«دعوشة» ضباط صدام حكاية مسلية تصلح لفيلم هوليوودي طويل. ففيها كل مكونات سينما المغامرات البوليسية. العسكرية. السياسية. المافيوية. العاطفية. وينقصها الراحل ألفريد هتشكوك مخرج المفاجآت غير المتوقعة، والألغاز الكثيرة.
تبدأ الحكاية بعد الحربين الخليجيتين (الحرب مع إيران. واجتياح الكويت). موهبة صدام الغريزية في حب البقاء. واعتبار كل تحرك خارج إرادته «مؤامرة» عليه، أقنعته بأن القومية العربية لم تعد حافز جذب، وعامل إغراء. فقد راحت الأجيال الجديدة تأخذ منحى دينيا، إثر غياب عبد الناصر بعد حرب (النكسة).
صدام يختلف عن السادات. وبورقيبة. والشاذلي بن جديد الذين أوكلوا إلى الإسلام «الإخواني» والمتزمت مهمة الدفاع عن أنظمتهم. فقد امتلك هو شخصيا تنظيما حزبيا زادته الحرب ولاء وعبادة لشخصية «البطل القائد». وبضربة مسرحية، قرر صدام «أسلمة» نظامه. فسرح حكومة سعدون حمادي القومي الليبرالي (1993). وأقصاه من قيادة الحزب، مهددا ورافضا ديمقراطيته «الغربية» كحل سلمي في مجتمع عراقي مأزوم.
في حذره اللامتناهي، لجأ صدام إلى التخلص من كبار ضباط جيشه الذين باتوا «نجوما بطولية» ينافسونه في كل بيت عراقي وعى قيادتهم البارعة للحرب مع إيران. واستدعت ذاكرته مقتل الرئيس الأسبق عبد السلام عارف، بحادث سقوط طائرته المروحية. سرح صدام «النجوم». ألزمهم بيوتهم. واستدعى «الهليكوبتر» للتخلص ممن بقي منهم في الخدمة. بادئا بوزير الدفاع عدنان طلفاح شقيق زوجته وابن خاله. تكرر سقوط المروحيات بالنجوم، إلى درجة لفتت انتباه الرئيس حسني مبارك آنذاك. فهمس في أذن صدام في أحد اللقاءات: «بلاش بأه حكاية الهليكوبتر دي».
بعد الاطمئنان إلى الانضباط والولاء في الحزب والجيش، أمر صدام نخبة الضباط والمدنيين الحزبيين، بالانخراط سرا في الثقافة الجديدة: قراءة دراسات وبحوث في الإسلام الحربي المتزمت. والإسلام الموروث عن السلف، والمصقول باجتهاد فقهاء القرون الوسطى خلال الحروب الصليبية التي استغرقت ثلاثة قرون. وللبرهنة على التغيير، خاط صدام الشعار الإسلامي الكبير (الله أكبر) على العلم العراقي.
جرد صدام زملاءه ووزراءه المدنيين من ملابسهم. وأجبرهم على ارتداء الزي العسكري الفاشي. مثل طارق عزيز، وطه ياسين رمضان. وهكذا، تمكن صدام من إطالة عمر نظامه اثنتي عشرة سنة، بعد الهزيمة في الكويت (1991).
تلقت فاشية نظام صدام الدينية ضربة قوية بحرب بوش على العراق (2003). لكن «فدائيي صدام» المتدينين عرقلوا تقدم الأميركيين في قاطع الناصرية الجنوبي. غير أن نجله عدي وكبار ضباطه جيشه ومخابراته، لم ينسفوا الجسور في الطريق إلى بغداد، كما كان في تخطيط قيادة التنظيم الديني. وكان مشهدا طريفا لوزير الإعلام محمد سعيد الصحاف وهو «يؤكد» هزيمة الغزاة، فيما كانت الدبابات الأميركية تتحرك في الصورة التلفزيونية خلفه في بغداد.
لم تكن الهزيمة العسكرية غائبة عن حسابات صدام. كان من الذكاء الغريزي، إلى حد التخطيط لإدامة المقاومة من دونه. أُعدم صدام. لكن «دعوشة» ضباطه وحزبه التي استغرقت عشر سنوات أبقت المقاومة مستمرة. بل انضمت إليها فصائل من العشائر السنية المقاتلة، و«القاعدة» بعد مقتل قائدها أبي مصعب الزرقاوي (2006).
أمضي في روايتي عن «أسلمة» نظام صدام، وعن نشأة «داعش» العراقية. فأتوقف عند ملابسات لجوء حسين كامل وزير الدفاع العراقي الأسبق، وشقيقه صدام كامل إلى الأردن (1995). فقد أدلى حسين بمعلومات سرية مذهلة في عمان، يبدو لي أنها لم تلق اهتماما يذكر لدى المخابرات الأميركية والعربية. ربما لأن «دعوشة» نظام صدام لم تكن ظاهرة خطيرة كما هي اليوم.
وعندما لم يجد حسين كامل من يكافئه على البوح بأسرار «دعوشة» نظام صدام. وفي حسبانه الساذج أن يكون بديلا له، فقد قفل راجعا إلى «كنف» صدام مع شقيقه، ظنا منه أن زوجته وزوجة شقيقه، وكلتاهما ابنتان أثيرتان لدى أبيهما صدام، ستكفلان لهما الوقاية من غضبه. وكان ظنه أيضا خاطئا وساذجا. فقد قتل هو. وشقيقه. ووالده. وأقرباء له في عشيرته التي هي أيضا عشيرة صدام.
وأضيف هنا أن الـ«سي آي إيه» كانت مشغولة عن حسين كامل بـ«المؤامرة» الانقلابية ضد صدام التي ورطت بها ضباط تنظيم «الوفاق الوطني العراقي» اللاجئ إلى الأردن. وأسندت تنفيذ المؤامرة إلى شخصية مدنية معارضة منشقة عن بعث صدام (1995).
الطريف أن أقول إن هذه «المؤامرة» كانت في الواقع انتقاما لـ«مؤامرة» انقلابية أميركية أخرى فاشلة، تورط بها تنظيم «المؤتمر الوطني العراقي» الكردي/ العربي اللاجئ إلى أربيل (كردستان العراق).
للدلالة على قوة التنظيم الداعشي/ الصدامي، أذكر أن عملاء جهاز «الأمن العام» المرتبط بالتنظيم كانوا قد اخترقوا التنظيمين الانقلابيين المذكورين. وتمكنوا من القبض على مائة ضابط من تنظيم «الوفاق». فأعدمهم صدام (1996).
بعد ذلك، اقتحمت قوات صدام كردستان العراق، مستفيدة من الاقتتال الدامي بين حزبي جلال طالباني ومسعود بارزاني. فانحازت إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي سمح لها بمهاجمة ونسف مركز تنظيم «المؤتمر». فقتل أيضا نحو مائة من ضباط التنظيم المنشق أكرادا وعربا، في العام ذاته.
يكفي أن أذكر هنا أن «الأمن العام» كان جهاز النخبة المخابراتية الصدامية/ الداعشية. وقد أمر صدام قبيل الغزو الأميركي كبار ضباط الجهاز بحله. وتشكيل خلايا نائمة يمكن تحريكها ضد قوات الاحتلال وعملائه. وهذا ما يحدث منذ «الانتفاضة» الداعشية/ الصدامية في الموصل (يونيو/ حزيران 2014).
والآن، من يحكم داعش/ الصدامية؟ هل هو «الخليفة» الخفي أبو بكر البغدادي؟ أم «الحجي» عزة الدوري شيخ مشايخ جناح النقشبندية الصوفية في حزب البعث العراقي؟ يبدو لي أن جناح «الدواعش» بات هو الأقوى، بعد وصول ألوف المهووسين المتزمتين من أوروبا. وآسيا الوسطى. والقوقاز. وتونس. ومصر. والخليج. والدليل أن طابع العنف الوحشي المروع هو السائد في «الجنة» الداعشية.
ضعف الثقافة السياسية لدى الضباط الصداميين من متوسطي الرتب، هو الذي جعلهم يراهنون على تنظيم أكثر بشاعة وقسوة من نظام صدام، مدفوعين بحافز الانتقام، مما أنزله بهم وبالسنة النظام الشيعي تحت المظلة الإيرانية، من ملاحقة. واعتقال. واغتيال. وقد مضى على كبيرهم الفريق أول سلطان هاشم أحمد وزير الدفاع الأسبق أكثر من عشر سنين في السجن، محكوما بالإعدام في عهد نوري المالكي. وهذا الضابط الكبير مشهود له بالكفاءة. والنزاهة. وعدم التورط بارتكابات نظام صدام.
ضيع حزب البعث العراقي فرصة تاريخية، بإقصاء حكومة الراحل سعدون حمادي. فلم تسمح له «داعشية» صدام، بإرساء نظام مدني متصالح مع العراقيين، بحيث يستطيع طي الصفحة الصدامية السوداء في تاريخه، بمراجعة ذاتية للمسيرة الحزبية، تجنبه انحرافات الماضي. ولا شك أن النظام العراقي الراهن يملك الفرصة الأخيرة لإنقاذ العراق من التفتت والتقسيم، إذا ما استطاع رئيس حكومته حيدر العبادي أن ينفذ وعوده بإنصاف السنة، والكف عن رؤية المشهد السياسي بنظارات إيرانية، خوفا من «الحجي» الآخر قاسم سليماني الذي يحتفظ لنفسه بمكتب بجوار مكتب العبادي، في المنطقة الخضراء في العاصمة العربية بغداد.
نقلا عن الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- #سورية الثورة وتحديات المرحلة.. وخطر #ملالي_طهرانبقلم مفكر حر
- #خامنئي يتخبط في مستنقع الهزيمة الفاضحة في #سوريابقلم مفكر حر
- العد التنازلي والمصير المتوقع لنظام الكهنة في #إيران؛ رأس الأفعى في إيران؟بقلم مفكر حر
- #ملالي_طهران وحُلم إمبراطورية #ولاية_الفقيه في المنطقة؟بقلم مفكر حر
- بصيص ضوء على كتاب موجز تاريخ الأدب الآشوري الحديثبقلم آدم دانيال هومه
- آشور بانيبال يوقد جذوة الشمسبقلم آدم دانيال هومه
- المرأة العراقية لا يختزل دورها بثلة من الفاشينيستاتبقلم مفكر حر
- أفكار شاردة من هنا هناك/60بقلم مفكر حر
- اصل الحياةبقلم صباح ابراهيم
- سوء الظّن و كارثة الحكم على المظاهر…بقلم مفكر حر
- مشاعل الطهارة والخلاصبقلم آدم دانيال هومه
- كلمة #السفير_البابوي خلال اللقاء الذي جمع #رؤوساء_الطوائف_المسيحية مع #المبعوث_الأممي.بقلم مفكر حر
- #تركيا تُسقِط #الأسد؛ وتقطع أذرع #الملالي في #سوريا و #لبنان…!!! وماذا بعدك يا سوريا؟بقلم مفكر حر
- نشاط #الموساد_الإسرائيلي في #إيرانبقلم صباح ابراهيم
- #الثورة_السورية وضرورات المرحلةبقلم مفكر حر
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟بقلم مفكر حر
- تلغراف: تأثير #الدومينو علی #ملالي_إيران وتحولات السياسة الغربيةبقلم حسن محمودي
- الميلاد آتٍبقلم مفكر حر
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #سورية الثورة وتحديات المرحلة.. وخطر #ملالي_طهران
أحدث التعليقات
- عبد يهوه on اسم الله الأعظم في القرآن بالسريانية יהוה\ܝܗܘܗ سنابات لؤي الشريف
- عبد يهوه on اسم الله الأعظم في القرآن بالسريانية יהוה\ܝܗܘܗ سنابات لؤي الشريف
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر