات القاعدة و الصحوات و اخيرا داعش…. هذا بالاضافة الى مئات الألاف من العمال و الخدم المستقدمين من شتى أنحاء العالم لخدمة النخبة السياسية و الاوليجاركية الاقتصادية … او ما يطلق عليها شعبيا… الطبقة المرفهة الجديدة…
ارجو ملاخظة اننا لا نتحدث هنا عن نقاء عرقي بغيض و إنما عن التنظيم الاجتماعي حيث ان هذه الكتلة البشرية الهائلة بكل ما تحمل معها من تراث سياسي و علاقات اجتماعية قبلية معقدة تشكل تناقضاً صارخا مع طروحات الرئيس برزاني عن استقلال كوردستان و تطرح أسئلة جوهرية حول كيفية تأمين حياة هؤلاء المهاجرين و الخدم اقتصاديا مقابل العجز عن تأمين رواتب الموظفين الكورد… و كيف يمكن ادماج هؤلاء في المجتمع الكوردستاني بينما تعيق سلطات الإقليم وصول بعض المجموعات الكوردية لأسباب سياسية و ثقافية…
و امام سد طرق الهجرة الى أروبا التي كانت تخفف سابقاً من احتقان و غضب الشباب الكوردي… فان التساؤلات عن عجز حكومة الإقليم و ترتيب أولوياتها قد تؤسس لصراع وجودي رهيب بين طبقة المرفهين و الأغلبية الشعبية التي اصبحت تعاني استنزافاً شديداً في قدرتها على البقاء … و لاشك ان مثل هذا الصراع سيمتد الى المحيط غير الكوردي عبر وجود المهجرين العرب في كوردستان خاصة ان الكثيرين من هؤلاء يتمتعون بتداخل مصالحهم و امتيازاتهم الاقتصادية و السياسية بحيث انها تشكل أيضاً ضغطاً اجتماعياً كبيراً على الهوية الكوردية التي تشكل النواة للحلم التاريخي الكوردي…
مظاهر التفكك الكوردي قد تكون على هيئة فرز الهويات المتداخلة مع الهوية الكوردية العامة و الذي قد يؤدي الى دفع بعض المجموعات الكوردية التي تقع مناطقها الجغرافية على تخوم الحدود الدموية او مناطق الاحتكاك المباشر لصراع المشاريع الكبرى … هنا يتم العمل باتجاه الانسلاخ من الجسد الكوردي العام و السعي للاندماج في مجموعات بشرية اكبر او طلب ضمانات أمنية دولية و هذا يعني بشكل ما تغييرا في بعض عناصر الهوية و اختراقاً شديد التأثير على الجسد الكوردي…( يمكن ان نذكر الايزيدين و الفيليين نموذجين يتم العمل على توظيفهما بشكل واضح )…
لكن مظهرا اخر قد يكون له تاثير أوسع و أعمق … و نعني هنا تحول الاختلافات الأيديولوجية و السياسية الى صراع هيمنة بطابع وجودي … بين الكيانات و المؤسسات العسكرية السياسية القائمة في مناطق كوردستان … اي عودة الى شكل من أشكال الفكر الشمولي المتمثل في التجارب الامبراطورية التاريخية بأسسها و اشكالها المختلفة و بالتالي السعي لإقامة مجتمع احادي الفكر و التطلع السياسي و التجربة الاجتماعية مما قد يعني تصفيات و أزاحات فردية و جمعية…
ثانيا… ان أية ترتيبات سياسية “ما بعد حلب” قد تعني عمليا الإطاحة بحلم المشروع الذي حاولت المجموعات الكوردية في سوريا تطبيقها على ارض الواقع … و هو مشروع طموح يهدف الى اعادة تأسيس البنية الاجتماعية في مجتمع متعدد الثقافات و الانتماءات …
و بما ان هذا المشروع هو امتداد لمشروع حزب العمال الكوردستاني في تركيا… فان دحر المشروع يعني اعادة تفكيك أسسه و بالتالي قد يشرعن العودة الى الفكرة القومية التقليدية الضيقة و الرافضة لقيم التعدد…
الان لو تذكرنا بعض الحقائق البسيطة في المجتمع التركي و منها هيمنة الكورد على القطاع الخدمي اضافة الى نسبك من الملكية في الاسواق التجارية و المناطق السياحية في المدن الكبرى و منها إسطنبول و الكثير من المرافق السياحية في جنوب تركيا…. فإننا نقف امام مشهد رهيب خاصة في ظل التراجع الواضح في القطاع السياحي خلال السنوات القليلة الماضية و انتكاسة الليرة التركية … حيث يشكل ذلك بمجمله اطاراً لازمة اقتصادية اجتماعية يكون صراع شركاء الأمس احد مظاهره عادة … لكن اذا أضفنا الى ذلك ايضا تراجع مشروع التعايش السلمي فإننا قد نكون على اعتاب صراع وجودي مرير….
هذه الحالة تشمل العراق حيث تزداد نبرة البعض عن حرب قادمة ضد الكورد بعد الانتهاء من داعش (و ربما تعويضا عن حرب داعش لان شكلا ما لدولة داعش ستبقى كما أتوقع دائما في كتاباتي عن الموضوع )… و من الواضح طبعا ان الحالة العراقية لها امتدادات طبيعة عبر الحدود الشرقية (ايران) و الغربية (سوريا)… و ما بعد…
في المحصلة فان النقلة النوعية في طبيعة الصراع ما بعد ترتيبات حلب قد تعني تطورا خطيرا يتعلق بطبيعة جبهات المواجهة القادمة التي قد لا تتوقف على أعالي الجبال و المناطق النائية كما كانت عبر “قرن كبت المشروع الكوردي” بل ربما ستمتد الى داخل احياء و شوارع العواصم و المدن الكبرى في البلدان التي تتقاسم جغرافية كوردستان و ديمغرافيتها …. و قد تمتد بعيدا ايضا ….
بكلام اخير فان مسارات التفكك الداخلي و تفاعلاتها الخارجية لن تكون منعزلة عن بعضها و ان ظهرت في مرحلة ما بشكل شبه منعزل لكنها في النهاية تنتج بعضها البعض و تتطور مع تصاعد تأثيراتها المختلفة…
شخصيا اتمنى ان لا تحدث هذه التطورات … لكن للأسف هناك مؤشرات عديدة بهذا الاتجاه … و لا ادري ماذا الذي يمكن ان تفعله القادة الكورد وقادة القوى الإقليمية و مثقفي مجتمعات الشرق الوسط و قواها السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ازاء هذه السيناريوهات و التي تبدو بمجملها و كأنها ستكون المرحلة التالية من استراتيجية عولمة العنف و التفجير الاجتماعي … حيث سبقتها مراحل اخرى شهدت تصاعداً هائلاً مع تفريغ الدولة من مقوماتها… لنا متابعات قادمة… حبي للجميع..