حدث متغيران متقاربان القرن الماضي، لهما تأثير مباشر على العالم العربي: عودة تركيا للاهتمام بشؤوننا والسعي إلى علاقات أفضل بعد تجاهل طويل، وسقوط الاتحاد السوفياتي. في حوار مع مسؤول عربي كبير، اقترحت تشكيل مجموعة، أو مجموعات، متخصصة تذهب إلى مخزنين تاريخيين: الأرشيف التركي والأرشيف السوفياتي. قوتان لعبتا أدوارا مهمة في حياة المنطقة طوال قرون ويجدر بنا أن ندرس الوثائق التي لديهما، لسببين: معرفة شيء إضافي عن أنفسنا، ومعرفة أي شيء عنهما وعن سلوك ونيات الجانب الآخر من الدول الكبرى.
الحقيقة أن مثل هذه المهمة كان يجب أن تقوم بها مؤسسة خاصة تابعة للجامعة العربية، وهذه لا وجود لها. أو أن تتولاها مؤسسة علمية مؤهلة، كالجامعة الأميركية في بيروت أو في القاهرة، وهذه مشبوهة بتهمة العلم والمعرفة وحب الاستطلاع. والاستطلاع هنا بمعنى البحث العلمي، وليس بمعنى مكتب الاستطلاع السوري في مدينة عنجر، من أعمال لبنان، لصاحبه سابقا اللواء رستم غزالي.
أتذكر ذلك الحوار قبل أكثر من ربع قرن، كلما توغل في عالمنا الحديث، الدوران القديمان، الروسي والتركي. لاحظ أنه لولا بعض الاستثناءات، فإن العالم العربي لم يُقم بعثات دبلوماسية ذات شأن، في موسكو السوفياتية أو الروسية، وكذلك في أنقرة.
مجرد عاصمتين من العواصم! ولكن فجأة نرى أمامنا فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف، ورجب طيب أردوغان وداود أوغلو. ونرى اليد الروسية في المعجن العربي، وخميرته كالعادة الدماء، كما نرى أن تركيا التي تجاهلتنا وتجاهلناها بعد سقوط الإمبراطورية، لم تترحل عن حدودنا إلى أي مكان.
يجب أن نعرف حلفاءنا بل أعداءنا وخصومنا أيضا. ويجب أن نعرف خصومنا أنفسنا، وهو التحدي الأكبر، لأن ذروة الجهل أن تجهلها وذروة المعرفة أن تحاول معرفتها. يكتب المتحذلقون منا أن أردوغان هو السلطان سليم الجديد وبوتين هو بطرس الأكبر الجديد. وهذا صحيح لكنه غير دقيق. إذا تأملنا الوضع أعمق قليلا نرى أن أردوغان هو السلطان سليم القديم، وبوتين هو بطرس الأكبر بنفسه.
لماذا؟ لأن الجغرافيا حالة ثابتة يتغير التاريخ من ضمنها لا من خارجها. عندما يطلب السلطان من وزيره أو القيصر من وزيره مشورة في شؤوننا يكتب فوقها دائما: ما هي مصلحتنا هناك. ما هي أرباحنا. ما هي خسائرنا. ولكي نعرف نحن ما هي يجب أن نعود إلى وثائق السلطنة والإمبراطورية.
منقول عن الشرق الاوسط