لم يكن صوت بكاء أو صراخ رجل… كان ببساطة نداء استغاثة.. عرفت يومها وللمرة الأولى في حياتي انه بمقدور الحرية ان تبكي رغم كل صيت الكبرياء الذي يلفها… نحيبها كان يحفر حنجرة صاحبها بقدر ما يحفر أذان من يسمعه.. كنت متعلقاً بيد والدي حين وصلتنا استغاثة ذلك الرجل. استغربت من حدة الصوت… واستغربت أكثر من غرابة المشهد…. واستغربت أكثر وأكثر من الصمت الذي كان يختصر ردود فعل الناس العابرين العاجزين عن الاقتراب من ذلك الرجل الخمسيني … كان يتأرجح من يد إلى يد على مرأى الأحرار “المؤقيتن” ممن افلتتهم أيادي الصدفة “النحس” التي قادته او قادت “مرافقة” أحد أبناء عمومة الأسد إليه!
ما زلت أتذكر كيف نظرت إلى أبي وأنا أسأله “لماذا لا تسحبه من أيديهم”.. ما زلت أتذكر رجفة صوته ؤهو يعلق ممسكاً بقية قميصي “ولا كلمة. هل تريد ان ترى والدك مكانه؟” لم أعلق بكلمة.. خجلت يومها وانا في العاشرة من عمري أن أسأله “هل تخاف منهم” ؟! ما زلت أشعر بالخجل نفسه اليوم وأنا على أبواب الأربعين من الجواب الذي لم أسمعه رغم علم اليقين. كانت المقاهي المحيطة بتلك الزاوية تعج بالمطنشين؛ الكل كان معه حججاً مسبقة الصنع… منهم من شتم دخان نرجيلته لأنه منعه من رؤية “الرجل الخمسيني” الذي يُضرب.. وإلا لكان هب لمساعدته.. ورواد مقهى السبع البحرات احتجوا بأن قضية انفصال اليمن شغلتهم عن قضية “شبيحة الدكتور” وواحد من عشاق شارع بغداد يقسم لحبيبته وهو يعدو بها إلى الرصيف المقابل بأنه لولا وجودها معه لكان قد لقن هؤلاء الاوباش درسا بالشجاعة، ورابع لعن اللحظة التي أمسك بها بمجلة “نادين” في مكتبة جوجو مفسراً “الله يلعن هالمايوهات اللي طيرتلي عقلي”، الكل يومها أصيب بذبحة أخلاقية أو جلطة تقاعسية؛ فتناوبوا بين ربط الحذاء والاستيعاذ من الشيطان؛ مع الاحتفاظ بابتسامة باردة خوفاً من زيئر أحد أشبال الأسد وبطشهم في حال اكتشفوا والعياذ بالله أن هناك من يشفق على المواطن!
حدث هذا المشهد في اللاذقية في الثمانينات…
ومرت ثلاثون عاماً على المدينة… توفي أبي وتوفيت معه كل محاولاتي للحصول منه على إجابة تبرئة من ترك الرجل مرمياً بين السيارات…. يومها وللمرة الأولى جربت ان أكون حراً… مزقت أوراق الكتب وقررت أن أمارس المفهوم كشيء قابل للتطبيق لا للتصفيق… وماذا حدث… خرجت في مظاهرة… أجل مظاهرة…. م ظ ا ه ر ة…. قصدت باب البيت بقدمي… فتحت الباب بيدي… نزلت سلالم الدرج بجناحي… وركضت إلى “الصليبة” بحواس ستة لا عشرة…. كنت اركض وصوت حرية “الرجل الخمسيني” تعص على حبالي الصوتية.
تنفست بعمق….. نظرت يميني ويساري.. نظرت إلى أبي وهو يسألني”اتريد ان ترى أباك مكانه” وقلتها… والله قلتها… حرية…. أجل حرية… ح ر ي ة ….. بالصوت العالي.. بالصوت الخجول… بالصوت الحزين.. بالصوت المشاكس… قلتها بكل حبال الصوت التي لم نستعملها منذ ان كنا صغاراً… يالله كم كات لفظها سهلاً… والشعور بها يشق الطريق الواصل بين شارع بغداد والصليبة. كان شعوراً غريباً وجميلاً…. كنت أتمعن في الوجوه… انظر في العيون..في داخل العيون… أجل أنا معكم…. في الشارع… لست خائفاً… لن أكون بعد اليوم خائفاً…. ورأيت…. يالله من الذي رأيت….. صاحب النرجيلة في مقهى”السبع بحرات” كان يهتف على الاكتاف “حرية” ومن كان هارباً مع حبيبته؛ كان يحمل ابنه على كتفه ويقولان معا”حرية”‘ …. الكل أفاق من جلطته إلاخلاقية يومها وراح يهتف.. يردد.. يصرخ… ينادي بلهحة. اعادت إلى عروق لهجة أهل الصليبة دمها:
“واح واح واح، الشعب السوري واح”
يومها شعرت بيد أبي وهي تفلت ياقة قميصي…. أبي الذي عاش في زمن الأب صامتاً ومات في زمن الابن صامتاً أفلت قميصي يومها من دون تردد… من دون خوف… أفلتها بكل السعادة التي كنت سأشعر بها لو اقترب منذ ثلاثين عاماً من ذلك الرجل وانقذه… ولكنه يومها تركني أشعر بجناحي يخرجان من جلد سُجنّا داخله نحن جيل السبعينات من دون ذنب ارتكبناه لا بحق العصا ولا بحق الجزرة. لم أتمالك نفسي وأنا أردد “حرية” من النظر في عينيه… في داخل عينيه ليشهد على مخاض الحرية من رحم الخوف وبصحبتي كل أهل اللاذقية… كلها…. كلها….. للمرة الأولى في تاريخ الولادات يملك الجنين القدرة على النظر في عيني والده بشكل مباشر… النظرات كانت ثابتة.. تعرف مقصدها وتعرف مرماها….فماذا تغير؟!
ان كان الماء الملوث للنهر الكبير الشمالي ذاته، والسماء المكسوة بدخان معامل حديد جابر وحميشو نفسها، و الخضار والفاكهة المغسولة بمياه الصرف الصحي لم تتغير، و التعوذ من فساد بلدية ومحافظة المدينة لم يتغير، والخوف من إهانة شبيحة النظام وأعوانه لم تزدد جرعتها، و تسلط ابناء عموم الاسد بقي كما هو، والتشحيط والتفحيط والتنطيط فوق الاساطيح بقي على حاله، ومدرجات جامعة المدينة بقيت كما هي حبلى بالوافدين إليها، ومصايف البلد مازالت حكرا على عدد بسيط من العائلات، وشواطئ المدينة لا يرتادها الا فئة لا تتجاوز الخمسة بالمائة، و الاسواق التجارية خالية الا من أصحاب متاجرها، ومقاهي الشدة والاركيلة مازالت هي نفسها تعج بالهاربين من المدارس والجامعات, حتى مقبرة القلعة ترى الاموات تتكدس فوق بعضها ولا ميت يحتج.. فما الذي حدث؟
منهم من قال عدوى تونسية.
و اخرون قالو موضة عامة اجتاحت عالمنا.
وثالت قال انها من قلة الموت.
ما الذي حدث؟
هل حقيقةً هم اطفال درعا؟ هل حقيقةً هو اعتقال كم صبية في ساحة الحريقة بدمشق؟
المشكلة انني لا استطيع الجزم بحقيقة ما جرى، فكل سوري له سبب لثورته. فهل معقول ان يكون هناك ثلاث و عشرون مليون سبب للثورة في سوريا.زياد الصوفي – مفكر حر؟