لا ادري كيف شاءت الاقدار … او شاء من شاء … ان يعلن عن رحيل مام جلال في هذا التقاطع التاريخي من احداث و تطورات ….. بعد ان كان الرجل قد فقد حضوره و قدرته على الفعل منذ ما يقرب من خمس سنوات ايضا بفعل فاعل “مجهول”… لكن هل اصبح رحيله ضرورة للانتقال “الثوري” من مرحلة التعايش الى تأصيل الصراع و شرعنته منهجاً لإدارة العلاقات الكوردية في اطار اعادة هيكلة الشرق الأوسط و شبكة علاقت المنطقة مع العالم..؟؟…
ربما يعتقد البعض ان طرح السؤال بهذا الشكل ينطوي على قوى خارقة لمام جلال و دور رائد على المستوى العالمي…. طبعا من حق الجميع ان ينتقد…. لكن قراءة أولية ستغني عن الكثير من الهواجس الميتافيزقية و تقربنا من واقع ظهور الرجل على الساحة الكوردية و العراقية…
قبل مناقشة هذه النقطة الحساسة دعوني اعود الى الوراء قليلا… عندما توفي الرئيس الفنزويلي السابق كتبت مقالة بعنوان ” تشافيز و مشروع الواقعية الحالمة”…. و رغم ان جلال طالباني لم يكن عسكريا استولى على الحكم و لم يمتلك كثيرا من السلطات الا ان ابتسامته الدائمة و نقده لنفسه بل و كونه كورديا يحكم دولة عربية كانت تضعه بشكل او اخر في اطار يجمعه بتشافيز الراقص و المغني و اخرون مثله في أمريكا اللاتينية و غيرها من مناطق العالم …
مام جلال…. بين الاشادة و النقد الذين لهما كل الاحترام…كان ظاهرة جديدة في مفهوم السلطة في دولة امتازت بتاريخ طويل و مأساوي من الدكتاتورية و السلطة المطلقة … و حيث ان تعينه … و ان جاء نتيجة سياسة المحاصصة البغيضة… قد جاء في وقت غرق العراق فيه في بحر من الدماء سنة 2005 …حرب أهلية و طائفية … بلغة العلم…. الكل كان ضد الكل … و الممارسة السلطوية تحولت من العلاقة التقليدية بين الدولة و المجتمع الى علاقة بين المجموعات البشرية المختلفة المتصارعة على هذا الأساس او ذاك… حتى اختفت الدولة بمفهومها العام و تحولت الى اوليغاركيات سياسية و دينية و اقتصادية و ثقافية ..الخ …تشيطن بعضها و تقاتل بعبثية غارقة في اوهام الانتصار ..
في هذا الوقت ظهر مام جلال على الساحة السياسية العراقية العامة … و اول ما حاول ان يصنعه هو رسم الابتسامة على شفاه العراقيين …حاول ان يقدم نموذجا انسانيا للسلطة وان يرسخ ثقافة متكافئة للعلاقة بين الدولة و المجتمع … مام جلال حاول ان ينزل من القصر العاجي الذي عادة يختبيء فيه الزعماء و الملوك و الرؤساء الى الشارع …. الى حيث الناس و ضجيج الحياة اليومية … حاول ان يزيل صورة الحاكم المقدس و يضع بدلا منها صورة الانسان الذي يخطيء و يرتكب الهفوات و ربما الخطايا و يتقبل سخرية الناس و عتابهم بابتسامة الاعتذار و طلب العفو….
حاول ان يبعد منصب الرئيس من صورة الجلاد الذي يقضي و ينفذ الحكم “جائراً كان ام عادلاً”… و يزرع بدلا منها صورة الرئيس الراعي لهموم الناس حيث الحاجة الى ثقافة التعايش السلمي و قبول الاخر و التعاون و التضامن… و لعل هذا كان سبب رفضه التوقيع على حكم إعدام صدام حسين…
كما ان ولعه الشديد باللغة العربية و الشعر العربي لم يكن فقط بسبب ارتباطه التاريخي مع شاعر العرب الأكبر الجواهري… بل بسبب ارتباطه النفسي بالثقافة العربية و إيمانه مع مجموعة من رفاقه في الاتحاد الوطني الكوردستاني بالإمكانية الفعلية للتفاعل الإيجابي بين الكورد و العرب … و بين الأقليات و الأغلبية في المجتمع العراقي و كذلك في مجتمعات المنطقة كلها…بل اكثر من هذا … بين وجع التاريخ و إرث التهميش و التحقير و صراعات الثورات و الدماء و التشرد و التشريد و مل اخطاء الماضي و مآلاتها… في سبيل بناء وطن للجميع و مجتمع متكاتف يتجاوز الاختلافات و الخلافات…. مرة اخرى… الامتناع عن التوقيع على اية احكام إعدام كان جزء حيويا من مشروع الواقع الحالم..
لا ادري الى مدى نجح في تقديم نموذج اخر للسياسي و خاصة الحاكم… لكنه حاول… و ربما لهذا السبب تم إسكاته بفعل “الجلطة”… و اخيراً تمت إزاحته كلياً.. لان هناك من يرى “ضرورة” العودة الى صورة الحاكم بأمر “الله” أو أمر “الشيطان “… !!!…و ان الشرق الأوسط لابد يمر عبر مراحل دموية من صراع ” الكل ضد الكل” مرة اخرى كي تتبلور الحدود و الانتماءات و التحالفات …!!!..
طوبى لمام جلال و آماله و للمشروع الذي آمن و عمل على تحقيقه … و سلام للحالمين بعالم يسوده السلام…. حبي للجميع..
Sendt fra min iPhone