الدولة حسب نظرة ماركس ليست أكثر من لجنة تعمل لصالح الطبقة السائدة. هكذا نظر للدولة البرجوازية في وقته ونفس النظرة كانت لدولة الكومونة ( كومونة باريس). الرؤية الماركسية للدولة لم تتغير ولم تطرح نظرية جديدة حول الدولة الاشتراكية.
اذا انتقلنا لثورة اكتوبر الشيوعية في روسيا، نجد ان الدولة السوفييتية الاشتراكية حافظت على نفس جهاز الدولة البرجوازية في تنظيمها وإدارتها للمجتمع والاقتصاد والسياسة. التبرير السوفييتي اللينيني وثم الستاليني كان ان الدولة في مرحلتها في ذلك الوقت كانت ضرورية من أجل حرب الطبقات في الداخل والخارج. لا اريد نقاش هذا الطرح التبريري لعدم تطوير جهاز دولة اشتراكي، والمعروف انه لم تتطور نظرية جديدة حول موضوع الدولة.
استمرت الدولة السوفييتية كدولة برجوازية في تركيبتها وتنظيمها وأسلوب إدارتها وهذا انعكس سلبا على الاقتصاد الاشتراكي والمجتمع الاشتراكي الذي قيل انه يبنى .. ولكنه موضوع آخر.
لا بد أولا ان أُسجل قناعتي من تجربتي الخاصة، بان معرفة جمهور المثقفين والشيوعيين من قادة وكوادر على حد سواء للنظرية الماركسية، هي معرفة هشة وسطحية. حتى اليوم لم يقل أي زعيم شيوعي، حتى من زعماء الدول الشيوعية السابقة بما فيهم زعماء الاتحاد السوفييتي وفلاسفته الماركسيين، ان ماركسية ماركس هي نتاج واقع سياسي وتاريخي واجتماعي واقتصادي له مميزاته الخاصة في فترته التاريخية المحددة، وان نسخه ومحاولة جعله نظرية صالحة للتطبيق في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متغيرة هو نوع من الفهم الديني للماركسية. ان التعامل مع رؤية ماركس كنظرية اجتماعية اقتصادية هي مبالغة مجنونة وخطأ فكري كلف الحركة الشيوعية ثمنا لا تعويض له. ماركس قرأ بشكل صحيح واقع الفترة التاريخية التي مارس فيها نشاطه الاجتماعي والسياسي والفكري. الحركة الشيوعية نقلت تحليله بصفتها نظرية مطلقة صالحة في كل زمان ومكان وحاولوا تطبيقها على واقع مختلف بتركيبته وتطوره واقتصاده ومجتمعه وفكره وجمهوره.
المضحك ان هذه الحال تتواصل حتى اليوم. قائد شيوعي قال مرة في ندوة حضرتها ما معناه الحرفي:” نحن حزب ماركسي لينيني نؤمن بالصراع الطبقي التناحري” عندما نوهت امامه باني لا اعرف ما هو الصراع الطبقي التناحري وأين يجده في عالم اليوم، أجابني بدون تردد وبدون تفكير ” بان الحزب لا ينزلق مثلما انزلق الرفيق نبيل عودة”. تمنيت للحزب انزلاقا مثل انزلاقي ، والتزمت الصمت من رؤيتي ان الحوار معه سيكون حوارا عقيما..شخص متمسك بصياغات أشبه بالصياغات الدينية. للأسف هذه حال حركة ثورية كان لها تاريخا وطنيا ودورا هاما في واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، لم يكن تاريخ الحزب النضالي الا نضالا وطنيا بطابعه وليس ماركسا طبقيا. الماركسية والطبقية كانت غطاءا سهل نشاط الحزب وتجنيد قوى شيوعية يهودية، قبل ان يحدث الانشقاق الذي أعاد الكثير من الكوادر اليهودية الى الحلقة الصهيونية التي جاء منها أصلا.
ماركسية الحزب كان لها دورا لا علاقة له بنظريات ماركس ولا حتى بماركس نفسه من قريب او بعيد ، انما بفكر ثوري وتثقيفي لمقاومة القهر والدفاع عن حقوق الانسان وحقه بالمساواة وقد انجز الحزب الشيوعي الاسرائيلي مهمته التاريخية بشكل يستحق الاحترام للقيادات التاريخية للحزب.. كانت حركة شيوعية طرحت فكر العدالة الاجتماعية والديمقراطية والمساواة بما في ذلك المساواة للنساء. وقف الحزب وقادته الطلائعيين ضد الحكم العسكري والعنصرية التي ميزت جهاز الدولة في تعامله مع الأقلية العربية ، صان لغتنا واطلق ثقافتنا بمواجهة الحصار.. طرحه الثوري الهمنا شبابا ورأينا بالحركة الشيوعية بيتنا الطبيعي.
ومثل الحكايات الأسطورية الجميلة.. لكل حكاية نهاية.. كنت اتمنى ان لا تكون النهاية بهذا الشكل المذل. الحزب ربما لم يفقد تماما قوته السياسية، لكنه فقد ما هو أخطر، فقد مكانته الثقافية،فقد مكانته الاعلامية، فقد مكانته الفكرية، فقد مكانته كقوة حاسمة في قيادة الجماهير العربية، فقد قدراته التنظيمية وماكنته في قيادة السلطات المحلية العربية.
في الاتحاد السوفييتي نشأ نظام ستاليني ارتكب مجازر ضد مواطنية وطبق أحكاما لا يمكن ان يستوعبها العقل السليم. حتى قادة حزبيين من المساهمين بالثورة الاشتراكية لم ينجيهم تاريخهم من تهم الخيانة والإعدام. قام ستالين بحملة تطهير في نهاية الثلاثينيات اعدم خلالها شخصيات بارزة من قادة الحزب بتهمة انهم مؤيدين لفكر تروتسكي (تروتسكي من أهم وأبرز قادة ثورة أكتوبر ومن أبرز المثقفين الماركسيين) ومنهم : نيكولاي بوخارين واليكسي ريكوف و الالاف غيرهم وفي النهاية تمكن ستالين من اغتيال تروتسكي في المكسيك. الخلاف بينهما كان ان تروتسكي يؤمن بالثورة المستمرة بينما ستالين اكتفى بتطبيق الثورة في الاتحاد السوفييتي ورغم ذلك كان تروتسكي، حتى اثناء هربه الى المكسيك، يدعو ستالين الى تطوير الصناعة كضمانة لقوة الدولة السوفييتي.
كذلك قام ستالين بعملية تطهير واسعة في الجيش كادت ان تقضي على الجيش الأحمر مع بداية الحرب العالمية الثانية اذا افتقد الجيش لعناصر ضباط الصف، وقد حرر عددا كبيرا من الجنرالات والضباط المختلفي المراتب ليقاتلوا الألمان وكانوا حسب شهادات كثيرة من أفضل المقاتلين والقادة الميدانيين في الحرب.
من جهة أخرى ادار ستالين جهازا امنيا رهيبا تحت قيادة الرفيق جينريك ياغودا , رئيس شرطة ستالين السرية الذي كان يتلذذ بتعذيب واغتصاب وإعدام ضحاياه بنفسه في أقبية المؤسسة الرهيبة التي يديرها، الرفيق ياغودا أرسل ملايين الناس إلى معتقلات الجولاك الرهيبة في سيبيريا بأحكام تصل الى 20 و25 سنة، ليعلموا هناك بلا هوادة في شق طرقات وحفر قنوات وقد مات الملايين الذين عوملوا كعبيد بلا أي حقوق، كانت مجرد شكوى من أي مواطن ضد أي مواطن آخر تكفي لتصفيته. اقرأوا مثلا رواية مشهورة اسمها “ولد 44 ” التي تقدم مشاهد موثقة رهيبة عن جهاز الشرطة السرية للرفيق ياغودا. فيما بعد (اعتقد في فترة خروتشوف) جرد هذا الوحش من مناصبه العسكرية والمدنية وادين بتهمة الخيانة واعدم. لكن ضحاياه واقاربهم وعائلاتهم وابناء الشعب السوفييتي السابق ما زالوا يتألمون ويتذكرون كيفية تطبيق الاتحاد السوفييتي للعدالة الاجتماعية وحقوق المواطن والانسان. لذا ليس بالصدفة ذلك الانهيار السريع للنظام السوفييتي مع بالغ الأسف لنهاية هذه التجربة بهذا الشكل المهين.
صحيح ان ستالين ، وهذا يقال بحقه انه نقل الاتحاد السوفييتي من دولة زراعية ضعيفة التطور الى دولة صناعية قوية كانت وراء انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية. لكن ذلك ليس تبريرا للجرائم التي ارتكبت ضد المواطنين الأبرياء.
ما زال الشيوعيون يستعملون تعبير البروليتاريا في اشارتهم للطبقة العاملة، ولو كانوا يملكون ذرة من الفكر الواعي (حتى الماركسي) لتخلوا عن هذا الاصطلاح الذي كان سائدا في بداية تطور النظام الرأسمالي في دول اوروبا فقط ولم تنشأ البرولياريا في أي مكان آخر خارج اوروبا. كما قلت في بداية مقالي رؤية ماركس (او نظريته كما يحب ان يسميها الشيوعيين) هي نتاج واقع سياسي وتاريخي واجتماعي واقتصادي له مميزاته الخاصة في فترة ماركس التاريخية المحددة، أي ليست نظرية اطلاقا انما واقعا سياسيا اجتماعيا محدد بفترة تاريخية.
ان بداية استعمال تعبير “البروليتاريا” كانت في الأدب السياسي الانكليزي بهدف وصف فئة العمال المعدمين وتمييزها عن العمال الآخرين…اصطلاح البروليتاريا أصله روماني وكان يعني في زمن استعماله في الامبراطورية الرومانية الفئات الأكثر فقرا في المجتمع لدرجة انهم معفيين من الضرائب التي كانت تجبيها الدولة الرومانية من مواطنيها.
طبعا الشيوعيون ما زالوا متمسكين بهذا التعبير حتى لوصف موظفين يربحون مئات الاف الدولارات سنويا وربما شهريا.دون الفهم ان البروليتاريا هي ظاهرة تاريخية عابرة تلاشت من المجتمعات البشرية في أواخر القرن التاسع عشر مع النهضة الاقتصادية الرأسمالية.. ولم تتجاوز هذه الظاهرة حدود القارة الأوروبية.
واقع الحركة الشيوعية اليوم مريع . تاريخها لا يمكن الاستهتار به.. خاصة في بلادنا.. لكن التاريح ليس ضمانة وبراءة أمام ارتكاب الحماقات!!
nabiloudeh@gmail.com
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- آشور بانيبال يوقد جذوة الشمسبقلم آدم دانيال هومه
- المرأة العراقية لا يختزل دورها بثلة من الفاشينيستاتبقلم مفكر حر
- أفكار شاردة من هنا هناك/60بقلم مفكر حر
- اصل الحياةبقلم صباح ابراهيم
- سوء الظّن و كارثة الحكم على المظاهر…بقلم مفكر حر
- مشاعل الطهارة والخلاصبقلم آدم دانيال هومه
- كلمة #السفير_البابوي خلال اللقاء الذي جمع #رؤوساء_الطوائف_المسيحية مع #المبعوث_الأممي.بقلم مفكر حر
- #تركيا تُسقِط #الأسد؛ وتقطع أذرع #الملالي في #سوريا و #لبنان…!!! وماذا بعدك يا سوريا؟بقلم مفكر حر
- نشاط #الموساد_الإسرائيلي في #إيرانبقلم صباح ابراهيم
- #الثورة_السورية وضرورات المرحلةبقلم مفكر حر
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟بقلم مفكر حر
- تلغراف: تأثير #الدومينو علی #ملالي_إيران وتحولات السياسة الغربيةبقلم حسن محمودي
- الميلاد آتٍبقلم مفكر حر
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- آشور بانيبال يوقد جذوة الشمس
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :