لا يسوء المملكة العربية السعودية أن يهاجمها حزب الله، عبر مسؤوليه أو من خلال إعلامه! تغير العالم، والسعودية ليست البلاد فائقة الحساسية التي كانتها. فمن يبذل دمًا في اليمن، ويسلح في سوريا ويدعم ثروات حقيقية في مصر، بات جلده سميكًا حيال شتيمة هنا وهجاء هناك!
ما يسوء المملكة أن يصير لبنان الرسمي، أي دولته المركزية ممثلة بحكومته، منصة عدوان على المملكة وعلى الخليج عامة، تحت عناوين كاذبة تنتحل صفة المصلحة الوطنية اللبنانية!
ما يسوء المملكة أن لبنان أضحى بدولته المركزية ممثلة بحكومته، ضعيفًا للحد الذي يجعل موقفه العملي أقرب لإيران وخطابها واستراتيجيتها، منه إلى العرب وهم في عز العدوان على أمنهم واستقرارهم ودولهم ومجتمعاتهم! يكفي إيران أنها تخرق الإجماع العربي، بصوت عربي من داخل الدولة وليس فقط من منابر الضاحية الجنوبية لبيروت. وفعلت!
وفي التداعيات، يسوء المملكة أن موقفًا كهذا كان ليمر مرور الكرام، مصحوبًا ببيانات استنكار معدودة، لولا غضبة الرياض والخليج، التي فرضت حالة طوارئ على حلفائها في لبنان، ولا تزال تضعهم في خانة الإرباك بحيث لم يرتقِ الخطاب أعلى من خطاب الاسترضاء، والاسترحام وكنايات الأخ الأكبر والأخ الأصغر!!
وقد تأكدت الرياض بعد غضبتها، أن البيان الصادر عن حكومة الرئيس تمام سلام هو تكريس فعلي لتوازن السلاح وسطوته، ليس في الحياة الوطنية اللبنانية بل عند لبنان الرسمي، أي دولته المركزية ممثلة بحكومته!
هذا بالضبط ما يسوء المملكة. وهذا بالضبط مكمن الخطأ في نظرة الرياض إلى لبنان. لنعترف مرة واحدة وأخيرة أن أشياء كثيرة اغتيلت مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري ليس أقلها محاولة اغتيال عروبة لبنان واغتيال الدولة فيه. لبنان منذ ظهيرة 14 فبراير (شباط) 2005 ليس دولة. هو ساحة صراع مفتوح مع المشروع الإيراني نجحنا فيها حينًا وفشلنا أحيانًا. قاتلنا فيها دفاعًا عن لبناننا الذي قضى مع رفيق الحريري ورفضنا دفنه معه. وقاتلنا نيابة عن كل العرب، الذين نما حزب الله في وجدانهم ومخيلتهم قبل أن ينمو فوق رقابنا وصدورنا، وكنا نقاتله في صحافة بيروت حين كانت أعلامه ترفرف في ساحات الأزهر وقلوب العرب!
ولأن لبنان ليس دولة، بل ساحة صراع مفتوح، بل الساحة الوحيدة التي كسرت حزب الله مرتين وفي عمليتي انتخاب متتاليتين، عامي 2005 و2009، أقول: إن الخطأ لم يكن في سحب الهبة، بل في منح الهبة من الأساس. فالتصور السياسي الذي أوصل للهبة، أي دعم الدولة في مواجهة الدويلة، هو نفسه التصور السياسي الذي يجعل الرياض غاضبة من الدولة حين تكتشف أنها نسخة ملطفة عن الدويلة!
أسقطوا وهم دعم الدولة التي يسيطر عليها حزب الله في لبنان، فوظيفتنا فيها كلبنانيين هي حماية الحد الأدنى منها ليوم سيأتي ويتحرر فيه
لبنان من الاحتلال الإيراني! وحمايتها ليست بالدعم الاستثنائي لمؤسساتها القائمة والمستتبعة، بل بتمتين المشروع السياسي المواجه لحزب الله!
لنسمِّ الأشياء بأسمائها. بأقل من أربعة مليارات بكثير يمكن دعم مشروع سياسي حيوي ونشط في لبنان في مواجهة دويلة الحرس الثوري، سياسة وإعلامًا وتنمية. فلبنان ملعب سياسي وإعلامي قبل أي شيء. نعم حزب الله يعرف أن رهان خصومه على الدولة لذلك يضعفها ويضعف مشروعهم السياسي من خلال الاعتداء عليها وبهدلتها واستتباعها!
لا طائل من الاستمرار في معركة دعم الدولة إلا بالحدود التي تسمح ببقاء الهيكل واقفًا، وهذا لا يتطلب مليارات للجيش الذي يترجم إرادة سياسية بعدم الاصطدام بحزب الله لا الآن ولا بعد عشرات المليارات!
سأكون صريحًا. إن شعور الكثير من اللبنانيين من حلفاء المملكة حيالها، يشبه شعور الكثير من السعوديين حيال أميركا. شعور بالفقد والتخلي وسوء الفهم المتبادل. فالبلد متروك عمليًا منذ ما قبل انتخابات العام 2009، وقدرته على الصمود تضعف كثيرًا!
وإذ ينظر اللبناني حوله ويرى سوريا والعراق، أي الساحات الفعلية للمواجهة مع إيران، لن يتشجع لمغامرات غير محسوبة ولا تندرج في سياق مواجهة متفاهم عليها، لأنه سيكون الخاسر بسبب توازن القوى الحالي، ويفقد لبنان بالتالي آخر صمام أمان يمنعه من السقوط التام في قبضة إيران.
ما لا يريد أن يعترف به أحد أن لبنان يعيش حربًا أهلية باردة يُلبسها اللبنانيون كل أنواع الأقنعة إلا قناعها الحقيقي.
المعركة الآن هي معركة إعادة التوازن إلى الساحة اللبنانية، لحماية الدولة لاحقًا. الساحة أولاً. وهذا يبدأ بإزالة الشكوك وترميم الثقة والتخفف من الأوهام والدعم الصحيح في المكان الصحيح والإقلاع عن «استراتيجية الزعل»!
لبنان العرب لم يقصر في معركة لبنان والعرب ولا حاجة لإعادة سرد رواية الدم منذ خريف العام 2004 وحتى اغتيال الحبيب محمد شطح!
أخشى أن ترتكب المملكة مع لبنان الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته مع العراق، ما رماه فريسة كاملة لإيران!
فما لا يؤخذ كله لا يترك جله. وما لا تؤخذ دولته إلى خياراتها الطبيعية لا تترك ساحته للهزيمة المحققة.
ساحة لبنان تقول: وا سلماناه.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”