نجح مؤتمر فصائل المعارضة السورية في الرياض، وأكد شراكةً سعودية – سورية تامة لأجل سورية حرة، مدنية وتعددية يناضل لأجلها سلماً أو حرباً، وذلك عندما اتفق على أن تكون الرياض مقر «الهيئة العليا للتفاوض» التي ستقود المعركة الديبلوماسية لإسقاط بشار الأسد ونظامه في اجتماعات صعبة في نيويورك الشهر المقبل. أما إن لم تنجح الديبلوماسية فالبديل هو استمرار الثورة والعمل المسلح بدعم سعودي. ليس هذا قولي، وإنما تصريح متكرر من وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، أكده مجدداً في مؤتمر صحافي إثر اختتام قمة مجلس التعاون التي توافق موعدها مع اجتماع المعارضة، فأكدت دعمها لما يتفق عليه السوريون والسعوديون أيضاً.
أسهم في نجاح المؤتمر هيثم مناع وصالح مسلم بغيابهما، الأول زعم يوماً أنه ناشط حقوقي، والثاني زعيم لحزب كردي انفصالي، وحسناً أنْ غابا ومن يوافقهما الهوى، فلو حضرا لفجّرا الاجتماع، ليس بطريقة «داعش» المفضلة، وإنما بإثارة قضايا الهوية وحقوق الأقليات والمرأة و «علمانية الدولة» وإلى كم من الديموقراطية تحتاج سورية المستقبل، وحدود الإقليم الكردي وعلاقته بكردستان الكبرى. يفعلون ذلك بينما لا يجد السوري في الداخل ملجأ يحميه من قصف وقتل القوى «العلمانية» الروسية، أو البعثية «التقدمية»، وحتى الطائفية الإيرانية الحريصة على «نصرة المستضعفين»، بحسب زعمها.
هناك كُثُرٌ مثل هيثم مناع وصالح مسلم، سوريون وغير سوريين، يتركون القتل الجاري والجوع والتهجير العرقي ويريدون مناقشة وثيقة صدرت عن «أحرار الشام»، أو خطبة ألقاها قائد في «جيش الإسلام». هل هناك أفضل من استخدام صور أقفاص دوما التي وضع فيها ثوارها علويين وتركوهم على أسطح المنازل لعلهم يردعون النظام والروس عن استهداف المدنيين والمستشفيات بعلم ومعرفة؟ كان منظراً قبيحاً، وتصرفاً خاطئاً، ولكن يجب رؤيته في سياق مشاهد آلة القتل الكبرى التي تسحق كل يوم مئات السوريين وسط صمت دولي.
نجح المؤتمر لأنه جمع السوريين المؤمنين بفكرة «الجماعة السورية الكبرى». لكل منهم – الإسلامي والقومي والوطني والكردي والمسيحي وبقية الهويات السورية – رؤية وأمنية في سورية المستقبل. لكنهم يعلمون أن تلك الأماني لن تتحقق في سورية الأسد الطائفية القمعية، ولا سورية الفوضى أو سورية المُقسّمة، ولا حاجة إلى ذكر سورية «داعش»، وبالتالي نظر كل منهم أولاً إلى العوامل المشتركة التي تجمعه مع أبعد سوري في قاعة مؤتمرات فندق «انتركونتيننتال» في الرياض، فكانت التخلص من بشار، ووحدة الوطن، وتفكيك مؤسسات النظام الأمنية، ومدنية الدولة، ثم انتقل إلى تفاصيل تجادلوا فيها في شأن المرحلة الانتقالية ومدتها، وما إذا كان لبشار مكان فيها. المهم أن يرحل مثلما صرخ أول شاب في حماة يوم كانت الثورة سلمية وهتف: «ارحل.. ارحل يا بشار». كان ذلك شعاراً جامعاً هناك، وجامعاً أيضاً في الرياض.
ولكنه يعلم أيضاً أن هذا الشعار غير مجمع عليه خارج السعودية وحلفائها الصادقين القلائل، فليس كل قادة العالم، حتى أولئك الذين تسمّوا يوماً «أصدقاء الشعب السوري»، مستعدين لأن يذهبوا إلى حد الدعم غير المحدود الذي نقله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف إلى ممثلي الفصائل المسلحة الذين خصهم بلقاء قبيل افتتاح المؤتمر، فقال لهم: «نحن إلى جانبكم حتى تحقيق طموحات الشعب السوري البطل مهما كلفنا الأمر». بل حضّهم على الصمود ورفع سقف مطالبهم، مؤكداً أن المملكة لن تقبل بدور لبشار الأسد في أي صيغة حل، «موقتة أو دائمة».
في الوقت نفسه يرون تسريبات من حلفاء مفترضين كالولايات المتحدة تكشف أن إدارة الرئيس باراك أوباما أخذت تقتنع أكثر بأن الأسد هو شر أصغر بالمقارنة مع «داعش»، كما كشفت مذكرة كتبها منسق الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي السابق فيليب غوردون ونشرت الأسبوع الماضي. هذا التطور يشير إلى حيرة الإدارة الأميركية حيال النظام السوري، ما يرجح بالتالي تفضيلها الدفع بمصير بشار إلى طاولة المفاوضات وليس الحسم العسكري أو الأممي «لأنه لن يسقط عسكرياً» على أمل الاستفادة بإبقاء الدولة السورية وجيش بشار وتوظيفهما في الحرب على «داعش».
فكرة ساذجة بالنسبة إلى سوري أو سعودي يعرف سورية جيداً ويمكن أن تسمعها بغمغمة من وزير الخارجية الأميركي جون كيري، مثل قوله الأسبوع الماضي خلال مؤتمر صحافي في أثينا: «ليس واضحاً بعد ما إذا كان يتعين على الرئيس السوري بشار الأسد الرحيل أولاً لتأمين وجود تعاون بين المعارضة المسلحة والجيش السوري لمحاربة تنظيم داعش». ترجمة ما سبق وإعادة تركيبه من جديد هو التحدي الذي سيواجه المملكة والسوريين في مفاوضات كانون الثاني (يناير) المقبلة التي يفترض أن تناقش مرحلة الحكم الانتقالي، والتي سيفاوض فيها الوفد الذي انبثق عن مؤتمر الرياض وحظي بغطاء شرعي من الشعب السوري ودعم سعودي – ويفترض – إقليمي ودولي.
قول ذلك أسهل من فعله، فالمعركة هنا ستكون في محورين: الأول مع الأعداء وهم الروس والإيرانيون غير المتحمسين أصلاً لاجتماع الرياض ونتائجه، والذين سيشكّكون فيه ويحاولون مرة أخرى نفي صفة التمثيل والاعتدال عنه، ومع الحلفاء المترددين والحائرين الذين يقولون كلاماً مغمغماً مثل تصريح كيري أعلاه ومذكرة غوردون المشار إليها والتي يؤيدها حتى الآن المنسق الجديد للشرق الأوسط روب مالي، وهو خبير أمني في الإرهاب.
السعودية تريد أن تستنفد إمكان الحل السلمي، فهي مدركة أن التدخل الروسي غيّر قواعد اللعبة، وأن «داعش» من جهته غيّر أولويات الغرب والولايات المتحدة بعد اعتداء باريس، لذلك أمامهم والسوريين، بعدما أصبحوا فريقاً واحداً، اختراق هاتين الجبهتين: إقناع الحلفاء بأن من المستحيل تشكيل قوة سورية وطنية تحارب «داعش» قبيل إسقاط نظام الأسد، والغرب المستعجل الذي يتخيل أن في الإمكان توحيد قوى المعارضة مع الجيش ومخابرات النظام الغارقين في الطائفية ودماء الشعب السوري معاً، وهو ما سترفضه بالتأكيد الفصائل المقاتلة التي شاركت في مؤتمر الرياض ثقة بالمملكة، ولكنها تتخوف كما أوضح بيان لـ «أحرار الشام»، وهي جماعة لا تخفي سلفيتها وجهادتيها وتطلعها إلى دولة إسلامية في سورية، فوضعت سقف مطالبها في خمس نقاط، هي: تحرير كل سورية مما وصفته بـ «الاحتلال الروسي – الإيراني والميليشيات الطائفية»، وإسقاط كامل النظام وتقديم أركانه لمحاكمة عادلة، وتفكيك أجهزته الأمنية، ورفض المحاصصة الطائفية والسياسية، وأخيراً الحفاظ على هوية الشعب الإسلامية وإعطاؤه حق تقرير المصير وفق هويته.
الغالبية الشعبية السورية ستؤيد مطالب كهذه. «أحرار الشام» ومعها «جيش الإسلام» يشكلان عماد الثورة السورية التي لولاها لما كان هناك دور لمثل هيثم مناع وصالح مسلم، ولاستطاع النظام القضاء على الثورة والبطش بهما أو إبقاءهما لاجئين خارج الوطن، وبالتالي فمن حق العالم الاستماع إلى هذين الفصيلين، خصوصاً بعد الزخم الذي حصلا عليه في المؤتمر، ما يجعل من السخف رفضهما وتصنيفهما جماعتين إرهابيتين من الغرب أو دول المنطقة.
لكن بالتأكيد سيرفضهم المعسكر الروسي والإيراني، وفي الغالب سيعطل مفاوضات الحكم الانتقالي التي – رغم غمغمة كيري – لا تعني غير بداية النهاية لنظام بشار، فهم يعلمون أن اللحظة التي يوقع فيها مندوب النظام على اتفاق يقول إن على النظام التخلي عن استئثاره بالسلطة وإشراك الثوار في إدارة انتقالية تنتهي بانتخابات حرة وبإشراف دولي، وقبل ذلك كله وقف إطلاق النار بقرار أممي، فسيبدأ انهيار النظام وخروج أزلامه وعوائلهم زرافات ووحداناً إلى قبرص ولبنان، فلا يبقى من يقاتل باسم الجمهورية العربية السورية سوى الإيرانيين والروس.
إذاً لماذا هذا المؤتمر وهذه المفاوضات؟ لنرسل صواريخ «مانباد» الآن إلى الثوار فوراً! قول ذلك أيضاً أسهل من فعله، إذ علينا جميعاً المضي في مسار «جنيف» و «فيينا» و «نيويورك»، فحلفاؤنا ليسوا على قلب رجل واحد، وعلينا المضي في طريق الأشواك هذا حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
الخبر الجيد أن الشعب السوري صامد، والسعودي صامد بصموده ومستعد لأن يدعمه بلا حدود و«مهما كلفنا الأمر»، كما قال الأمير محمد بن نايف لثوار أتوه من أرض الرباط الشامية.