الشرق الاوسط
نحن العرب ضائعون هذه الأيام، حائرون محتارون، ثم بشكل أخص خائفون، مرعوبون. قدرنا أو مصيرنا على كف عفريت. تتقاذفنا الأمواج من كل جانب كـ«القارب السكران» الذي تحدث عنه رامبو في قصيدة عصماء. الانقسامات المذهبية العتيقة جدا تنفجر في وجوهنا من أعماق التاريخ دفعة واحدة فنصاب بالهلع. لا أحد يعرف إلى أين تتجه الأحداث ولا ما هو المجهول الذي ينتظرنا. لا أحد يدلنا على الطريق أو يطمئننا نفسيا على الأقل عن طريق تقديم تفسير مقنع لما يحصل حاليا. إذا كنتم لا تستطيعون منع المجازر أو تغيير الواقع المرعب فعلى الأقل فسروه لنا أو سلطوا عليه الأضواء يا عباقرة العالم العربي! ما سبب كل هذه الحيرة الكبرى والتخبط؟ لا ريب في أنه يوجد عندنا مثقفون مهمون ومحترمون ولكن ليس على مستوى الكارثة الكبرى أو المنعطف التاريخي الهائل الذي نعيشه حاليا. لم نحظ حتى الآن بفلاسفة كبار من وزن ديكارت أو كانط أو هيغل.. فهل عقمت الأمة العربية يا ترى؟ لا أعرف. كان كانط في أواخر أيامه يتوقع ظهور فيلسوف كبير قادر على اكتشاف قوانين التطور التاريخي مثلما اكتشف كيبلر ونيوتن قوانين الطبيعة الفيزيائية والفلكية التي تمسك الكون. والغريب العجيب هو أن هذا الفيلسوف الذي تنبأ به سرعان ما ظهر بعد موته بسنوات معدودات: إنه هيغل! بل إنه ظهر في حياته في الواقع ولكنه لم يعرفه أو لم يتح له التعرف عليه لأنه كان لا يزال صغيرا في السن ولم ينشر شيئا يذكر بعد. ينبغي العلم أن كانط ولد عام 1724 وهيغل عام 1770، وبالتالي تفصل بينهما خمسون سنة تقريبا. وعندما مات كانط عام 1804 لم يكن هيغل قد نشر رائعته الكبرى «فينومينولوجيا الروح»: أي علم تجليات الفكر والوعي والروح عبر التاريخ. لا أحد يعرف ماذا سيكون رد فعله على هذا النجم الجديد الصاعد في سماء الفلسفة الألمانية. ولكن بما أنه شخص طيب في أعماقه فالأرجح أنه كان سيرحب به كل الترحيب ولن يغار منه على الإطلاق كما فعل سارتر مع ميشيل فوكو مثلا. على العكس كان سيشعر بالطمأنينة لأن المفكر الذي حلم به قد ظهر.
عندما أقرأ مقدمة كتابه «فلسفة التاريخ» أو «العقل في التاريخ» أستشعر فورا هيبة اللغة الفلسفية وعظمة الفلاسفة الكبار. أكاد أتخيل هيغل وهو يصعد كرسي الفلسفة في جامعة برلين وكأنه يمتطي صهوة العالم! إنه إمبراطور الفلسفة والفكر مثلما كان نابليون بونابرت إمبراطور الفتوحات والمعارك الحربية. الفكر أيضا معركة! الفكر أيضا فتوحات، صولات وجولات.. من على منصته العالية يبتدئ البروفسور هيغل دروسه بالكلمات التالية: «أيها السادة، إن موضوع هذه المحاضرات هو التاريخ العالمي من وجهة نظر فلسفية».. هكذا راح هيغل يحلق كالنسر فوق التاريخ العالمي كله بدءا من العالم الشرقي وحضارات الصين والهند وفارس ومصر وانتهاء بالعالم الغربي الإغريقي الروماني الجرماني. وبالتالي فلو ظهر هيغل حاليا لربما راح يصفق بكلتا يديه قائلا: «يا إلهي، لقد أصبح العالم العربي كله مختبرا لنظرياتي الفلسفية! إن أحداثه المتلاحقة وانفجاراته تؤكد على صحة طروحاتي الأساسية. العالم العربي يقدم لنا، في هذه اللحظة بالذات، أكبر مادة هائلة للفلسفة والتفلسف. أكاد أرى العالم العربي والإسلامي كله يختلج، يرتعش. أكاد أراه يصطدم بقعره الأسفل، بعمق أعماقه، وهذه علامة خير. أكاد أراه يقترب لكي يبتعد، يتصل لكي ينفصل. إنه يعود إلى الوراء لكي يقفز إلى الأمام. هؤلاء القوم سوف يدخلون التاريخ يوما ما ولكن ليس غدا وإنما بعد غد. ينبغي أن يحلوا مشكلتهم مع أنفسهم أولا. وبعدئذ لكل حادث حديث..».
ولربما فاجأنا هيغل بهذه القنبلة: «وحتى أكبر ضربة إرهابية في التاريخ (أي 11 سبتمبر/ أيلول) لم تحصل إلا لكي يستيقظ المسلمون من غيبوبتهم ويقوموا بمراجعة موروثهم من أوله إلى آخره. هذا هو المغزى الفلسفي العميق لضربة 11 سبتمبر التي تتحكم بالسياسة الدولية حتى اللحظة، وإلا فلا معنى لها على الإطلاق. وهذا هو معنى الانفجارات المذهبية المتلاحقة. ضمن هذا المعنى نفهم عبارة هيغل الشهيرة: «كل ما هو واقعي عقلاني»، بما فيها الحروب الأهلية والفواجع: أي لها ضرورتها الموضوعية المسجلة في أحشاء الواقع. وبالتالي فينبغي علينا أن نمر بكل هذه الأهوال قبل أن نصل إلى بر الأمان. لا يوجد حل آخر. هذا قانون من قوانين فلسفة التاريخ.
وربما أردف هيغل منبها: «آسف أن أقول لكم إن المشكلة المذهبية لن تحل قبل أن تنفجر وتشبع انفجارا. إذا ما كبرت ما بتصغر! ولذا فلا تقلقوا ولا تحزنوا، لا تخافوا ولا ترتعبوا. فالفوضى العارمة التي يشهدها التاريخ العربي والإسلامي كله تخفي وراءها شيئا آخر. إنها الزبد الذي يرغو على السطح. بمعنى أن عذابات الشعوب العربية والإسلامية ليست إلا مرحلة عابرة ولكن إجبارية لكي تصفى الحسابات التاريخية المعلقة أولا، ولكي تنفضح الأنظمة الديكتاتورية بكل أبعادها ثانيا فتفقد مشروعيتها ومصداقيتها تماما. فهذه الديكتاتوريات الأخطبوطية راحت تسيج المجتمع كله بالأسلاك الشائكة متوهمة أنها بذلك قادرة على مواصلة الحكم مليون سنة بعد إخماد روح الشعب تماما. ولكن فلسفة التاريخ تقول لنا إن الحرية تفصح عن وجهها الساطع من خلال انتفاضة الشعب العارمة. فالشعوب لا يمكن خنقها إلى الأبد. عاجلا أو آجلا سوف تنطلق كالمارد الجبار من أجل استرجاع حريتها المصادرة».
هذا ما قد يقوله لنا فيلسوف الألمان بلهجة عربية.. ذلك أن التاريخ بحسب هيغل ليس إلا عبارة عن «التقدم إلى الأمام من خلال الوعي بالحرية». وبشكل من الأشكال ألا يمكن القول إن تصورات هيغل تحققت على أرض الواقع بعد قرنين من موته أو حتى أقل؟ ألم يصبح الاتحاد الأوروبي أكبر فضاء للحريات في العالم؟ ولو فتحت الحدود ألن تهاجر معظم شعوب العالم إلى سويسرا وفرنسا وهولندا وألمانيا وبلجيكا والسويد والنرويج، إلخ؟
لكن هناك فكرة أخرى أساسية سوف يضيفها هيغل، وهي أن الدولة الليبرالية الديمقراطية الموعودة لا يمكن أن تنهض في أرض العرب إلا إذا تجاوزنا اللحظة الأصولية، فهي العدو اللدود لها. وهذه اللحظة لا يمكن تجاوزها إلا بعد أن تحكم ولو لفترة. ضمن هذا المنظور نقول إن اللحظة الأصولية الكبرى التي نعيشها حاليا بعد «الربيع العربي» المجهض والمصادر إخوانيا تقدم لنا أكبر خدمة من دون أن تدري. إن وجودها ضروري جدا لكي يستشعر الجميع خطورة الفهم الخاطئ للدين، ثم بشكل أخص لكي ينتصر التأويل الحضاري للإسلام على التأويل السائد: أي لكي ينتصر إسلام العصر الذهبي. وهذا هو معنى مصطلح هيغل الشهير: «الدور النافع للعامل السلبي في التاريخ». والمقصود فائدة الشر في نهاية المطاف: نعم الشر له فائدة، له وظيفة، وليس عبثا. لولا الشر لما انكشف معنى الخير، ولولا الظلاميات الحالكة لما كان للنور والتنوير أي معنى. فاصبروا أيها العرب، أيها المسلمون. وهنا يكمن أيضا «مكر العقل» في التاريخ. العقل يقود العالم بطريقة ذكية ماكرة ولكن لمصلحة البشرية. كلمة «مكر» مستخدمة هنا بالمعنى الإيجابي النبيل للكلمة لا بالمعنى السلبي الشائع. إنه يعكس الشر ضد ذاته ويستخدمه لمصلحة الخير. إنه يستخدم الظلامية المتطرفة بكل فظائعها وتفجيراتها كفزاعة للتعجيل باستهلال عهد التنوير العربي الإسلامي القادم. فكلما ازدادت غلوا وتطرفا اقتربت لحظته وازداد التوق إليه. وهنا يكمن الرهان الأكبر لما يحصل حاليا في العالم العربي والإسلامي كله.