ما السر بين المندائيين والكنيسة الكاثوليكية؟

sabiaaبقلم: عضيد جواد الخميسي

عرف الغرب المندائيين لاول مرة في عام 1290م من خلال الراهب الايطالي ,, ريكولدو دي منتيكرس ,, والذي سافر من فلسطين الى ارمينيا وتركيا، ومن ثم الى بلاد فارس ، فبلاد مابين النهرين ، بناء على اوامر من ,, نيكولا الرابع 1227ــــ1292,, بابا الكنيسة الكاثوليكية ، لاغراض التبشير بالديانة المسيحية .
الراهب ريكولدو ، اول شخصية اوروبية عرفها المندائيون ، وذلك طبقا ماجاء في كتابه عن تلك الرحلة ( كتاب الترحال في الأجزاء الشرقية ) ،حين يصف المندائيون في الفصل الاخير من رحلته ، وصفا دقيقا ، لم يأت به اي مصدر من المصادر العربية ( ان من بين اغرب الاشياء التي كنت قد رايت اكثر من اي وقت مضى .
رايت قوما ، ليسوا بمسلمين ، ولا بيهود او مسيحيين ، ولا هم بالزرادشتيين . يمارسون طقوسا لم ارها بحياتي ، يتعمدون بماء النهر الكبير ، يرتدون حللاً بيضاء ، شعورهم ولحاهم طويلة . مارسوا انواعا مختلفة من الغمر في الماء ، وكان الكاهن مرتديا زيّا ابيضاً ناصعا ، ماسكا عصا طويلة بيد ، وغصن زيتون بالاخرى .
ذهلت كثيرا لرؤيتي هذا المشهد ، وخيّل لي بان يوحنا المعمدان يقوم بتعميد يسوع المسيح في تلك اللحظة .. يا الهي!! ) .
والمبعوث الكاهن ريكولدو ، بنهاية كتابه ، يصفهم ,, ان المندائيين لديهم كتباً ، كتبت بالسريانية وبخطوط جميلة جدا ، اوراقها منتظمة .
ولهم اخلاصا كبيرا لزوجاتهم ولاولادهم وبناتهم ، وانهم قوم مسالمين صالحين ، ويتجنبون الاغراب والمتطفلين ,, ويختتم كتابه بعبارة ( كان المندائيون اغرب الاقوام ، لما شاهدته في الشرق ، انهم لايشبهون احد من الديانات الاخرى ..)

لم يستطع المبعوث ريكولدو ان يوصل رسالته بصورة مفصلة اكثرعن المندائيين الى قادة الكنيسة الكاثوليكية( الفاتيكان ) ، بسبب مرضه اثناء عودته من رحلة الشرق ، وتوفي بعد وصوله روما بفترة وجيزة . ولم يعثر على مذكراته عن رحلة الشرق حتى عام 1949 .

في منتصف القرن السادس عشر ، هذه المرة اكتشف البرتغاليون المندائيين ، عندما كان عددا من اتباع هذه الطائفة في شمال مدينة البصرة عند القرنة ( ملتقى نهري دجلة والفرات ليصبّا في شط العرب ومنه الى مياه الخليج ) يؤدون طقوسهم عل ضفة النهر ، عن طريق بعثة تبشيرية برتغالية ،وتم التعرف عليهم عن طريق الصدفة .
جاءت هذه البعثة التبشيرية من اقليم ,, غوا ,, حيث وصلت البصرة عن طريق مضيق هرمز، وان البرتغاليين كانوا يسعون لدخول منطقة الخليج . والتسلل للاراضي الاسلامية له هدفان ، اولهما عسكري ، والاخر ديني ، وهو للتحالف مع ملك الحبشة ، والسعي باعادتهم الى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية وذلك في عام 1555م .

وقع المندائيون تحت ضغط كبير وعنيف من مسلمي القوميات العربية والتركية والفارسية ، يهدف بتحويلهم للديانة الاسلامية ، بالاضافة الى الارساليات التبشيرية الاوروبية التي تاتي خلسة الى المنطقة لكسب اعدادا اكبر لتحويلهم الى الديانة المسيحية ، وكانت البعثات البرتغالية هي الاكثر نشاطا بهذا المجال .
بعد المتابعة الدقيقة والمراقبة المستمرة للفعاليات الدينية والحياتية للمندائيين في مناطق تواجدهم ، توصلت البعثة التبشيرية البرتغالية الى فكرة مفادها بان المندائيين هم البقية الباقية لاتباع يوحنا المعمدان ، والذين هاجروا من فلسطين الى جنوب بابل ، ونقلت البعثة البرتغالية الى القيادتين الدينية والحكومية في روما افكارها واستنتاجاتها ،على ان هؤلاء القوم في بلاد الرافدين السفلى ، هم المسيحيون الحقيقيون .
جاء اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية بمسيحية المندائيين ايضا، يرجع الى ان الرسول الانجيلي الذي كان قد وصل بلاد مابين النهرين ، كمبشّر للديانة المسيحية في هذا الجزء من الشرق ( ريكولدو) كان قد اجزم بان هؤلاء القوم ــ أي المندائيين ــ هم اتباع يوحنا المعمدان من تلاميذه واسرهم طالما يتبعون طريقة التعميد نفسها التي عُمّد بها يسوع ، وهم انفسهم ممن أُضطهدوا وعُذبوا على يد جند ,, هيرودس انتيباس ,, الذي قتل يوحنا المعمدان على يديه قبل ان يصلب يسوع ، لذا غادر اتباعه من فلسطين الى جنوب بلاد الرافدين في وقت لاحق مع اسرهم خشية من ان يلقوا نفس مصير متبوعهم .

استغرق الامر عدة عقود على بعض رؤساء الكنيسة الكاثوليكية وليس جميعهم ، والقائمين عليها ، بالقناعة شبه الكاملة ، بان المندائيين هم ليسوا بالمسيحيين الاوائل كما كانوا يعتقدون ، وذلك من خلال جولة البعثات التبشيرية المستمرة لاقليم خوزسستان في بلاد فارس عام 1609م ، حيث شوهد مجاميع اخرى من المندائيين و كهنتهم يحتفظون بكتب دينية مقدسة تختلف بالخط والمضمون عما تحويها الاناجيل المسيحية ، فالكتابة الارامية في كتبهم تختلف عن الخط الآرامي المالوف لشمال بلاد الرافدين ، وتاريخها ، وازمانها تعود الى زمن ابعد واقدم بكثير من ظهور القديس يوحنا ويسوع المسيح ، كما عرف ان لهم نفس الطقوس والمراسيم التي تحدث عنها الرسول الانجيلي لبلاد الرافدين ، لذا استبعدت فكرة ان تلك الطائفة، هم من المسيحيين الاوائل.

لكن كل هذا لم يمنع الكنيسة من ان تقوم بمحاولات اخرى للتعرف اكثر على هذه الطائفة ، ومن خلال مبعوثيها الى مناطق تواجد تلك الطائفة على امل تحويلهم الى الكاثوليكية في احسن الاحوال .

في منتصف القرن السابع عشر ، حدث خلاف بين قيادة الكنيسة الكاثوليكية “والرهبنة الكرملية” ( واسمها الرسمي رهبنة إخوة سيدة جبل الكرمل، وهي رهبنة في الكنيسة الكاثوليكية تأسست في القرن الثاني عشر، واسم الرهبنة مأخوذ من جبل الكرمل شمال حيفا) بقيادة المطران (بيرفوت) الذي قاد حملة وبفكرة جريئة لنقل وتحويل جميع اتباع الطائفة المندائية من جنوب بلاد النهرين وبلاد فارس الى اماكن اخرى في الخليج وبعض المناطق في المحيط الهندي التي كانت لاتزال تحت السيطرة البرتغالية . وكان اول من وثق فكرة المحاولة هذه ، الاب الايطالي” لونيلي اغناطيوس سنة 1652، في كتابا ليكون دليلا ليس للمبشرين المسيحيين فحسب ، بل مصدرا تاريخيا للكنيسة الكاثوليكية ، على ان هناك شراكة في الدين بين المسيحية والمندائية ، برغم الكثير من المتناقضات ، وايضا محاولة لشرح على ان المندائية هي مجموعة انشقاقية من المسيحية للكنيسة النسطورية في سورية ، وان هذه المجموعة المتحدرة ، من تلاميذ القديس يوحنا المعمدان ، والذين ارغموا على التخلي عن فلسطين بسبب الاضطهاد .
وكانت قيادة الكنيسة الكاثوليكية سبق وان تخلت عن فكرة ان المندائيين هم طائفة من المسيحيين ، ولكن تمسك الرهبنة الكرملية بموقفها ، زاد من حدة الصراع بينهما .

في عام 1633، تمكن احد الرهبان الذي يعمل مع احدى المجموعات التبشيرية للرهبنة الكرملية من ضم احد المندائيين للمسيحية ، ومُنح اسماً مسيحياً بعد تعميده (لويس دي سوزا) وانضم بعده عدد من اقربائه ، وبالتالي ليصبحوا جنودا ضمن صفوف الجيش البرتغالي! .
وبحسب ماكتبه الاب ,, ليونيلي اغناطيوس ,, أو,, آليسو الايطالي,, (كان اسمه قبل ان يدخل في سلك الكهنوت) ، في كتابه ( دليل نهج المندائية ) : قامت الارسالية المكلفة باعمال التبشير ، بايفاد اثنين من الاخوة المندائيين الى روما بعد ان منح لكل منهما اسما مسيحيا بعد اعتمادهما ،( ايزيدورو بامفيليا) و( جيوفاني باتيستا) ، وكان هذان المبعوثان قد استضيفا من قبل ارقى العوائل الرومانية النبيلة والمؤثرة في المجتمع الايطالي ، بوصفهما عرّابين لتلك العائلة .
كان اعتقاد الرهبنة الكرملية ، بالاقدام على هذه الخطة ، تهدف بها الى جر المندائيين من جنوب بلاد الرافدين ، شيئا فشيئا الى احضان الكنيسة الكاثولكية وتهجيرهم الى مناطق اخرى ، لكن سرعان ما انهارت الخطة الكرملية كاملة ، تبين فيما بعد ، وذلك لثلاثة اسباب ، اولهما ان القوة العسكرية البرتغالية المتواجدة في منطقة الخليج ، لاتملك القدرة اللازمة لنقل اعداد كبيرة من العوائل المندائية المدنية المتواجدة في جنوب العراق وفي ايران ، فيما امكانياتها الفنية هي عسكرية بحتة . والسبب الثاني وهو مرجحا ، كان العرّابَانْ المندائيان ، تاثيرهما على العائلة النبيلة الستضيفة لهما بدا واضحاً من خلال سلوك افرادها وميولهم للايمان بالعقيدة المندائية اكثر من المسيحية ، وكان هذا عاملا مهما لاعادة النظر بتلك الخطة < كانت هذه بداية تاسيس الطائفة المسيحية المعمدانية في اوروبا ، ومن ثم انتشارها في سائر دول الغرب >. اما السبب الثالث وهو الاكثر ترجيحا ، ان المؤرخ والمترجم ,, ابراهيم الحاقلاني الماروني ,,، قام بالتقرب من المندائيين لمحاولة دراسة اللاهوت المندائي ، ولمعرفة جذورهم واصولهم ، وكل مايخصهم من طقوس ومراسيم ، والاطلاع على كتبهم ومدوناتهم المكتوبة باللغة الآرامية وهي اللغة التي يجيدها ، بالرغم من اختلاف اللهجة ، وبعد البحث والدراسة الستفيضة والحوارات والمناقشات المستمرة ، تمكن المؤرخ الماروني الحاقلاني من دحض النظرية الكرملية من ان المندائيين هم انفسهم اتباع القديس يوحنا المعمدان الذين نزحوا من فلسطين الى جنوب بلاد الرافدين ، وانه كان من الصعب العثور على الاساس التاريخي لهذه النظرية . وان تمسك المندائيين بتعاليم يوحنا المعمدان وتبنيهم لها ، ماهو الا قبول ورضى عندهم ، ولكونها قريبة جدا من عقيدتهم وفلسفتهم وآرائهم الرافدينية .

عمت خيبة الامل الشديدة لدى المبشرين المسيحيين بعد تلقيهم تلك الانباء وذلك لسببين ، اولهما ، عناد المندائيين بعدم التحول الى المسيحية واصرارهم البقاء على عقيدتهم ، وثانيهما ، فشل الرهبنة الكرملية وبعض مناصريهم من اثبات نظريتهم حول تبعية المندائيين واصولهم .
وصلت الاخبار المحزنة ، قيادة الكنيسة الكاثوليكية ( الفاتيكان) ، والى شخص البابا ، والبيت الكرملي في روما ، وعم الحزن لفقدانهم املا بالحصول على مسيحيين جدد في منطقة تسودها الصراعات .

وفي النهاية تخلت الكنيسة الكاثوليكية عن فكرة تحول المندائيين الى مسيحيين ، واسدال الستار عليها والى الابد …

المصادر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ل ــ سيريلو ـــ الكنيسة الكاثوليكية والتاريخ ــ روما ــ 1984
ادموندو ــــ ف ـــ لوبيري ــــ المندائيون ,, المجموعة العرقية ،، لندن ــ2008
بولتمان ــ هــ ـــ ليزمان ـــ مشاركة المندائيين ـــ 1931
أد ـ جيك ـــ وقائع الكرملية في بلاد الرافدين ـــ مجلدات لندن ـــ 1939
ايثيل ــ س ـ دراور ــ المندائيون في العراق وايران ـــ اكسفورد ـــ1937
س ــ غوندوز ـــ الاصل والتاريخ المبكر للمندائيين ـــ مجلة الدراسات السامية ــ اكسفورد ــ1994
ي ــ م ــ ياموجي ــ المعرفة للاصول المندائية ـــ قسم الدراسات اللاهوتية ــ هارفارد ـــ ماساشوستس ـــ1970
كورت رودلف ــ الطوائف المعمدانية ـــ المانيا ـــ 1960

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.